الصفحة 1الصفحة 2
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْسورة محمد الآية رقم 31
أَيْ نَتَعَبَّدكُمْ بِالشَّرَائِعِ وَإِنْ عَلِمْنَا عَوَاقِب الْأُمُور . وَقِيلَ : لَنُعَامِلَنَّكُمْ مُعَامَلَة الْمُخْتَبَرِينَ .

عَلَيْهِ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : " حَتَّى نَعْلَم " حَتَّى نُمَيِّز . وَقَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . " حَتَّى نَعْلَم " حَتَّى نَرَى . وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة " . وَقِرَاءَة الْعَامَّة بِالنُّونِ فِي " نَبْلُوَنَّكُمْ " و " نَعْلَم " " وَنَبْلُو " . وَقَرَأَ أَبُو بَكْر عَنْ عَاصِم بِالْيَاءِ فِيهِنَّ . وَرَوَى رُوَيْس عَنْ يَعْقُوب إِسْكَان الْوَاو مِنْ " نَبْلُو " عَلَى الْقَطْع مِمَّا قَبْل . وَنَصَبَ الْبَاقُونَ رَدًّا عَلَى قَوْله : " حَتَّى نَعْلَم " . وَهَذَا الْعِلْم هُوَ الْعِلْم الَّذِي يَقَع بِهِ الْجَزَاء ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ لَا بِعِلْمِهِ الْقَدِيم عَلَيْهِمْ . فَتَأْوِيله : حَتَّى نَعْلَم الْمُجَاهِدِينَ عِلْم شَهَادَة ; لِأَنَّهُمْ إِذَا أُمِرُوا بِالْعَمَلِ يَشْهَد مِنْهُمْ مَا عَمِلُوا , فَالْجَزَاء بِالثَّوَابِ وَالْعِقَاب يَقَع عَلَى عِلْم الشَّهَادَة .

نَخْتَبِرهَا وَنُظْهِرهَا . قَالَ إِبْرَاهِيم بْن الْأَشْعَث : كَانَ الْفُضَيْل بْن عِيَاض إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَة بَكَى وَقَالَ : اللَّهُمَّ لَا تَبْتَلِنَا فَإِنَّك إِذَا بَلَوْتنَا فَضَحْتنَا وَهَتَكْت أَسْتَارنَا .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْسورة محمد الآية رقم 32
يَرْجِع إِلَى الْمُنَافِقِينَ أَوْ إِلَى الْيَهُود . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : هُمْ الْمُطْعِمُونَ يَوْم بَدْر . نَظِيرهَا : " إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالهمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيل اللَّه " [ الْأَنْفَال : 36 ] الْآيَة .

أَيْ عَادُوهُ وَخَالَفُوهُ .

أَيْ عَلِمُوا أَنَّهُ نَبِيّ بِالْحُجَجِ وَالْآيَات .

بِكُفْرِهِمْ

أَيْ ثَوَاب مَا عَمِلُوهُ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْسورة محمد الآية رقم 33
لَمَّا بَيَّنَ حَال الْكُفَّار أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِلُزُومِ الطَّاعَة فِي أَوَامِره وَالرَّسُول فِي سُنَنه .

أَيْ حَسَنَاتكُمْ بِالْمَعَاصِي , قَالَهُ الْحَسَن . وَقَالَ الزُّهْرِيّ : بِالْكَبَائِرِ . اِبْن جُرَيْج : بِالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَة . وَقَالَ مُقَاتِل وَالثُّمَالِيّ : بِالْمَنِّ , وَهُوَ خِطَاب لِمَنْ كَانَ يَمُنّ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْلَامِهِ . وَكُلّه مُتَقَارِب , وَقَوْل الْحَسَن يَجْمَعهُ . وَفِيهِ إِشَارَة إِلَى أَنَّ الْكَبَائِر تُحْبِط الطَّاعَات , وَالْمَعَاصِي تُخْرِج عَنْ الْإِيمَان .

اِحْتَجَّ عُلَمَاؤُنَا وَغَيْرهمْ بِهَذِهِ الْآيَة عَلَى أَنَّ التَّحَلُّل مِنْ التَّطَوُّع - صَلَاة كَانَ أَوْ صَوْمًا - بَعْد التَّلَبُّس بِهِ لَا يَجُوز ; لِأَنَّ فِيهِ إِبْطَال الْعَمَل وَقَدْ نَهَى اللَّه عَنْهُ . وَقَالَ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ - وَهُوَ الْإِمَام الشَّافِعِيّ وَغَيْره - : الْمُرَاد بِذَلِكَ إِبْطَال ثَوَاب الْعَمَل الْمَفْرُوض , فَنَهَى الرَّجُل عَنْ إِحْبَاط ثَوَابه . فَأَمَّا مَا كَانَ نَفْلًا فَلَا ; لِأَنَّهُ لَيْسَ وَاجِبًا عَلَيْهِ . فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّ اللَّفْظ عَامّ فَالْعَامّ يَجُوز تَخْصِيصه أَنَّ النَّفْل تَطَوُّع , وَالتَّطَوُّع يَقْتَضِي تَخْبِيرًا . وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَة كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يَضُرّ مَعَ الْإِسْلَام ذَنْب , حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فَخَافُوا الْكَبَائِر أَنْ تُحْبِط الْأَعْمَال . وَقَالَ مُقَاتِل : يَقُول اللَّه تَعَالَى إِذَا عَصَيْتُمْ الرَّسُول فَقَدْ أَبْطَلْتُمْ أَعْمَالكُمْ
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْسورة محمد الآية رقم 34
بَيَّنَ أَنَّ الِاعْتِبَار بِالْوَفَاةِ عَلَى الْكُفْر يُوجِب الْخُلُود فِي النَّار . وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة " الْكَلَام فِيهِ . وَقِيلَ : إِنَّ الْمُرَاد بِالْآيَةِ أَصْحَاب الْقَلِيب . وَحُكْمهَا عَامّ .
فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْسورة محمد الآية رقم 35
أَيْ تَضْعُفُوا عَنْ الْقِتَال . وَالْوَهْن : الضَّعْف وَقَدْ وَهَنَ الْإِنْسَان وَوَهَنَهُ غَيْره , يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى . قَالَ : إِنَّنِي لَسْت بِمَوْهُونٍ فَقِرْ وَوَهِنَ أَيْضًا ( بِالْكَسْرِ ) وَهْنًا أَيْ ضَعُفَ , وَقُرِئَ " فَمَا وَهِنُوا " بِضَمِّ الْهَاء وَكَسْرهَا . وَقَدْ مَضَى فِي ( آل عِمْرَان ) .

أَيْ الصُّلْح .

أَيْ وَأَنْتُمْ أَعْلَم بِاَللَّهِ مِنْهُمْ . وَقِيلَ : وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ فِي الْحُجَّة . وَقِيلَ : الْمَعْنَى وَأَنْتُمْ الْغَالِبُونَ لِأَنَّكُمْ مُؤْمِنُونَ وَإِنْ غَلَبُوكُمْ فِي الظَّاهِر فِي بَعْض الْأَحْوَال . وَقَالَ قَتَادَة : لَا تَكُونُوا أَوَّل الطَّائِفَتَيْنِ ضَرَعَتْ إِلَى صَاحِبَتهَا .

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي حُكْمهَا , فَقِيلَ : إِنَّهَا نَاسِخَة لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا " [ الْأَنْفَال : 61 ] ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى مَنَعَ مِنْ الْمَيْل إِلَى الصُّلْح إِذَا لَمْ يَكُنْ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَة إِلَى الصُّلْح . وَقِيلَ : مَنْسُوخَة بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا " . وَقِيلَ : هِيَ مُحْكَمَة . وَالْآيَتَانِ نَزَلَتَا فِي وَقْتَيْنِ مُخْتَلِفَيْ الْحَال . وَقِيلَ : إِنَّ قَوْله : " وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا " مَخْصُوص فِي قَوْم بِأَعْيَانِهِمْ , وَالْأُخْرَى عَامَّة . فَلَا يَجُوز مُهَادَنَة الْكُفَّار إِلَّا عِنْد الضَّرُورَة , وَذَلِكَ إِذَا عَجَزْنَا عَنْ مُقَاوَمَتهمْ لِضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ . وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى مُسْتَوْفًى .

أَيْ بِالنَّصْرِ وَالْمَعُونَة , مِثْل : " وَإِنَّ اللَّه لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ " [ الْعَنْكَبُوت : 69 ]

أَيْ لَنْ يُنْقِصكُمْ , عَنْ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره . وَمِنْهُ الْمَوْتُور الَّذِي قُتِلَ لَهُ قَتِيل فَلَمْ يُدْرَك بِدَمِهِ , تَقُول مِنْهُ : وَتَرَهُ يَتِرهُ وَتْرًا وَتِرَة . وَمِنْهُ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : [ مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاة الْعَصْر فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْله وَمَاله ] أَيْ ذَهَبَ بِهِمَا . وَكَذَلِكَ وَتَرَهُ حَقّه أَيْ نَقَصَهُ . وَقَوْله تَعَالَى : " وَلَنْ يَتِركُمْ أَعْمَالكُمْ " أَيْ لَنْ يَنْتَقِصكُمْ فِي أَعْمَالكُمْ , كَمَا تَقُول : دَخَلْت الْبَيْت , وَأَنْتَ تُرِيد فِي الْبَيْت , قَالَهُ الْجَوْهَرِيّ . الْفَرَّاء : " وَلَنْ يَتِركُمْ " هُوَ مُشْتَقّ مِنْ الْوَتْر وَهُوَ الْفَرْد , فَكَانَ الْمَعْنَى : وَلَنْ يُفْرِدكُمْ بِغَيْرِ ثَوَاب .
إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْسورة محمد الآية رقم 36
أَيْ لِقِصَرِ مُدَّتهَا كَمَا قَالَ : أَلَا إِنَّمَا الدُّنْيَا كَأَحْلَامِ نَائِم وَمَا خَيْر عَيْش لَا يَكُون بِدَائِمِ تَأَمَّلْ إِذَا مَا نِلْت بِالْأَمْسِ لَذَّة فَأَفْنَيْتهَا هَلْ أَنْتَ إِلَّا كَحَالِمِ وَقَالَ آخَر : فَاعْمَلْ عَلَى مَهْل فَإِنَّك مَيِّت وَاكْدَحْ لِنَفْسِك أَيّهَا الْإِنْسَان فَكَأَنَّ مَا قَدْ كَانَ لَمْ يَكُ إِذْ مَضَى وَكَأَنَّ مَا هُوَ كَائِن قَدْ كَانَا وَقِيلَ : الْمَعْنَى مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا لَعِب وَلَهْو ; أَيْ الَّذِي يَشْتَهُوهُ فِي الدُّنْيَا لَا عَاقِبَة لَهُ , فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اللَّعِب وَاللَّهْو . وَنَظَرَ سُلَيْمَان بْن عَبْد اللَّه فِي الْمِرْآة فَقَالَ : أَنَا الْمَلِك الشَّابّ ; فَقَالَتْ لَهُ جَارِيَة لَهُ : أَنْتَ نِعْمَ الْمَتَاع لَوْ كُنْت تَبْقَى غَيْر أَنْ لَا بَقَاء لِلْإِنْسَانِ لَيْسَ فِيمَا بَدَا لَنَا مِنْك عَيْب كَانَ فِي النَّاس غَيْر أَنَّك فَانِي وَقِيلَ : مَعْنَى " لَعِب وَلَهْو " بَاطِل وَغُرُور , كَمَا قَالَ : " وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاع الْغُرُور " " آل عِمْرَان : 185 ] فَالْمَقْصِد بِالْآيَةِ تَكْذِيب الْكُفَّار فِي قَوْلهمْ : " إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتنَا الدُّنْيَا " وَاللَّعِب مَعْرُوف , وَالتِّلْعَابَة الْكَثِير اللَّعِب , وَالْمَلْعَب مَكَان اللَّعِب ; يُقَال : لَعِبَ يَلْعَب . وَاللَّهْو أَيْضًا مَعْرُوف , وَكُلّ مَا شَغَلَك فَقَدْ أَلْهَاك , وَلَهَوْت مِنْ اللَّهْو , وَقِيلَ : أَصْله الصَّرْف عَنْ الشَّيْء ; مِنْ قَوْلهمْ : لُهِيت عَنْهُ ; قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَفِيهِ بُعْد ; لِأَنَّ الَّذِي مَعْنَاهُ الصَّرْف لَامه يَاء بِدَلِيلِ قَوْلهمْ : لِهْيَان , وَلَام الْأَوَّل وَاو .

لَيْسَ مِنْ اللَّهْو وَاللَّعِب مَا كَانَ مِنْ أُمُور الْآخِرَة , فَإِنَّ حَقِيقَة اللَّعِب مَا لَا يُنْتَفَع بِهِ وَاللَّهْو مَا يُلْتَهَى بِهِ , وَمَا كَانَ مُرَادًا لِلْآخِرَةِ خَارِج عَنْهُمَا , وَذَمَّ رَجُل الدُّنْيَا عِنْد عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقَالَ عَلِيّ : الدُّنْيَا دَار صِدْق لِمَنْ صَدَقَهَا , وَدَار نَجَاة لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا , وَدَار غِنًى لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا . وَقَالَ مَحْمُود الْوَرَّاق : لَا تُتْبِع الدُّنْيَا وَأَيَّامهَا ذَمًّا وَإِنْ دَارَتْ بِك الدَّائِرَه مِنْ شَرَف الدُّنْيَا وَمِنْ فَضْلهَا أَنَّ بِهَا تُسْتَدْرَك الْآخِرَه وَرَوَى أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ , قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ الدُّنْيَا مَلْعُونَة مَلْعُون مَا فِيهَا إِلَّا مَا كَانَ فِيهَا مِنْ ذِكْر اللَّه أَوْ أَدَّى إِلَى ذِكْر اللَّه وَالْعَالِم وَالْمُتَعَلِّم شَرِيكَانِ فِي الْأَجْر وَسَائِر النَّاس هَمَج لَا خَيْر فِيهِ ] وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَقَالَ : حَدِيث حَسَن غَرِيب . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ [ مِنْ هَوَان الدُّنْيَا عَلَى اللَّه أَلَّا يُعْصَى إِلَّا فِيهَا وَلَا يُنَال مَا عِنْده إِلَّا بِتَرْكِهَا ] . وَرَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ سَهْل بْن سَعْد قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِل عِنْد اللَّه جَنَاح بَعُوضَة مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَة مَاء ] . وَقَالَ الشَّاعِر : تَسَمَّعْ مِنْ الْأَيَّام إِنْ كُنْت حَازِمًا فَإِنَّك مِنْهَا بَيْن نَاهٍ وَآمِر إِذَا أَبْقَتْ الدُّنْيَا عَلَى الْمَرْء دِينه فَمَا فَاتَ مِنْ شَيْء فَلَيْسَ بِضَائِرِ وَلَنْ تَعْدِل الدُّنْيَا جَنَاح بَعُوضَة وَلَا وَزْن زَفّ مِنْ جَنَاح لِطَائِرِ فَمَا رَضِيَ الدُّنْيَا ثَوَابًا لِمُؤْمِنِ وَلَا رَضِيَ الدُّنْيَا جَزَاء لِكَافِرِ وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : هَذِهِ حَيَاة الْكَافِر لِأَنَّهُ يُزْجِيهَا فِي غُرُور وَبَاطِل , فَأَمَّا حَيَاة الْمُؤْمِن فَتَنْطَوِي عَلَى أَعْمَال صَالِحَة , فَلَا تَكُون لَهْوًا وَلَعِبًا .

شَرْط وَجَوَابه .

أَيْ لَا يَأْمُركُمْ بِإِخْرَاجِ جَمِيعهَا فِي الزَّكَاة , بَلْ أَمَرَ بِإِخْرَاجِ الْبَعْض , قَالَهُ ابْن عُيَيْنَة وَغَيْره . وَقِيلَ : " لَا يَسْأَلكُمْ أَمْوَالكُمْ " لِنَفْسِهِ أَوْ لِحَاجَةٍ مِنْهُ إِلَيْهَا , إِنَّمَا يَأْمُركُمْ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيله لِيَرْجِع ثَوَابه إِلَيْكُمْ . وَقِيلَ : " لَا يَسْأَلكُمْ أَمْوَالكُمْ " إِنَّمَا يَسْأَلكُمْ أَمْوَاله ; لِأَنَّهُ الْمَالِك لَهَا وَهُوَ الْمُنْعِم بِإِعْطَائِهَا . وَقِيلَ : وَلَا يَسْأَلكُمْ مُحَمَّد أَمْوَالكُمْ أَجْرًا عَلَى تَبْلِيغ الرِّسَالَة . نَظِيره : " قُلْ مَا أَسْأَلكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر " [ الْفُرْقَان : 57 ] الْآيَة .
إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْسورة محمد الآية رقم 37
يُلِحّ عَلَيْكُمْ , يُقَال : أَحْفَى بِالْمَسْأَلَةِ وَأَلْحَفَ وَأَلَحَّ بِمَعْنًى وَاحِد . وَالْحَفِيّ الْمُسْتَقْصِي فِي السُّؤَال , وَكَذَلِكَ الْإِحْفَاء الِاسْتِقْصَاء فِي الْكَلَام وَالْمُنَازَعَة . وَمِنْهُ أَحْفَى شَارِبه أَيْ اِسْتَقْصَى فِي أَخْذه .

أَيْ يُخْرِج الْبُخْل أَضْغَانكُمْ . قَالَ قَتَادَة : قَدْ عَلِمَ اللَّه أَنَّ فِي سُؤَال الْمَال خُرُوج الْأَضْغَان . وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَابْن مُحَيْصِن وَحُمَيْد " وَتَخْرُج " بِتَاءٍ مَفْتُوحَة وَرَاء مَضْمُومَة . " أَضْغَانكُمْ " بِالرَّفْعِ لِكَوْنِهِ الْفَاعِل . وَرَوَى الْوَلِيد عَنْ يَعْقُوب الْحَضْرَمِيّ " وَنُخْرِج " بِالنُّونِ . وَأَبُو مَعْمَر عَنْ عَبْد الْوَارِث عَنْ أَبِي عَمْرو " وَيُخْرِج " بِالرَّفْعِ فِي الْجِيم عَلَى الْقَطْع وَالِاسْتِئْنَاف وَالْمَشْهُور عَنْهُ " وَيُخْرِج " كَسَائِرِ الْقُرَّاء , عَطْف عَلَى مَا تَقَدَّمَ .
هَاأَنتُمْ هَؤُلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْسورة محمد الآية رقم 38
أَيْ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ تُدْعَوْنَ

أَيْ فِي الْجِهَاد وَطَرِيق الْخَيْر .

أَيْ عَلَى نَفْسه , أَيْ يَمْنَعهَا الْأَجْر وَالثَّوَاب .

أَيْ إِنَّهُ لَيْسَ بِمُحْتَاجٍ إِلَى أَمْوَالكُمْ .

إِلَيْهَا .


أَيْ أَطْوَع لِلَّهِ مِنْكُمْ . رَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ أَبَى هُرَيْرَة قَالَ : تَلَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَة " وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِل قَوْمًا غَيْركُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالكُمْ " قَالُوا : وَمَنْ يَسْتَبْدِل بِنَا ؟ قَالَ : فَضَرَبَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْكِب سَلْمَان ثُمَّ قَالَ : [ هَذَا وَقَوْمه . هَذَا وَقَوْمه ] قَالَ : حَدِيث غَرِيب فِي إِسْنَاده مَقَال . وَقَدْ رَوَى عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر بْن نَجِيح وَالِد عَلِيّ بْن الْمَدِينِيّ أَيْضًا هَذَا الْحَدِيث عَنْ الْعَلَاء بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ أَنَس مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا رَسُول اللَّه , مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّه إِنْ تَوَلَّيْنَا اُسْتُبْدِلُوا ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالنَا ؟ قَالَ : وَكَانَ سَلْمَان جَنْب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فَضَرَبَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخِذ سَلْمَان , قَالَ : [ هَذَا وَأَصْحَابه . وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ الْإِيمَان مَنُوطًا بِالثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ رِجَال مِنْ فَارِس ] . وَقَالَ الْحَسَن : هُمْ الْعَجَم . وَقَالَ عِكْرِمَة : هُمْ فَارِس وَالرُّوم . قَالَ الْمُحَاسِبِيّ : فَلَا أَحَد بَعْد الْعَرَبِيّ مِنْ جَمِيع أَجْنَاس الْأَعَاجِم أَحْسَن دِينًا , وَلَا كَانَتْ الْعُلَمَاء مِنْهُمْ إِلَّا الْفُرْس . وَقِيلَ : إِنَّهُمْ الْيَمَن , وَهُمْ الْأَنْصَار , قَالَهُ شُرَيْح بْن عُبَيْد . وَكَذَا قَالَ اِبْن عَبَّاس : هُمْ الْأَنْصَار . وَعَنْهُ أَنَّهُمْ الْمَلَائِكَة . وَعَنْهُ هُمْ التَّابِعُونَ . وَقَالَ مُجَاهِد : إِنَّهُمْ مَنْ شَاءَ مِنْ سَائِر النَّاس .

قَالَ الطَّبَرِيّ : أَيْ فِي الْبُخْل بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيل اللَّه . وَحُكِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فَرِحَ بِهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : [ هِيَ أَحَبّ إِلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا ] . وَاَللَّه أَعْلَم . خُتِمَتْ السُّورَة بِحَمْدِ اللَّه وَعَوْنه , وَصَلَّى اللَّه عَلَى سَيِّدنَا مُحَمَّد , وَعَلَى آله وَصَحْبه الْأَطْهَار .
الصفحة 1الصفحة 2