الصفحة 1الصفحة 2
وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍسورة الشورى الآية رقم 31
أَيْ بِفَائِتِينَ اللَّه ; أَيْ لَنْ تَعْجِزُوهُ وَلَنْ تَفُوتُوهُ " وَمَا لَكُمْ مِنْ دُون اللَّه مِنْ وَلِيّ وَلَا نَصِير " تَقَدَّمَ فِي غَيْر مَوْضِع .
وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِسورة الشورى الآية رقم 32
أَيْ وَمِنْ عَلَامَاته الدَّالَّة عَلَى قُدْرَته السُّفُن الْجَارِيَة فِي الْبَحْر كَأَنَّهَا مِنْ عِظَمهَا أَعْلَام . وَالْأَعْلَام : الْحِبَال , وَوَاحِد الْجَوَارِي جَارِيَة , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَة " [ الْحَاقَّة : 11 ] . سُمِّيَتْ جَارِيَة لِأَنَّهَا تَجْرِي فِي الْمَاء . وَالْجَارِيَة : هِيَ الْمَرْأَة الشَّابَّة ; سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا يَجْرِي فِيهَا مَاء الشَّبَاب . وَقَالَ مُجَاهِد : الْأَعْلَام الْقُصُور , وَاحِدهَا عَلَم ; ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ . وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيّ عَنْهُ أَنَّهَا الْجِبَال . وَقَالَ الْخَلِيل : كُلّ شَيْء مُرْتَفِع عِنْد الْعَرَب فَهُوَ عَلَم . قَالَتْ الْخَنْسَاء تَرْثِي أَخَاهَا صَخْرًا : وَإِنَّ صَخْرًا لِتَأْتَمّ الْهُدَاة بِهِ كَأَنَّهُ عَلَم فِي رَأْسه نَار
إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍسورة الشورى الآية رقم 33
كَذَا قَرَأَهُ أَهْل الْمَدِينَة " الرِّيَاح " بِالْجَمْعِ .

أَيْ فَتَبْقَى السُّفُن سَوَاكِن عَلَى ظَهْر الْبَحْر لَا تَجْرِي . رَكَدَ الْمَاء رُكُودًا سَكَنَ . وَكَذَلِكَ الرِّيح وَالسَّفِينَة , وَالسَّفِينَة , وَالشَّمْس إِذَا قَامَ قَائِم الظَّهِيرَة . وَكُلّ ثَابِت فِي مَكَان فَهُوَ رَاكِد . وَرَكَدَ الْمِيزَان اِسْتَوَى . وَرَكَدَ الْقَوْم هَدَءُوا . وَالْمَرَاكِد : الْمَوَاضِع الَّتِي يَرْكُد فِيهَا الْإِنْسَان وَغَيْره . وَقَرَأَ قَتَادَة " فَيَظْلِلْنَ " بِكَسْرِ اللَّام الْأُولَى عَلَى أَنْ يَكُون لُغَة , مِثْل ضَلَلْت أَضِلّ . وَفَتَحَ اللَّام وَهِيَ اللُّغَة الْمَشْهُورَة .

أَيْ دَلَالَات وَعَلَامَات

أَيْ صَبَّار عَلَى الْبَلْوَى شَكُور عَلَى النَّعْمَاء . قَالَ قُطْرُب : نِعْمَ الْعَبْد الصَّبَّار الشَّكُور , الَّذِي إِذَا أُعْطِيَ شَكَرَ وَإِذَا اُبْتُلِيَ صَبَرَ . قَالَ عَوْن بْن عَبْد اللَّه : فَكَمْ مِنْ مُنْعِم عَلَيْهِ غَيْر شَاكِر , وَكَمْ مِنْ مُبْتَلًى غَيْر صَابِر .
أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍسورة الشورى الآية رقم 34
أَيْ وَإِنْ يَشَأْ يَجْعَل الرِّيَاح عَوَاصِف فَيُوبِق السُّفُن أَيْ يُغْرِقهُنَّ بِذُنُوبِ أَهْلهَا . وَقِيلَ : يُوبِق أَهْل السُّفُن .

مِنْ أَهْلهَا فَلَا يُغْرِقهُمْ مَعَهَا ; حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ . وَقِيلَ : " وَيَعْفُو عَنْ كَثِير " أَيْ وَيَتَجَاوَز عَنْ كَثِير مِنْ الذُّنُوب فَيُنَجِّيهِمْ اللَّه مِنْ الْهَلَاك . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَالْقِرَاءَة الْفَاشِيَة " وَيَعْفُ " بِالْجَزْمِ , وَفِيهَا إِشْكَال ; لِأَنَّ الْمَعْنَى : إِنْ يَشَأْ يُسْكِن الرِّيح فَتَبْقَى تِلْكَ السُّفُن رَوَاكِد وَيُهْلِكهَا بِذُنُوبِ أَهْلهَا , فَلَا يَحْسُن عَطْف " يَعْفُ " عَلَى هَذَا لِأَنَّهُ يَصِير الْمَعْنَى : إِنْ يَشَأْ يَعْفُ , وَلَيْسَ الْمَعْنَى ذَلِكَ بَلْ الْمَعْنَى الْإِخْبَار عَنْ الْعَفْو مِنْ غَيْر شَرْط الْمَشِيئَة فَهُوَ إِذَا عَطَفَ عَلَى الْمَجْزُوم مِنْ حَيْثُ اللَّفْظ لَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى . وَقَدْ قَرَأَ قَوْم " وَيَعْفُو " بِالرَّفْعِ , وَهِيَ جَيِّدَة فِي الْمَعْنَى .
وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍسورة الشورى الآية رقم 35
يَعْنِي الْكُفَّار ; أَيْ إِذَا تَوَسَّطُوا الْبَحْر وَغَشِيَتْهُمْ الرِّيَاح مِنْ كُلّ مَكَان أَوْ بَقِيَتْ السُّفُن رَوَاكِد عَلِمُوا أَنَّهُ لَا مَلْجَأ لَهُمْ سِوَى اللَّه , وَلَا دَافِع لَهُمْ إِنْ أَرَادَ اللَّه إِهْلَاكهمْ فَيُخْلِصُونَ لَهُ الْعِبَادَة وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْر مَوْضِع وَمَضَى الْقَوْل فِي رُكُوب الْبَحْر فِي " الْبَقَرَة " وَغَيْرهَا بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَته . وَقَرَأَ نَافِع وَابْن عَامِر " وَيَعْلَم " بِالرَّفْعِ , الْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ . فَالرَّفْع عَلَى الِاسْتِئْنَاف بَعْد الشَّرْط وَالْجَزَاء ; كَقَوْلِهِ فِي سُورَة التَّوْبَة : " وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُركُمْ عَلَيْهِمْ " [ التَّوْبَة : 14 ] ثُمَّ قَالَ : " وَيَتُوب اللَّه عَلَى مَنْ يَشَاء " [ التَّوْبَة : 15 ] رَفْعًا . وَنَظِيره فِي الْكَلَام : إِنْ تَأْتِنِي آتِك وَيَنْطَلِق عَبْد اللَّه . أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَر اِبْتِدَاء مَحْذُوف . وَالنَّصْب عَلَى الصَّرْف ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَلَمَّا يَعْلَم اللَّه الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَم الصَّابِرِينَ " [ آل عِمْرَان : 142 ] صُرِفَ مِنْ حَال الْجَزْم إِلَى النَّصْب اِسْتِخْفَافًا كَرَاهِيَة لِتَوَالِي الْجَزْم ; كَقَوْلِ النَّابِغَة : فَإِنْ يَهْلِك أَبُو قَابُوس يَهْلِك رَبِيع النَّاس وَالشَّهْر الْحَرَام وَيُمْسِك بَعْده بِذِنَابِ عَيْش أَجَبَّ الظَّهْر لَيْسَ لَهُ سَنَام وَهَذَا مَعْنَى قَوْل الْفَرَّاء , قَالَ : وَلَوْ جَزَمَ " وَيَعْلَم " جَازَ . وَقَالَ الزَّجَّاج : نُصِبَ عَلَى إِضْمَار " أَنْ " لِأَنَّ قَبْلهَا جَزْمًا ; تَقُول : مَا تَصْنَع أَصْنَع مِثْله وَأُكْرِمك وَإِنْ شِئْت قُلْت . وَأُكْرِمك بِالْجَزْمِ . وَفِي بَعْض الْمَصَاحِف " وَلِيَعْلَم " . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ النَّصْب بِمَعْنَى : وَلِيَعْلَم أَوْ لِأَنْ يَعْلَم . وَقَالَ أَبُو عَلِيّ وَالْمُبَرِّد : النَّصْب بِإِضْمَارِ " أَنْ " عَلَى أَنْ يَجْعَل الْأَوَّل فِي تَقْدِير الْمَصْدَر ; أَيْ وَيَكُون مِنْهُ عَفْو وَأَنْ يَعْلَم فَلَمَّا حَمَلَهُ . عَلَى الِاسْم أَضْمَرَ أَنْ , كَمَا تَقُول : إِنْ تَأْتِنِي وَتُعْطِينِي أُكْرِمك , فَتَنْصِب تُعْطِينِي ; أَيْ إِنْ يَكُنْ مِنْك إِتْيَان وَأَنْ تُعْطِينِي . وَمَعْنَى " مِنْ مَحِيص " أَيْ مِنْ فِرَار وَمَهْرَب ; قَالَهُ قُطْرُب السُّدِّيّ : مِنْ مَلْجَأ وَهُوَ مَأْخُوذ مِنْ قَوْلهمْ : حَاصَ بِهِ الْبَعِير حَيْصَة إِذَا رَمَى بِهِ . وَمِنْهُ قَوْلهمْ : فُلَان يَحِيص عَنْ الْحَقّ أَيْ يَمِيل عَنْهُ .
فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَسورة الشورى الآية رقم 36
يُرِيد مِنْ الْغِنَى وَالسَّعَة فِي الدُّنْيَا .

أَيْ فَإِنَّمَا هُوَ مَتَاع فِي أَيَّام قَلِيلَة تَنْقَضِي وَتَذْهَب ; فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَفَاخَر بِهِ . وَالْخِطَاب لِلْمُشْرِكِينَ .

يُرِيد مِنْ الثَّوَاب عَلَى الطَّاعَة

صَدَقُوا وَوَحَّدُوا

نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْر الصِّدِّيق حِين أَنْفَقَ جَمِيع مَاله فِي طَاعَة اللَّه فَلَامَهُ النَّاس . وَجَاءَ فِي الْحَدِيث أَنَّهُ : أَنْفَقَ ثَمَانِينَ أَلْفًا .
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَسورة الشورى الآية رقم 37
الَّذِينَ فِي مَوْضِع جَرّ مَعْطُوف عَلَى قَوْله : " خَيْر وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا " أَيْ وَهُوَ لِلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ " كَبَائِر الْإِثْم " قَدْ مَضَى الْقَوْل فِي الْكَبَائِر فِي " النِّسَاء " . وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ

وَالْوَاحِد قَدْ يُرَاد بِهِ الْجَمْع عِنْد الْإِضَافَة ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَة اللَّه لَا تُحْصُوهَا " [ النَّحْل : 18 ] , وَكَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث : ( مَنَعَتْ الْعِرَاق دِرْهَمهَا وَقَفِيزهَا ) . الْبَاقُونَ بِالْجَمْعِ هُنَا وَفِي " النَّجْم " .

قَالَ السُّدِّيّ : يَعْنِي الزِّنَى . وَقَالَهُ اِبْن عَبَّاس . وَقَالَ : كَبِير الْإِثْم الشِّرْك . وَقَالَ قَوْم : كَبَائِر الْإِثْم مَا تَقَع عَلَى الصَّغَائِر مَغْفُورَة عِنْد اِجْتِنَابهَا . وَالْفَوَاحِش دَاخِلَة فِي الْكَبَائِر , وَلَكِنَّهَا تَكُون أَفْحَشَ وَأَشْنَعَ كَالْقَتْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجُرْح , وَالزِّنَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُرَاوَدَة . وَقِيلَ : الْفَوَاحِش وَالْكَبَائِر بِمَعْنًى وَاحِد , فَكَرَّرَ لِتَعَدُّدِ اللَّفْظ ; أَيْ يَجْتَنِبُونَ الْمَعَاصِي لِأَنَّهَا كَبَائِر وَفَوَاحِش . وَقَالَ مُقَاتِل : الْفَوَاحِش مُوجِبَات الْحُدُود .

أَيْ يَتَجَاوَزُونَ وَيَحْمِلُونَ عَمَّنْ ظَلَمَهُمْ . قِيلَ : نَزَلَتْ فِي عُمَر حِين شُتِمَ بِمَكَّة . وَقِيلَ : فِي أَبِي بَكْر حِين لَامَهُ النَّاس عَلَى إِنْفَاق مَاله كُلّه وَحِين شُتِمَ فَحَلَمَ . وَعَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : اِجْتَمَعَ لِأَبِي بَكْر مَال مَرَّة , فَتَصَدَّقَ بِهِ كُلّه فِي سَبِيل الْخَيْر ; فَلَامَهُ الْمُسْلِمُونَ وَخَطَّأَهُ الْكَافِرُونَ فَنَزَلَتْ : " فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْء فَمَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا وَمَا عِنْد اللَّه خَيْر وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبّهمْ يَتَوَكَّلُونَ - إِلَى قَوْله وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ " . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : شَتَمَ رَجُل مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَبَا بَكْر فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ شَيْئًا ; فَنَزَلَتْ الْآيَة . وَهَذِهِ مِنْ مَحَاسِن الْأَخْلَاق ; يُشْفِقُونَ عَلَى ظَالِمهمْ وَيَصْفَحُونَ لِمَنْ جَهِلَ عَلَيْهِمْ ; يَطْلُبُونَ بِذَلِكَ ثَوَاب اللَّه تَعَالَى وَعَفْوه ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آل عِمْرَان : " وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاس " [ آل عِمْرَان : 134 ] . وَهُوَ أَنْ يَتَنَاوَلك الرَّجُل فَتَكْظِم غَيْظك عَنْهُ . وَأَنْشَدَ بَعْضهمْ : إِنِّي عَفَوْت لِظَالِمِي ظُلْمِي وَوَهَبْت ذَاكَ لَهُ عَلَى عِلْمِي مَازَالَ يَظْلِمنِي وَأَرْحَمهُ حَتَّى بَكَيْت لَهُ مِنْ الظُّلْم
وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَسورة الشورى الآية رقم 38
قَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد : هُمْ الْأَنْصَار بِالْمَدِينَةِ ; اِسْتَجَابُوا إِلَى الْإِيمَان بِالرَّسُولِ حِين أَنْفَذَ إِلَيْهِمْ اِثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا مِنْهُمْ قَبْل الْهِجْرَة . " وَأَقَامُوا الصَّلَاة " أَيْ أَدَّوْهَا لِمَوَاقِيتِهَا بِشُرُوطِهَا وَهَيْئَاتهَا .

أَيْ يَتَشَاوَرُونَ فِي الْأُمُور . وَالشُّورَى مَصْدَر شَاوَرْته ; مِثْل الْبُشْرَى وَالذِّكْرَى وَنَحْوه . فَكَانَتْ الْأَنْصَار قَبْل قُدُوم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ إِذَا أَرَادُوا أَمْرًا تَشَاوَرُوا فِيهِ ثُمَّ عَمِلُوا عَلَيْهِ ; فَمَدَحَهُمْ اللَّه تَعَالَى بِهِ ; قَالَهُ النَّقَّاش . وَقَالَ الْحَسَن : أَيْ إِنَّهُمْ لِانْقِيَادِهِمْ إِلَى الرَّأْي فِي أُمُورهمْ مُتَّفِقُونَ لَا يَخْتَلِفُونَ ; فَمُدِحُوا بِاتِّفَاقِ كَلِمَتهمْ . قَالَ الْحَسَن : مَا تَشَاوَرَ قَوْم قَطُّ إِلَّا هُدُوا لِأَرْشَد أُمُورهمْ . وَقَالَ الضَّحَّاك : هُوَ تَشَاوُرهمْ حِين سَمِعُوا بِظُهُورِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَوَرَدَ النُّقَبَاء إِلَيْهِمْ حَتَّى اِجْتَمَعَ رَأْيهمْ فِي دَار أَبِي أَيُّوب عَلَى الْإِيمَان بِهِ وَالنُّصْرَة لَهُ . وَقِيلَ تَشَاوُرهمْ فِيمَا يَعْرِض لَهُمْ ; فَلَا يَسْتَأْثِر بَعْضهمْ بِخَبَرٍ دُون بَعْض . وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : الشُّورَى أُلْفَة لِلْجَمَاعَةِ وَمِسْبَار لِلْعُقُولِ وَسَبَب إِلَى الصَّوَاب , وَمَا تَشَاوَرَ قَوْم إِلَّا هُدُوا . وَقَدْ قَالَ الْحَكِيم : إِذَا بَلَغَ الرَّأْي الْمَشُورَة فَاسْتَعِنْ بِرَأْيِ لَبِيب أَوَمَشُورَة حَازِم وَلَا تَجْعَل الشُّورَى عَلَيْك غَضَاضَة فَإِنَّ الْخَوَافِي قُوَّة لِلْقَوَادِمِ فَمَدَحَ اللَّه الْمُشَاوَرَة فِي الْأُمُور بِمَدْحِ الْقَوْم الَّذِينَ كَانُوا يَمْتَثِلُونَ ذَلِكَ . وَقَدْ كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشَاوِر أَصْحَابه فِي الْآرَاء الْمُتَعَلِّقَة بِمَصَالِح الْحُرُوب ; وَذَلِكَ فِي الْآرَاء كَثِير . وَلَمْ يَكُنْ يُشَاوِرهُمْ فِي الْأَحْكَام ; لِأَنَّهَا مُنَزَّلَة مِنْ عِنْد اللَّه عَلَى جَمِيع الْأَقْسَام مِنْ الْفَرْض وَالنَّدْب وَالْمَكْرُوه وَالْمُبَاح وَالْحَرَام . فَأَمَّا الصَّحَابَة بَعْد اِسْتِئْثَار اللَّه تَعَالَى بِهِ عَلَيْنَا فَكَانُوا يَتَشَاوَرُونَ فِي الْأَحْكَام وَيَسْتَنْبِطُونَهَا مِنْ الْكِتَاب وَالسُّنَّة . وَأَوَّل مَا تَشَاوَرَ فِيهِ الصَّحَابَة الْخِلَافَة ; فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنُصّ عَلَيْهَا حَتَّى كَانَ فِيهَا بَيْن أَبِي بَكْر وَالْأَنْصَار مَا سَبَقَ بَيَانه . وَقَالَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : نَرْضَى لِدُنْيَانَا مَنْ رَضِيَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِدِينِنَا وَتَشَاوَرُوا فِي أَهْل الرِّدَّة فَاسْتَقَرَّ رَأْي أَبِي بَكْر عَلَى الْقِتَال . وَتَشَاوَرُوا فِي الْجَدّ وَمِيرَاثه , وَفِي حَدّ الْخَمْر وَعَدَده . وَتَشَاوَرُوا بَعْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحُرُوب ; حَتَّى شَاوَرَ عُمَر الْهُرْمُزَان حِين وَفَدَ عَلَيْهِ مُسْلِمًا فِي الْمَغَازِي , فَقَالَ لَهُ الْهُرْمُزَان : مَثَلهَا وَمَثَل مَنْ فِيهَا مِنْ النَّاس مِنْ عَدُوّ الْمُسْلِمِينَ مَثَل طَائِر لَهُ رِيش وَلَهُ جَنَاحَانِ وَرِجْلَانِ فَإِنْ كُسِرَ أَحَد الْجَنَاحَيْنِ نَهَضَتْ الرِّجْلَانِ بِجَنَاحٍ وَالرَّأْس وَإِنْ كُسِرَ الْجَنَاح الْآخَر نَهَضَتْ الرِّجْلَانِ وَالرَّأْس وَإِنْ شُدِخَ الرَّأْس ذَهَبَ الرِّجْلَانِ وَالْجَنَاحَانِ . وَالرَّأْس كِسْرَى وَالْجَنَاح الْوَاحِد قَيْصَر وَالْآخَر فَارِس ; ; فَمَرَّ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَنْفِرُوا إِلَى كِسْرَى ... وَذَكَرَ الْحَدِيث . وَقَالَ بَعْض الْعُقَلَاء : مَا أَخْطَأْت قَطُّ ! إِذَا حَزَبَنِي أَمْر شَاوَرْت قَوْمِي فَفَعَلْت الَّذِي يَرَوْنَ ; فَإِنْ أَصَبْت فِيهِمْ الْمُصِيبُونَ , وَإِنْ أَخْطَأْت فَهُمْ الْمُخْطِئُونَ . قَدْ مَضَى فِي " آل عِمْرَان " مَا تَضَمَّنَتْهُ الشُّورَى مِنْ الْأَحْكَام عِنْد قَوْله تَعَالَى : " وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر " [ آل عِمْرَان : 159 ] وَالْمَشُورَة بَرَكَة . وَالْمَشْوَرَة : الشُّورَى , وَكَذَلِكَ الْمَشُورَة ( بِضَمِّ الشِّين ) ; تَقُول مِنْهُ : شَاوَرْته فِي الْأَمْر وَاسْتَشَرْته بِمَعْنًى . وَرَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ خِيَاركُمْ وَأَغْنِيَاؤُكُمْ سُمَحَاءَكُمْ وَأَمْركُمْ شُورَى بَيْنكُمْ فَظَهْر الْأَرْض خَيْر لَكُمْ مِنْ بَطْنهَا وَإِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ شِرَاركُمْ وَأَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلَاءَكُمْ وَأُمُوركُمْ إِلَى نِسَائِكُمْ فَبَطْن الْأَرْض خَيْر لَكُمْ مِنْ ظَهْرهَا ) . قَالَ حَدِيث غَرِيب .

أَيْ وَمِمَّا أَعْطَيْنَاهُمْ يَتَصَدَّقُونَ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " .
وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَسورة الشورى الآية رقم 39
أَيْ أَصَابَهُمْ بَغْي الْمُشْرِكِينَ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ بَغَوْا عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى أَصْحَابه وَآذَوْهُمْ وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ مَكَّة فَأَذِنَ اللَّه لَهُمْ بِالْخُرُوجِ وَمَكَّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْض وَنَصَرَهُمْ عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْهِمْ ; وَذَلِكَ قَوْله فِي سُورَة الْحَجّ : " أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّه عَلَى نَصْرهمْ لَقَدِير . الَّذِينَ أُخْرِجُوا ... " [ الْحَجّ : 39 - 40 ] الْآيَات كُلّهَا . وَقِيلَ : هُوَ عَامّ فِي بَغْي كُلّ بَاغٍ مِنْ كَافِر وَغَيْره , أَيْ إِذَا نَالَهُمْ ظُلْم مِنْ ظَالِم لَمْ يَسْتَسْلِمُوا لِظُلْمِهِ . وَهَذِهِ إِشَارَة إِلَى الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر وَإِقَامَة الْحُدُود . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : ذَكَرَ اللَّه الِانْتِصَار فِي الْبَغْي فِي مَعْرِض الْمَدْح , وَذَكَرَ الْعَفْو عَنْ الْجُرْم فِي مَوْضِع آخَر فِي مَعْرِض الْمَدْح ; فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُون أَحَدهمَا رَافِعًا لِلْآخَرِ , وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُون ذَلِكَ رَاجِعًا إِلَى حَالَتَيْنِ ; إِحْدَاهُمَا أَنْ يَكُون الْبَاغِي مُعْلِنًا بِالْفُجُورِ ; وَقِحًا فِي الْجُمْهُور , مُؤْذِيًا لِلصَّغِيرِ وَالْكَبِير ; فَيَكُون الِانْتِقَام مِنْهُ أَفْضَل . وَفِي مِثْله قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ : كَانُوا يَكُوهُونَ أَنْ يُذِلُّوا أَنْفُسهمْ فَتَجْتَرِئ عَلَيْهِمْ الْفُسَّاق . الثَّانِيَة : أَنْ تَكُون الْفَلْتَة , أَوْ يَقَع ذَلِكَ مِمَّنْ يَعْتَرِف بِالزَّلَّةِ وَيَسْأَل الْمَغْفِرَة ; فَالْعَفْو هَاهُنَا أَفْضَل , وَفِي مِثْله نَزَلَتْ : " وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَب لِلتَّقْوَى " [ الْبَقَرَة : 237 ] . وَقَوْل : " فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَة لَهُ " [ الْمَائِدَة : 45 ] . وَقَوْله : " وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِر اللَّه لَكُمْ " [ النُّور : 22 ] قُلْت : هَذَا حَسَن , وَهَكَذَا ذَكَرَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيّ فِي أَحْكَامه قَالَ : قَوْله تَعَالَى : " وَاَلَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْي يَنْتَصِرُونَ " يَدُلّ ظَاهِره عَلَى أَنَّ الِانْتِصَار فِي هَذَا الْمَوْضِع أَفْضَل ; أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَرَنَهُ إِلَى ذِكْر الِاسْتِجَابَة لِلَّهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى وَإِقَام الصَّلَاة ; وَهُوَ مَحْمُول عَلَى مَا ذَكَرَ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُذِلُّوا أَنْفُسهمْ فَتَجْتَرِئ عَلَيْهِمْ الْفُسَّاق ; فَهَذَا فِيمَنْ تَعَدَّى وَأَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ . وَالْمَوْضِع الْمَأْمُور فِيهِ بِالْعَفْوِ إِذَا كَانَ الْجَانِي نَادِمًا مُقْلِعًا . وَقَدْ قَالَ عَقِيب هَذِهِ الْآيَة : " وَلِمَنْ اِنْتَصَرَ بَعْد ظُلْمه فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيل " . وَيَقْتَضِي ذَلِكَ إِبَاحَة الِانْتِصَار لَا الْأَمْر بِهِ , وَقَدْ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ : " وَلِمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْم الْأُمُور " . وَهُوَ مَحْمُول عَلَى الْغُفْرَان عَنْ غَيْر الْمُصِرّ, فَأَمَّا الْمُصِرّ عَلَى الْبَغْي وَالظُّلْم فَالْأَفْضَل الِانْتِصَار مِنْهُ بِدَلَالَةِ الْآيَة الَّتِي قَبْلهَا . وَقِيلَ : أَيْ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْي تَنَاصَرُوا عَلَيْهِ حَتَّى يُزِيلُوهُ عَنْهُمْ وَيَدْفَعُوهُ ; قَالَهُ اِبْن بَحْر . وَهُوَ رَاجِع إِلَى الْعُمُوم عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَسورة الشورى الآية رقم 40
" وَجَزَاء سَيِّئَة مِثْلهَا " قَالَ الْعُلَمَاء : جَعَلَ اللَّه الْمُؤْمِنِينَ صِنْفَيْنِ ; صِنْف يَعْفُونَ عَنْ الظَّالِم فَبَدَأَ بِذِكْرِهِمْ فِي قَوْله " وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ " [ الشُّورَى : 37 ] . وَصِنْف يَنْتَصِرُونَ مِنْ ظَالِمهمْ . ثُمَّ بَيَّنَ حَدّ الِانْتِصَار بِقَوْلِهِ : " وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مِثْلهَا " فَيَنْتَصِر مِمَّنْ ظَلَمَهُ مِنْ غَيْر أَنْ يَعْتَدِي . قَالَ مُقَاتِل وَهِشَام بْن حُجَيْر : هَذَا فِي الْمَجْرُوح يَنْتَقِم مِنْ الْجَارِح بِالْقِصَاصِ دُون غَيْره مِنْ سَبّ أَوْ شَتْم . وَقَالَهُ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَسُفْيَان . قَالَ سُفْيَان : وَكَانَ اِبْن شُبْرُمَة يَقُول : لَيْسَ بِمَكَّة مِثْل هِشَام . وَتَأَوَّلَ الشَّافِعِيّ فِي هَذِهِ الْآيَة أَنَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَأْخُذ مِنْ مَال مَنْ خَانَهُ مِثْل مَا خَانَهُ مِنْ غَيْر عِلْمه ; وَاسْتُشْهِدَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدٍ زَوْج أَبِي سُفْيَان : ( خُذِي مِنْ مَاله مَا يَكْفِيك وَوَلَدك ) فَأَجَازَ لَهَا أَخَذَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنه . وَقَدْ مَضَى الْكَلَام فِي هَذَا مُسْتَوْفًى فِي " الْبَقَرَة " . وَقَالَ اِبْن أَبِي نَجِيح : إِنَّهُ مَحْمُول عَلَى الْمُقَابَلَة فِي الْجِرَاح .

وَإِذَا قَالَ : أَخْزَاهُ اللَّه أَوْ لَعَنَهُ اللَّه أَنْ يَقُول مِثْله . وَلَا يُقَابَل الْقَذْف بِقَذْفٍ وَلَا الْكَذِب بِكَذِبٍ . وَقَالَ السُّدِّيّ : إِنَّمَا مَدَحَ اللَّه مَنْ اِنْتَصَرَ مِمَّنْ بَغَى عَلَيْهِ مِنْ غَيْر اِعْتِدَاء بِالزِّيَادَةِ عَلَى مِقْدَار مَا فُعِلَ بِهِ ; يَعْنِي كَمَا كَانَتْ الْعَرَب تَفْعَلهُ . وَسُمِّيَ الْجَزَاء سَيِّئَة لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَتهَا ; فَالْأَوَّل سَاءَ هَذَا فِي مَال أَوْ بَدَن , وَهَذَا الِاقْتِصَاص يَسُوءهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ أَيْضًا ; وَقَدْ مَضَى هَذَا كُلّه فِي " الْبَقَرَة " مُسْتَوْفًى .

قَالَ اِبْن عَبَّاس : مَنْ تَرَكَ الْقِصَاص وَأَصْلَحَ بَيْنه وَبَيْن الظَّالِم بِالْعَفْوِ

أَيْ إِنَّ اللَّه يَأْجُرهُ عَلَى ذَلِكَ . قَالَ مُقَاتِل : فَكَانَ الْعَفْو مِنْ الْأَعْمَال الصَّالِحَة وَقَدْ مَضَى فِي " آل عِمْرَان " فِي هَذَا مَا فِيهِ كِفَايَة , وَالْحَمْد لِلَّهِ . وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْم الْحَافِظ عَنْ عَلِيّ بْن الْحُسَيْن رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ قَالَ : إِذَا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة نَادَى مُنَادٍ أَيّكُمْ أَهْل الْفَضْل ؟ فَيَقُوم نَاس مِنْ النَّاس ; فَيُقَال : اِنْطَلِقُوا إِلَى الْجَنَّة فَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلَائِكَة ; فَيَقُولُونَ إِلَى أَيْنَ ؟ فَيَقُولُونَ إِلَى الْجَنَّة ; قَالُوا قَبْل الْحِسَاب ؟ قَالُوا نَعَمْ قَالُوا مَنْ أَنْتُمْ ؟ قَالُوا أَهْل الْفَضْل ; قَالُوا وَمَا كَانَ فَضْلكُمْ ؟ قَالُوا كُنَّا إِذَا جُهِلَ عَلَيْنَا حَلِمْنَا وَإِذَا ظُلِمْنَا صَبَرْنَا وَإِذَا سِيءَ إِلَيْنَا عَفَوْنَا ; قَالُوا اُدْخُلُوا الْجَنَّة فَنِعْمَ أَجْر الْعَامِلِينَ . وَذَكَرَ الْحَدِيث .

أَيْ مَنْ بَدَأَ بِالظُّلْمِ ; قَالَهُ سَعِيد بْن جُبَيْر . وَقِيلَ : لَا يُحِبّ مَنْ يَتَعَدَّى فِي الِاقْتِصَاص وَيُجَاوِز الْحَدّ ; قَالَهُ اِبْن عِيسَى .
وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍسورة الشورى الآية رقم 41
أَيْ الْمُسْلِم إِذَا اِنْتَصَرَ مِنْ الْكَافِر فَلَا سَبِيل إِلَى لَوْمه , بَلْ يُحْمَد عَلَى ذَلِكَ مَعَ الْكَافِر . وَلَا لَوْم إِنْ اِنْتَصَرَ الظَّالِم مِنْ الْمُسْلِم ; فَالِانْتِصَار مِنْ الْكَافِر حَتْم , وَمِنْ الْمُسْلِم مُبَاح , وَالْعَفْو مَنْدُوب

دَلِيل عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِي ذَلِكَ بِنَفْسِهِ . وَهَذَا يَنْقَسِم ثَلَاثَة أَقْسَام : أَحَدهَا : أَنْ يَكُون قِصَاصًا فِي بَدَن يَسْتَحِقّهُ آدَمِيّ , فَلَا حَرَج عَلَيْهِ إِنْ اِسْتَوْفَاهُ مِنْ غَيْر عُدْوَان وَثَبَتَ حَقّه عِنْد الْحُكَّام , لَكِنْ يَزْجُرهُ الْإِمَام فِي تَفَوُّته بِالْقِصَاصِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْجُرْأَة عَلَى سَفْك الدَّم . وَإِنْ كَانَ حَقّه غَيْر ثَابِت عِنْد الْحَاكِم فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنه وَبَيْن اللَّه حَرَج ; وَهُوَ فِي الظَّاهِر مُطَالَب وَبِفِعْلِهِ مُؤَاخَذ وَمُعَاقَب . الْقِسْم الثَّانِي : أَنْ يَكُون حَدّ اللَّه تَعَالَى لَا حَقّ لِآدَمِيٍّ فِيهِ كَحَدِّ الزِّنَى وَقَطْع السَّرِقَة ; فَإِنْ لَمْ يَثْبُت ذَلِكَ عِنْد حَاكِم أُخِذَ بِهِ وَعُوقِبَ عَلَيْهِ , وَإِنْ ثَبَتَ عِنْد حَاكِم نَظَر , فَإِنْ كَانَ قَطْعًا فِي سَرِقَة سَقَطَ بِهِ الْحَدّ لِزَوَالِ الْعُضْو الْمُسْتَحَقّ قَطْعه , وَلَمْ يَجِب عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ حَقّ لِأَنَّ التَّعْزِير أَدَب , وَإِنْ كَانَ جَلْدًا لَمْ يَسْقُط بِهِ الْحَدّ لِتَعَدِّيهِ مَعَ بَقَاء مَحِلّه فَكَانَ مَأْخُوذًا بِحُكْمِهِ . الْقِسْم الثَّالِث : أَنْ يَكُون حَقًّا فِي مَال ; فَيَجُوز لِصَاحِبِهِ أَنْ يُغَالِب عَلَى حَقّه حَتَّى يَصِل إِلَيْهِ إِنْ كَانَ مِمَّنْ هُوَ عَالِم بِهِ , وَإِنْ كَانَ غَيْر عَالِم نَظَر , فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْوُصُول إِلَيْهِ عِنْد الْمُطَالَبَة لَمْ يَكُنْ لَهُ الِاسْتِسْرَار بِأَخْذِهِ . وَإِنْ كَانَ لَا يَصِل إِلَيْهِ بِالْمُطَالَبَةِ لِجُحُودِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ مِنْ عَدَم بَيِّنَة تَشْهَد لَهُ فَفِي جَوَاز اِسْتِسْرَاره بِأَخْذِهِ مَذْهَبَانِ : أَحَدهمَا : جَوَازه ; وَهُوَ قَوْل مَالِك وَالشَّافِعِيّ . الثَّانِي : الْمَنْع ; وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة .
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌسورة الشورى الآية رقم 42
أَيْ بِعُدْوَانِهِمْ عَلَيْهِمْ ; فِي قَوْل أَكْثَر الْعُلَمَاء . وَقَالَ اِبْن جُرَيْج : أَيْ يَظْلِمُونَهُمْ بِالشِّرْكِ الْمُخَالِف لِدِينِهِمْ .

أَيْ فِي النُّفُوس وَالْأَمْوَال ; فِي قَوْل الْأَكْثَرِينَ . وَقَالَ مُقَاتِل : بَغْيهمْ عَمَلهمْ بِالْمَعَاصِي . وَقَالَ أَبُو مَالِك : هُوَ مَا يَرْجُوهُ كُفَّار قُرَيْش أَنْ يَكُون بِمَكَّة غَيْر الْإِسْلَام دِينًا . وَعَلَى هَذَا الْحَدّ قَالَ اِبْن زَيْد : إِنَّ هَذَا كُلّه مَنْسُوخ بِالْجِهَادِ , وَإِنَّ هَذَا لِلْمُشْرِكِينَ خَاصَّة . وَقَوْل قَتَادَة : إِنَّهُ عَامّ ; وَكَذَا يَدُلّ ظَاهِر الْكَلَام . وَقَدْ بَيَّنَّاهُ وَالْحَمْد لِلَّهِ .

قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : هَذِهِ الْآيَة : فِي مُقَابَلَة الْآيَة الْمُتَقَدِّمَة فِي " بَرَاءَة " وَهِيَ قَوْله : " مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيل " [ التَّوْبَة : 91 ] ; فَكَمَا نَفَى اللَّه السَّبِيل عَمَّنْ أَحْسَنَ فَكَذَلِكَ نَفَاهَا عَلَى مَنْ ظُلِمَ ; وَاسْتَوْفَى بَيَان الْقِسْمَيْنِ .


وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي السُّلْطَان يَضَع عَلَى أَهْل بَلَد مَالًا مَعْلُومًا بِأَخْذِهِمْ بِهِ وَيُؤَدُّونَهُ عَلَى قَدْر أَمْوَالهمْ ; هَلْ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الْخَلَاص مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَفْعَل , وَهُوَ إِذَا تَخَلَّصَ أَخَذَ سَائِر أَهْل الْبَلَد بِتَمَامِ مَا جُعِلَ عَلَيْهِمْ . فَقِيلَ لَا ; وَهُوَ قَوْل سَحْنُون مِنْ عُلَمَائِنَا . وَقِيلَ : نَعَمْ , لَهُ ذَلِكَ إِنْ قَدَرَ عَلَى الْخَلَاص ; وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو جَعْفَر أَحْمَد بْن نَصْر الدَّاوُدِيّ ثُمَّ الْمَالِكِيّ . قَالَ : وَيَدُلّ عَلَيْهِ قَوْل مَالِك فِي السَّاعِي يَأْخُذ مِنْ غَنَم أَحَد الْخُلَطَاء شَاة وَلَيْسَ فِي جَمِيعهَا نِصَاب إِنَّهَا مَظْلِمَة عَلَى مَنْ أَخَذْت لَهُ لَا يَرْجِع عَلَى أَصْحَابه بِشَيْءٍ . قَالَ : وَلَسْت آخُذ بِمَا رُوِيَ عَنْ سَحْنُون ; لِأَنَّ الظُّلْم لَا أُسْوَة فِيهِ , وَلَا يَلْزَم أَحَد أَنْ يُولِج نَفْسه فِي ظُلْم مَخَافَة أَنْ يُضَاعَف الظُّلْم عَلَى غَيْره , وَاَللَّه سُبْحَانه يَقُول : " إِنَّمَا السَّبِيل عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاس " .

وَاخْتَلَفَتْ الْعُلَمَاء فِي التَّحْلِيل ; فَكَانَ اِبْن الْمُسَيِّب لَا يُحَلِّل أَحَدًا مِنْ عِرْض وَلَا مَال . وَكَانَ سُلَيْمَان بْن يَسَار وَمُحَمَّد بْن سِيرِينَ يُحَلِّلَانِ مِنْ الْعِرْض وَالْمَال . وَرَأَى مَالِك التَّحْلِيل مِنْ الْمَال دُون الْعِرْض . رَوَى اِبْن الْقَاسِم وَابْن وَهْب عَنْ مَالِك وَسُئِلَ عَنْ قَوْل سَعِيد بْن الْمُسَيِّب " لَا أُحَلِّل أَحَدًا " فَقَالَ : ذَلِكَ يَخْتَلِف ; فَقُلْت لَهُ يَا أَبَا عَبْد اللَّه , الرَّجُل يُسَلِّف الرَّجُل فَيَهْلَك وَلَا وَفَاء لَهُ ؟ قَالَ : أَرَى أَنْ يُحَلِّلهُ وَهُوَ أَفْضَل عِنْدِي ; فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى : يَقُول : " الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْل فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنه " [ الزُّمَر : 18 ] . فَقِيلَ لَهُ : الرَّجُل يَظْلِم الرَّجُل ؟ فَقَالَ : لَا أَرَى ذَلِكَ , هُوَ عِنْدِي مُخَالِف لِلْأَوَّلِ , يَقُول اللَّه تَعَالَى : " إِنَّمَا السَّبِيل عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاس " وَيَقُول تَعَالَى : " مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيل " التَّوْبَة : 91 ] فَلَا أَرَى أَنْ يَجْعَلهُ مِنْ ظُلْمه فِي حِلّ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : فَصَارَ فِي الْمَسْأَلَة ثَلَاثَة أَقْوَال : أَحَدهَا : لَا يُحَلِّلهُ بِحَالٍ ; قَالَهُ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب . الثَّانِي : يُحَلِّلهُ ; قَالَهُ مُحَمَّد بْن سِيرِينَ . الثَّالِث : إِنْ كَانَ مَالًا حَلَّلَهُ وَإِنْ كَانَ ظُلْمًا لَمْ يُحَلِّلهُ ; وَهُوَ قَوْل مَالِك . وَجْه الْأَوَّل أَلَّا يُحَلِّل مَا حَرَّمَ اللَّه ; فَيَكُون كَالتَّبْدِيلِ لِحُكْمِ اللَّه . وَوَجْه الثَّانِي أَنَّهُ حَقّه فَلَهُ أَنْ يُسْقِط كَمَا يُسْقِط دَمه وَعِرْضه . وَوَجْه الثَّالِث الَّذِي اِخْتَارَهُ مَالِك هُوَ أَنَّ الرَّجُل إِذَا غَلَبَ عَلَى أَدَاء حَقّك فَمِنْ الرِّفْق بِهِ أَنْ يَتَحَلَّلهُ , وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا فَمِنْ الْحَقّ أَلَّا تَتْرُكهُ لِئَلَّا تَغْتَرّ الظَّلَمَة وَيَسْتَرْسِلُوا فِي أَفْعَالهمْ الْقَبِيحَة . وَفِي صَحِيح مُسْلِم حَدِيث أَبِي الْيُسْر الطَّوِيل وَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ لِغَرِيمِهِ : اُخْرُجْ إِلَيَّ , فَقَدْ عَلِمْت أَيْنَ أَنْتَ ; فَخَرَجَ ; فَقَالَ : مَا حَمَلَك عَلَى أَنْ أَخْتَبَأْت مِنِّي ؟ قَالَ : أَنَا وَاَللَّه أُحَدِّثك ثُمَّ لَا أَكْذِبك , خَشِيت وَاَللَّه أَنْ أُحَدِّثك فَأَكْذِبك , وَأَنْ أَعِدك فَأُخْلِفك , وَكُنْت صَاحِب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَكُنْت وَاَللَّه مُعْسِرًا . قَالَ قُلْت : آللَّه ؟ قَالَ آللَّه ; قَالَ : فَأَتَى بِصَحِيفَةٍ فَمَحَاهَا فَقَالَ : إِنْ وَجَدْت قَضَاء فَاقْضِ , وَإِلَّا فَأَنْتَ فِي حِلّ ... وَذَكَرَ الْحَدِيث . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا فِي الْحَيّ الَّذِي يُرْجَى لَهُ الْأَدَاء لِسَلَامَةِ الذِّمَّة وَرَجَاء التَّمَحُّل , فَكَيْف بِالْمَيِّتِ الَّذِي لَا مُحَالَلَة لَهُ وَلَا ذِمَّة مَعَهُ . الْعَاشِرَة : قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : إِنَّ مَنْ ظُلِمَ وَأُخِذَ لَهُ مَال فَإِنَّمَا لَهُ ثَوَاب مَا اِحْتَبَسَ عَنْهُ إِلَى مَوْته , ثُمَّ يَرْجِع الثَّوَاب إِلَى وَرَثَته , ثُمَّ كَذَلِكَ إِلَى آخِرهمْ ; لِأَنَّ الْمَال يَصِير بَعْده لِلْوَارِثِ . قَالَ أَبُو جَعْفَر الدَّاوُدِيّ الْمَالِكِيّ : هَذَا صَحِيح فِي النَّظَر ; وَعَلَى هَذَا الْقَوْل إِنْ مَاتَ الظَّالِم قَبْل مَنْ ظَلَمَهُ وَلَمْ يَتْرُك شَيْئًا أَوْ تَرَكَ مَا لَمْ يَعْلَم وَارِثه فِيهِ بِظُلْمٍ لَمْ تَنْتَقِل تَبَاعَة الْمَظْلُوم إِلَى وَرَثَة الظَّالِم ; لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِلظَّالِمِ مَا يَسْتَوْجِبهُ وَرَثَة الْمَظْلُوم .
وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِسورة الشورى الآية رقم 43
أَيْ صَبَرَ عَلَى الْأَذَى و " غَفَرَ " أَيْ تَرَكَ الِانْتِصَار لِوَجْهِ اللَّه تَعَالَى ; وَهَذَا فِيمَنْ ظَلَمَهُ مُسْلِم . وَيُحْكَى أَنَّ رَجُلًا سَبَّ رَجُلًا فِي مَجْلِس الْحَسَن رَحِمَهُ اللَّه فَكَانَ الْمَسْبُوب يَكْظِم وَيَعْرَق فَيَمْسَح الْعَرَق , ثُمَّ قَامَ فَتَلَا هَذِهِ الْآيَة ; فَقَالَ الْحَسَن : عَقَلَهَا وَاَللَّه ! وَفَهِمَهَا إِذْ ضَيَّعَهَا الْجَاهِلُونَ . وَبِالْجُمْلَةِ الْعَفْو مَنْدُوب إِلَيْهِ , ثُمَّ قَدْ يَنْعَكِس الْأَمْر فِي بَعْض الْأَحْوَال فَيَرْجِع تَرْك الْعَفْو مَنْدُوبًا إِلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ ; وَذَلِكَ إِذَا اُحْتِيجَ إِلَى كَفّ زِيَادَة الْبَغْي وَقَطْع مَادَّة الْأَذَى , وَعَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَدُلّ عَلَيْهِ , وَهُوَ أَنَّ زَيْنَب أَسْمَعَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا بِحَضْرَتِهِ فَكَانَ يَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي , فَقَالَ لِعَائِشَة : ( دُونك فَانْتَصِرِي ) خَرَّجَهُ مُسْلِم فِي صَحِيحه بِمَعْنَاهُ . وَقِيلَ : " صَبَرَ " عَنْ الْمَعَاصِي وَسَتَرَ عَلَى الْمَسَاوِئ .

أَيْ مِنْ عَزَائِم اللَّه الَّتِي أَمَرَ بِهَا . وَقِيلَ : مِنْ عَزَائِم الصَّوَاب الَّتِي وُفِّقَ لَهَا . وَذَكَرَ الْكَلْبِيّ وَالْفَرَّاء أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مَعَ ثَلَاث آيَات قَبْلهَا , وَقَدْ شَتَمَهُ بَعْض الْأَنْصَار فَرَدَّ عَلَيْهِ ثُمَّ أَمْسَكَ . وَهِيَ الْمَدَنِيَّات مِنْ هَذِهِ السُّورَة . وَقِيلَ : هَذِهِ الْآيَات فِي الْمُشْرِكِينَ , وَكَانَ هَذَا فِي اِبْتِدَاء الْإِسْلَام قَبْل الْأَمْر بِالْقِتَالِ ثُمَّ نَسَخَتْهَا آيَة الْقِتَال ; وَهُوَ قَوْل اِبْن زَيْد , وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَفِي تَفْسِير اِبْن عَبَّاس " وَلَمَنْ اِنْتَصَرَ بَعْد ظُلْمه " يُرِيد حَمْزَة بْن عَبْد الْمُطَّلِب , وَعُبَيْدَة وَعَلِيًّا وَجَمِيع الْمُهَاجِرِينَ رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِمْ . " فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيل " يُرِيد حَمْزَة بْن عَبْد الْمُطَّلِب وَعُبَيْدَة وَعَلِيًّا رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ . " إِنَّمَا السَّبِيل عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاس " يُرِيد عُتْبَة بْن رَبِيعَة وَشَيْبَة بْن رَبِيعَة وَالْوَلِيد بْن عُتْبَة وَأَبَا جَهْل وَالْأَسْوَد , وَكُلّ مَنْ قَاتَلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يَوْم بَدْر . " وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْض " يُرِيد بِالظُّلْمِ وَالْكُفْر . " أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَاب أَلِيم " يُرِيد وَجِيع . " وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ " يُرِيد أَبَا بَكْر وَعُمَر وَأَبَا عُبَيْدَة بْن الْجَرَّاح وَمُصْعَب بْن عُمَيْر وَجَمِيع أَهْل بَدْر رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ . " إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْم الْأُمُور " حَيْثُ قَبِلُوا الْفِدَاء وَصَبَرُوا عَلَى الْأَذَى .
وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍسورة الشورى الآية رقم 44
أَيْ يَخْذُلهُ

هَذَا فِيمَنْ أَعْرَضَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا دَعَاهُ إِلَيْهِ مِنْ الْإِيمَان بِاَللَّهِ وَالْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى , وَلَمْ يُصَدِّقهُ فِي الْبَعْث وَأَنَّ مَتَاع الدُّنْيَا قَلِيل . أَيْ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّه عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاء فَلَا يَهْدِيه هَادٍ .

أَيْ الْكَافِرِينَ .

يَعْنِي جَهَنَّم . وَقِيلَ رَأَوْا الْعَذَاب عِنْد الْمَوْت .

يَطْلُبُونَ أَنْ يُرَدُّوا إِلَى الدُّنْيَا لِيَعْمَلُوا بِطَاعَةِ اللَّه فَلَا يُجَابُونَ إِلَى ذَلِكَ .
وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍسورة الشورى الآية رقم 45
أَيْ عَلَى النَّار لِأَنَّهَا عَذَابهمْ ; فَكَنَّى عَنْ الْعَذَاب الْمَذْكُور بِحَرْفِ التَّأْنِيث لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَذَاب هُوَ النَّار , وَإِنْ شِئْت جَهَنَّم , وَلَوْ رَاعَى اللَّفْظ لَقَالَ عَلَيْهِ . ثُمَّ قِيلَ : هُمْ الْمُشْرِكُونَ جَمِيعًا يُعْرَضُونَ عَلَى جَهَنَّم عِنْد اِنْطِلَاقهمْ إِلَيْهَا ; قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ . وَقِيلَ : آل فِرْعَوْن خُصُوصًا , تُحْبَس أَرْوَاحهمْ فِي أَجْوَاف طَيْر سُود تَغْدُو عَلَى جَهَنَّم وَتَرُوح ; فَهُوَ عَرْضهمْ عَلَيْهَا ; قَالَهُ اِبْن مَسْعُود . وَقِيلَ : إِنَّهُمْ عَامَّة الْمُشْرِكِينَ , تُعْرَض عَلَيْهِمْ ذُنُوبهمْ فِي قُبُورهمْ , وَيُعْرَضُونَ عَلَى الْعَذَاب فِي قُبُورهمْ ; وَهَذَا مَعْنَى قَوْل أَبِي الْحَجَّاج .

ذَهَبَ بَعْض الْقُرَّاء إِلَى الْوَقْف عَلَى " خَاشِعِينَ " . وَقَوْله : " مِنْ الذُّلّ " مُتَعَلِّق ب " يَنْظُرُونَ " . وَقِيلَ : مُتَعَلِّق ب " خَاشِعِينَ " . وَالْخُشُوع الِانْكِسَار وَالتَّوَاضُع . وَمَعْنَى

أَيْ لَا يَرْفَعُونَ أَبْصَارهمْ لِلنَّظَرِ رَفْعًا تَامًّا ; لِأَنَّهُمْ نَاكِسُو الرُّءُوس . وَالْعَرَب تَصِف الذَّلِيل بِغَضِّ الطَّرْف , كَمَا يَسْتَعْمِلُونَ فِي ضِدّه حَدِيد النَّظَر إِذَا لَمْ يُتَّهَم بِرِيبَةٍ فَيَكُون عَلَيْهِ مِنْهَا غَضَاضَة . وَقَالَ مُجَاهِد : " مِنْ طَرْف خَفِيّ " أَيْ ذَلِيل , قَالَ : وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ بِقُلُوبِهِمْ لِأَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ عُمْيًا , وَعَيْن الْقَلْب طَرْف خَفِيّ . وَقَالَ قَتَادَة وَالسُّدِّيّ وَالْقُرَظِيّ وَسَعِيد بْن جُبَيْر : يُسَارِقُونَ النَّظَر مِنْ شِدَّة الْخَوْف . وَقِيلَ : الْمَعْنَى يَنْظُرُونَ مِنْ عَيْن ضَعِيفَة النَّظَر . وَقَالَ يُونُس : " مِنْ " بِمَعْنَى الْبَاء ; أَيْ يَنْظُرُونَ بِطَرْفٍ خَفِيّ , أَيْ ضَعِيف مِنْ الذُّلّ وَالْخَوْف , وَنَحْوه عَنْ الْأَخْفَش . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : بِطَرْفٍ ذَابِل ذَلِيل . وَقِيلَ : أَيْ يَفْزَعُونَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَيْهَا بِجَمِيعِ أَبْصَارهمْ لِمَا يَرَوْنَ مِنْ أَصْنَاف الْعَذَاب .

أَيْ يَقُول الْمُؤْمِنُونَ فِي الْجَنَّة لَمَّا عَايَنُوا مَا حَلَّ بِالْكَفَّارِ إِنَّ الْخُسْرَان فِي الْحَقِيقَة مَا صَارَ إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُمْ خَسِرُوا أَنْفُسهمْ لِأَنَّهُمْ فِي الْعَذَاب الْمُخَلَّد , وَخَسِرُوا أَهْلِيهِمْ لِأَنَّ الْأَهْل إِنْ كَانُوا فِي النَّار فَلَا اِنْتِفَاع بِهِمْ , وَإِنْ كَانُوا فِي الْجَنَّة فَقَدْ حِيلَ بَيْنه وَبَيْنهمْ . وَقِيلَ : خُسْرَان الْأَهْل أَنَّهُمْ لَوْ آمَنُوا لَكَانَ لَهُمْ أَهْل فِي الْجَنَّة مِنْ الْحُور الْعِين . وَفِي سُنَن اِبْن مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَد إِلَّا لَهُ مَنْزِلَانِ مَنْزِل فِي الْجَنَّة وَمَنْزِل فِي النَّار فَإِذَا مَاتَ فَدَخَلَ النَّار وَرِثَ أَهْل الْجَنَّة مَنْزِله فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " أُولَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ " [ الْمُؤْمِنُونَ : 10 ] . وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَفِي مُسْنَد الدَّارِمِيّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا مِنْ أَحَد يُدْخِلهُ اللَّه الْجَنَّة إِلَّا زَوَّجَهُ اِثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَة مِنْ الْحُور الْعِين وَسَبْعِينَ مِنْ مِيرَاثه مِنْ أَهْل النَّار وَمَا مِنْهُنَّ وَاحِدَة إِلَّا وَلَهَا قُبُل شَهِيّ وَلَهُ ذَكَر لَا يَنْثَنِي ) . قَالَ هِشَام بْن خَالِد : ( مِنْ مِيرَاثه مِنْ أَهْل النَّار ) يَعْنِي رِجَالًا أُدْخِلُوا النَّار فَوَرِثَ أَهْل الْجَنَّة نِسَاءَهُمْ كَمَا وَرِثَتْ اِمْرَأَة فِرْعَوْن .

أَيْ دَائِم لَا يَنْقَطِع . ثُمَّ يَجُوز أَنْ يَكُون هَذَا مِنْ قَوْل الْمُؤْمِنِينَ , وَيَجُوز أَنْ يَكُون اِبْتِدَاء مِنْ اللَّه تَعَالَى
وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍسورة الشورى الآية رقم 46
أَيْ أَعْوَانًا وَنُصَرَاء

أَيْ مِنْ عَذَابه

أَيْ طَرِيق يَصِل بِهِ إِلَى الْحَقّ فِي الدُّنْيَا وَالْجَنَّة فِي الْآخِرَة ; لِأَنَّهُ قَدْ سُدَّتْ عَلَيْهِ طَرِيق النَّجَاة .
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍسورة الشورى الآية رقم 47
أَيْ أَجِيبُوهُ إِلَى مَا دَعَاكُمْ إِلَيْهِ مِنْ الْإِيمَان بِهِ وَالطَّاعَة . اِسْتَجَابَ وَأَجَابَ بِمَعْنَى ; وَقَدْ تَقَدَّمَ .

يُرِيد يَوْم الْقِيَامَة ; أَيْ لَا يَرُدّهُ أَحَد بَعْدَمَا حَكَمَ اللَّه بِهِ وَجَعَلَهُ أَجَلًا وَوَقْتًا .

أَيْ مِنْ مَلْجَأ يُنْجِيكُمْ مِنْ الْعَذَاب .

أَيْ مِنْ نَاصِر يَنْصُركُمْ ; قَالَهُ مُجَاهِد . وَقِيلَ : النَّكِير بِمَعْنَى الْمُنْكَر ; كَالْأَلِيمِ بِمَعْنَى الْمُؤْلِم ; أَيْ لَا تَجِدُونَ يَوْمئِذٍ مُنْكَرًا لِمَا يَنْزِل بِكُمْ مِنْ الْعَذَاب ; حَكَاهُ اِبْن أَبِي حَاتِم ; وَقَالَهُ الْكَلْبِيّ . الزَّجَّاج : مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُنْكِرُوا الذُّنُوب الَّتِي يُوقَفُونَ عَلَيْهَا . وَقِيلَ : " مِنْ نَكِير " أَيْ إِنْكَار مَا يَنْزِل بِكُمْ مِنْ الْعَذَاب , وَالنَّكِير وَالْإِنْكَار تَغْيِير الْمُنْكَر .
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌسورة الشورى الآية رقم 48
أَيْ عَنْ الْإِيمَان

أَيْ حَافِظًا لِأَعْمَالِهِمْ حَتَّى تُحَاسِبهُمْ عَلَيْهَا . وَقِيلَ : مُوَكَّلًا بِهِمْ لَا تُفَارِقهُمْ دُون أَنْ يُؤْمِنُوا ; أَيْ لَيْسَ لَك إِكْرَاههمْ عَلَى الْإِيمَان .

وَقِيلَ : نُسِخَ هَذَا بِآيَةِ الْقِتَال .

الْكَافِر

رَخَاء وَصِحَّة .

بَطِرَ بِهَا .

بَلَاء وَشِدَّة .

أَيْ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ النِّعْمَة فَيُعَدِّد الْمَصَائِب وَيَنْسَى النِّعَم .
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَسورة الشورى الآية رقم 49
" لِلَّهِ مُلْك السَّمَاوَات وَالْأَرْض " اِبْتِدَاء وَخَبَر . " يَخْلُق مَا يَشَاء " مِنْ الْخَلْق .

قَالَ أَبُو عُبَيْدَة وَأَبُو مَالِك وَمُجَاهِد وَالْحَسَن وَالضِّحَاك : يَهَب لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا لَا ذُكُور مَعَهُنَّ , وَيَهَب لِمَنْ يَشَاء ذُكُورًا لَا إِنَاثًا مَعَهُمْ ; وَأَدْخَلَ الْأَلِف وَاللَّام عَلَى الذُّكُور دُون الْإِنَاث لِأَنَّهُمْ أَشْرَف فَمَيَّزَهُمْ بِسِمَةِ التَّعْرِيف . وَقَالَ وَاثِلَة بْن الْأَسْقَع : إِنَّ مِنْ يُمْن الْمَرْأَة تَبْكِيرهَا بِالْأُنْثَى قَبْل الذَّكَر , وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ : " يَهَب لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَب لِمَنْ يَشَاء الذُّكُور " فَبَدَأَ بِالْإِنَاثِ .
أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌسورة الشورى الآية رقم 50
قَالَ مُجَاهِد : هُوَ أَنْ تَلِد الْمَرْأَة غُلَامًا ثُمَّ تَلِد جَارِيَة ثُمَّ تَلِد غُلَامًا ثُمَّ تَلِد جَارِيَة . وَقَالَ مُحَمَّد بْن الْحَنَفِيَّة : هُوَ أَنْ تَلِد تَوْأَمًا , غُلَامًا وَجَارِيَة , أَوْ يُزَوِّجهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا . قَالَ الْقُتَبِيّ : التَّزْوِيج هَاهُنَا هُوَ الْجَمْع بَيْن الْبَنِينَ وَالْبَنَات ; تَقُول الْعَرَب : زَوَّجْت إِبِلِي إِذَا جَمَعْت بَيْن الْكِبَار وَالصِّغَار .

أَيْ لَا يُولَد لَهُ ; يُقَال : رَجُل عَقِيم , وَامْرَأَة عَقِيم . وَعَقِمَتْ الْمَرْأَة تَعْقَم عَقْمًا ; مِثْل حَمِدَ يَحْمَد . وَعَقُمَتْ تَعْقُم , مِثْل عَظُمَ يَعْظُم . وَأَصْله الْقَطْع , وَمِنْهُ الْمُلْك الْعَقِيم , أَيْ تُقْطَع فِيهِ الْأَرْحَام بِالْقَتْلِ وَالْعُقُوق خَوْفًا عَلَى الْمِلْك . وَرِيح عَقِيم ; أَيْ لَا تَلْقَح سَحَابًا وَلَا شَجَرًا . وَيَوْم الْقِيَامَة يَوْم عَقِيم ; لِأَنَّهُ لَا يَوْم بَعْده . وَيُقَال : نِسَاء عُقُم وَعُقْم ; قَالَ الشَّاعِر : عُقِمَ النِّسَاء فَمَا يَلِدْنَ شَبِيهه إِنَّ النِّسَاء بِمِثْلِهِ عُقْم وَحَكَى النَّقَّاش أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي الْأَنْبِيَاء خُصُوصًا وَإِنْ عَمَّ حُكْمهَا . وُهِبَ لِلُوطٍ الْإِنَاث لَيْسَ مَعَهُنَّ ذَكَر , وَوُهِبَ لِإِبْرَاهِيم الذُّكُور لَيْسَ مَعَهُمْ أُنْثَى , وَوُهِبَ لِإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق الذُّكُور وَالْإِنَاث , وَجُعِلَ عِيسَى وَيَحْيَى عَقِيمَيْنِ ; وَنَحْوه عَنْ اِبْن عَبَّاس وَإِسْحَاق بْن بِشْر . قَالَ إِسْحَاق : نَزَلَتْ فِي الْأَنْبِيَاء , ثُمَّ عَمَّتْ . " يَهَب لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا " يَعْنِي لُوطًا عَلَيْهِ السَّلَام , لَمْ يُولَد لَهُ ذَكَر وَإِنَّمَا وُلِدَ لَهُ اِبْنَتَانِ . " وَيَهَب لِمَنْ يَشَاء الذُّكُور " يَعْنِي إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام لَمْ يُولَد لَهُ أُنْثَى بَلْ وُلِدَ لَهُ ثَمَانِيَة ذُكُور . " أَوْ يُزَوِّجهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا " يَعْنِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وُلِدَ لَهُ أَرْبَعَة بَنِينَ وَأَرْبَع بَنَات . " وَيَجْعَل مَنْ يَشَاء عَقِيمًا " يَعْنِي يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَام ; لَمْ يَذْكُر عِيسَى . اِبْن الْعَرَبِيّ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا " يَهَب لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا " يَعْنِي لُوطًا كَانَ لَهُ بَنَات وَلَمْ يَكُنْ لَهُ اِبْن . " وَيَهَب لِمَنْ يَشَاء الذُّكُور " يَعْنِي إِبْرَاهِيم , كَانَ لَهُ بَنُونَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بِنْت . وَقَوْله : " أَوْ يُزَوِّجهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا " يَعْنِي آدَم , كَانَتْ حَوَّاء تَلِد لَهُ فِي كُلّ بَطْن تَوْأَمَيْنِ ذَكَرًا وَأُنْثَى . وَيُزَوِّج الذَّكَر مِنْ هَذَا الْبَطْن مِنْ الْأُنْثَى مِنْ الْبَطْن الْآخَر , حَتَّى أَحْكَمَ اللَّه التَّحْرِيم فِي شَرْع نُوح صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَكَذَلِكَ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ ذُكُور وَإِنَاث مِنْ الْأَوْلَاد : الْقَاسِم وَالطَّيِّب وَالطَّاهِر وَعَبْد اللَّه وَزَيْنَب وَأُمّ كُلْثُوم وَرُقَيَّة وَفَاطِمَة ; وَكُلّهمْ مِنْ خَدِيجَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا , وَإِبْرَاهِيم وَهُوَ مِنْ مَارِيَة الْقِبْطِيَّة . وَكَذَلِكَ قَسَمَ اللَّه الْخَلْق مِنْ لَدُنْ آدَم إِلَى زَمَاننَا هَذَا , إِلَى أَنْ تَقُوم السَّاعَة , عَلَى هَذَا التَّقْدِير الْمَحْدُود بِحِكْمَتِهِ الْبَالِغَة وَمَشِيئَته النَّافِذَة ; لِيَبْقَى النَّسْل , وَيَتَمَادَى الْخَلْق , وَيَنْفُذ الْوَعْد , وَيَحِقّ الْأَمْر , وَتَعْمُر الدُّنْيَا , وَتَأْخُذ الْجَنَّة وَجَهَنَّم كُلّ وَاحِدَة مَا يَمْلَؤُهَا وَيَبْقَى . فَفِي الْحَدِيث : ( إِنَّ النَّار لَنْ تَمْتَلِئ حَتَّى يَضَع الْجَبَّار فِيهَا قَدَمه , فَتَقُول قَطْ قَطْ . وَأَمَّا الْجَنَّة فَيَبْقَى مِنْهَا فَيُنْشِئ اللَّه لَهَا خَلْقًا آخَر ) .


قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : إِنَّ اللَّه تَعَالَى لِعُمُومِ قُدْرَته وَشَدِيد قُوَّته يَخْلُق الْخَلْق اِبْتِدَاء مِنْ غَيْر شَيْء , وَبِعَظِيمِ لُطْفه وَبَالِغ حِكْمَته يَخْلُق شَيْئًا مِنْ شَيْء لَا عَنْ حَاجَة ; فَإِنَّهُ قُدُّوس عَنْ الْحَاجَات سَلَام عَنْ الْآفَات , كَمَا قَالَ الْقُدُّوس السَّلَام ; فَخَلَقَ آدَم مِنْ الْأَرْض وَخَلَقَ حَوَّاء مِنْ آدَم وَخَلَقَ النَّشْأَة مِنْ بَيْنهمَا مِنْهُمَا مُرَتَّبًا عَلَى الْوَطْء كَائِنًا عَنْ الْحَمْل مَوْجُودًا فِي الْجَنِين بِالْوَضْعِ ; كَمَا قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا سَبَقَ مَاء الرَّجُل مَاء الْمَرْأَة أَذْكَرَا وَإِذَا سَبَقَ مَاء الْمَرْأَة مَاء الرَّجُل آنَثَا ) . وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيح أَيْضًا : ( إِذَا عَلَا مَاء الرَّجُل مَاء الْمَرْأَة أَشْبَهَ الْوَلَد أَعْمَامه وَإِذَا عَلَا مَاء الْمَرْأَة مَاء الرَّجُل أَشْبَهَ الْوَلَد أَخْوَاله ) . قُلْت : وَهَذَا مَعْنَى حَدِيث عَائِشَة لَا لَفْظه خَرَّجَهُ مُسْلِم مِنْ حَدِيث عُرْوَة بْن الزُّبَيْر عَنْهَا أَنَّ اِمْرَأَة قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلْ تَغْتَسِل الْمَرْأَة إِذَا اِحْتَلَمَتْ وَأَبْصَرَتْ الْمَاء ؟ فَقَالَ : ( نَعَمْ ) فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَة : تَرِبَتْ يَدَاك وَأَلَتْ ; فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( دَعِيهَا وَهَلْ يَكُون الشَّبَه إِلَّا مِنْ قِبَل ذَلِكَ . إِذَا عَلَا مَاؤُهَا مَاء الرَّجُل أَشْبَهَ الْوَلَد أَخْوَاله وَإِذَا عَلَا مَاء الرَّجُل مَاءَهَا أَشْبَهَ أَعْمَامه ) . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فَعَلَى مُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيث أَنَّ الْعُلُوّ يَقْتَضِي الشَّبَه ; وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيث ثَوْبَان خَرَّجَهُ مُسْلِم أَيْضًا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْيَهُودِيِّ : ( مَاء الرَّجُل أَبْيَض وَمَاء الْمَرْأَة أَصْفَر , فَإِذَا اِجْتَمَعَا فَعَلَا مَنِيّ الرَّجُل مَنِيّ الْمَرْأَة أَذْكَرَا بِإِذْنِ اللَّه وَإِذَا عَلَا مَنِيّ الْمَرْأَة مَنِيّ الرَّجُل آنَثَا بِإِذْنِ اللَّه ... ) الْحَدِيث . فَجَعَلَ فِي هَذَا الْحَدِيث أَيْضًا الْعُلُوّ يَقْتَضِي الذُّكُورَة وَالْأُنُوثَة ; فَعَلَى مُقْتَضَى الْحَدِيثَيْنِ يَلْزَم اِقْتِرَان الشَّبَه لِلْأَعْمَالِ وَالذُّكُورَة إِنْ عَلَا مَنِيّ الرَّجُل , وَكَذَلِكَ يَلْزَم إِنْ عَلَا مَنِيّ الْمَرْأَة اِقْتِرَان الشَّبَه لِلْأَخْوَالِ وَالْأُنُوثَة ; لِأَنَّهُمَا مَعْلُولًا عِلَّة وَاحِدَة , وَلَيْسَ الْأَمْر كَذَلِكَ بَلْ الْوُجُود بِخِلَافِ ذَلِكَ ; لِأَنَّا نَجِد الشَّبَه لِلْأَخْوَالِ وَالذُّكُورَة وَالشَّبَه لِلْأَعْمَامِ وَالْأُنُوثَة فَتَعَيَّنَ تَأْوِيل أَحَد الْحَدِيثَيْنِ . وَاَلَّذِي يَتَعَيَّن تَأْوِيله الَّذِي فِي حَدِيث ثَوْبَان فَيُقَال : إِنَّ ذَلِكَ الْعُلُوّ مَعْنَاهُ سَبَقَ الْمَاء إِلَى الرَّحِم , وَوَجْه أَنَّ الْعُلُوّ لِمَا كَانَ مَعْنَاهُ الْغَلَبَة مِنْ قَوْلهمْ سَابَقَنِي فُلَان فَسَبَقْته أَيْ غَلَبْته ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ " [ الْوَاقِعَة : 60 ] أَيْ بِمَغْلُوبِينَ , قِيلَ عَلَيْهِ عَلَا . وَيُؤَيِّد هَذَا التَّأْوِيل قَوْله فِي الْحَدِيث : ( إِذَا سَبَقَ مَاء الرَّجُل مَاء الْمَرْأَة أَذْكَرَا وَإِذَا سَبَقَ مَاء الْمَرْأَة مَاء الرَّجُل آنَثَا ) . وَقَدْ بَنَى الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيث بِنَاء فَقَالَ : إِنَّ لِلْمَاءَيْنِ أَرْبَعَة أَحْوَال : الْأَوَّل : أَنْ يَخْرُج مَاء الرَّجُل أَوَّلًا , الثَّانِي : أَنْ يَخْرُج مَاء الْمَرْأَة أَوَّلًا , الثَّالِث : أَنْ يَخْرُج مَاء الرَّجُل أَوَّلًا وَيَكُون أَكْثَر , الرَّابِع : أَنْ يَخْرُج مَاء الْمَرْأَة أَوَّلًا وَيَكُون أَكْثَر . وَيَتِمّ التَّقْسِيم بِأَنْ يَخْرُج مَاء الرَّجُل أَوَّلًا ثُمَّ يَخْرُج مَاء الْمَرْأَة بَعْده وَيَكُون أَكْثَر أَوْ بِالْعَكْسِ ; فَإِذَا خَرَجَ مَاء الرَّجُل أَوَّلًا وَكَانَ أَكْثَر جَاءَ الْوَلَد ذَكَرًا بِحُكْمِ السَّبْق وَأَشْبَهَ الْوَلَد أَعْمَامه بِحُكْمِ الْكَثْرَة . وَإِنْ خَرَجَ مَاء الْمَرْأَة أَوَّلًا وَكَانَ أَكْثَر جَاءَ الْوَلَد أُنْثَى بِحُكْمِ السَّبْق وَأَشْبَهَ أَخْوَاله بِحُكْمِ الْغَلَبَة . وَإِنْ خَرَجَ مَاء الرَّجُل أَوَّلًا لَكِنْ لَمَّا خَرَجَ مَاء الْمَرْأَة بَعْده كَانَ أَكْثَر كَانَ الْوَلَد ذَكَرًا بِحُكْمِ السَّبْق وَأَشْبَهَ أَخْوَاله بِحُكْمِ غَلَبَة مَاء الْمَرْأَة , وَإِنْ سَبَقَ مَاء الْمَرْأَة لَكِنْ لَمَّا خَرَجَ مَاء الرَّجُل كَانَ أَعْلَى مِنْ مَاء الْمَرْأَة , كَانَ الْوَلَد أُنْثَى بِحُكْمِ سَبْق مَاء الْمَرْأَة وَأَشْبَهَ أَعْمَامه بِحُكْمِ غَلَبَة مَاء الرَّجُل . قَالَ : وَبِانْتِظَامِ هَذِهِ الْأَقْسَام يَسْتَتِبّ الْكَلَام وَيَرْتَفِع التَّعَارُض عَنْ الْأَحَادِيث , فَسُبْحَان الْخَالِق الْعَلِيم


قَالَ عُلَمَاؤُنَا : كَانَتْ الْخِلْقَة مُسْتَمِرَّة ذَكَرًا وَأُنْثَى إِلَى أَنْ وَقَعَ فِي الْجَاهِلِيَّة الْأُولَى الْخُنْثَى فَأُتِيَ بِهِ فَرِيض الْعَرَب وَمُعَمِّرهَا عَامِر بْن الظَّرِب فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُول فِيهِ وَأَرْجَأَهُمْ عَنْهُ ; فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْل تَنَكَّرَ مَوْضِعه , وَأَقَضَّ عَلَيْهِ مَضْجَعه , وَجَعَلَ يَتَقَلَّب وَيَتَقَلَّب , وَتَجِيء بِهِ الْأَفْكَار وَتَذْهَب , إِلَى أَنْ أَنْكَرَتْ خَادِمه حَاله فَقَالَتْ : مَا بِك ؟ قَالَ لَهَا : سَهِرْت لِأَمْرٍ قَصَدْت بِهِ فَلَمْ أَدْرِ مَا أَقُول فِيهِ ؟ فَقَالَتْ مَا هُوَ ؟ قَالَ لَهَا : رَجُل لَهُ ذَكَر وَفَرْج كَيْف يَكُون حَاله فِي الْمِيرَاث ؟ قَالَتْ لَهُ الْأَمَة : وَرِّثْهُ مِنْ حَيْثُ يَبُول ; فَعَقَلَهَا وَأَصْبَحَ فَعَرَضَهَا عَلَيْهِمْ وَانْقَلَبُوا بِهَا رَاضِينَ . وَجَاءَ الْإِسْلَام عَلَى ذَلِكَ فَلَمْ تَنْزِل إِلَّا فِي عَهْد عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقَضَى فِيهَا . وَقَدْ رَوَى الْفَرْضِيُّونَ عَنْ الْكَلْبِيّ عَنْ أَبِي صَالِح عَنْ اِبْن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَوْلُود لَهُ قُبُل وَذَكَر مِنْ أَيْنَ يُوَرَّث ؟ قَالَ : مِنْ حَيْثُ يَبُول . وَرُوِيَ أَنَّهُ أُتِيَ بِخُنْثَى مِنْ الْأَنْصَار فَقَالَ : ( وَرِّثُوهُ مِنْ أَوَّل مَا يَبُول ) . وَكَذَا رَوَى مُحَمَّد بْن الْحَنَفِيَّة عَنْ عَلِيّ , وَنَحْوه عَنْ اِبْن عَبَّاس , وَبِهِ قَالَ اِبْن الْمُسَيِّب وَأَبُو حَنِيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمَّد , وَحَكَاهُ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيّ . وَقَالَ قَوْم : لَا دَلَالَة فِي الْبَوْل ; فَإِنْ خَرَجَ الْبَوْل مِنْهُمَا جَمِيعًا قَالَ أَبُو يُوسُف : يُحْكَم بِالْأَكْثَرِ . وَأَنْكَرَهُ أَبُو حَنِيفَة وَقَالَ : أَتَكِيلُهُ ! وَلَمْ يَجْعَل أَصْحَاب الشَّافِعِيّ لِلْكَثْرَةِ حُكْمًا . وَحُكِيَ عَنْ عَلِيّ وَالْحَسَن أَنَّهُمَا قَالَا : تُعَدّ أَضْلَاعه , فَإِنَّ الْمَرْأَة تَزِيد عَلَى الرَّجُل بِضِلْعٍ وَاحِد . وَقَدْ مَضَى مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا فِي آيَة الْمَوَارِيث فِي " النِّسَاء " مُجَوَّدًا وَالْحَمْد لِلَّهِ .


قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ : وَقَدْ أَنْكَرَ قَوْم مِنْ رُءُوس الْعَوَامّ وُجُود الْخُنْثَى , لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَسَمَ الْخَلْق إِلَى ذَكَر وَأُنْثَى . قُلْنَا : هَذَا جَهْل بِاللُّغَةِ , وَغَبَاوَة عَنْ مَقْطَع الْفَصَاحَة , وَقُصُور عَنْ مَعْرِفَة سَعَة الْقُدْرَة . أَمَّا قُدْرَة اللَّه سُبْحَانه فَإِنَّهُ وَاسِع عَلِيم , وَأَمَّا ظَاهِر الْقُرْآن فَلَا يَنْفِي وُجُود الْخُنْثَى ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ : " لِلَّهِ مُلْك السَّمَاوَات وَالْأَرْض يَخْلُق مَا يَشَاء " . فَهَذَا عُمُوم مَدْح فَلَا يَجُوز تَخْصِيصه ; لِأَنَّ الْقُدْرَة تَقْتَضِيه . وَأَمَّا قَوْله : " يَهَب لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَب لِمَنْ يَشَاء الذُّكُور . أَوْ يُزَوِّجهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَل مَنْ يَشَاء عَقِيمًا " فَهَذَا إِخْبَار عَنْ الْغَالِب فِي الْمَوْجُودَات , وَسَكَتَ عَنْ ذِكْر النَّادِر لِدُخُولِهِ تَحْت عُمُوم الْكَلَام الْأَوَّل , وَالْوُجُود يَشْهَد لَهُ وَالْعِيَان يُكَذِّب مُنْكِرَهُ , وَقَدْ كَانَ يَقْرَأ مَعَنَا بِرِبَاطِ أَبِي سَعِيد عَلَى الْإِمَام الشَّهِيد مِنْ بِلَاد الْمَغْرِب خُنْثَى لَيْسَ لَهُ لِحْيَة وَلَهُ ثَدْيَانِ وَعِنْده جَارِيَة ; فَرَبّك أَعْلَم بِهِ , وَمَعَ طُول الصُّحْبَة عَقَلَنِي الْحَيَاء عَنْ سُؤَاله , وَبِوُدِّي الْيَوْم لَوْ كَاشَفْته عَنْ حَاله .
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌسورة الشورى الآية رقم 51
سَبَب ذَلِكَ أَنَّ الْيَهُود قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَلَا تُكَلِّم اللَّه وَتَنْظُر إِلَيْهِ إِنْ كُنْت نَبِيًّا كَمَا كَلَّمَهُ مُوسَى وَنَظَرَ إِلَيْهِ ; فَإِنَّا لَنْ نُؤْمِن لَك حَتَّى تَفْعَل ذَلِكَ . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ مُوسَى لَنْ يَنْظُر إِلَيْهِ ) فَنَزَلَ قَوْله : " وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمهُ اللَّه إِلَّا وَحْيًا " ; ذَكَرَهُ النَّقَّاش وَالْوَاحِدِيّ وَالثَّعْلَبِيّ . " وَحْيًا " قَالَ مُجَاهِد : نَفَثَ يَنْفُث فِي قَلْبه فَيَكُون إِلْهَامًا ; وَمِنْهُ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ رُوح الْقُدُس نَفَثَ فِي رُوعِي إِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوت حَتَّى تَسْتَكْمِل , رِزْقهَا وَأَجَلهَا فَاتَّقُوا اللَّه وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَب . خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ ) . " أَوْ مِنْ وَرَاء حِجَاب " كَمَا كَلَّمَ مُوسَى . " أَوْ يُرْسِل رَسُولًا " كَإِرْسَالِهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام . وَقِيلَ : " إِلَّا وَحْيًا " رُؤْيَا يَرَاهَا فِي مَنَامه ; قَالَهُ مُحَمَّد بْن زُهَيْر .

كَمَا كَلَّمَ مُوسَى .

قَالَ زُهَيْر : هُوَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام .

وَهَذَا الْوَحْي مِنْ الرُّسُل خِطَاب مِنْهُمْ لِلْأَنْبِيَاءِ يَسْمَعُونَهُ نُطْقًا وَيَرَوْنَهُ عِيَانًا . وَهَكَذَا كَانَتْ حَال جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام إِذَا نَزَلَ بِالْوَحْيِ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : نَزَلَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام عَلَى كُلّ نَبِيّ فَلَمْ يَرَهُ مِنْهُمْ إِلَّا مُحَمَّد وَعِيسَى وَمُوسَى وَزَكَرِيَّا عَلَيْهِمْ السَّلَام . فَأَمَّا غَيْرهمْ فَكَانَ وَحْيًا إِلْهَامًا فِي الْمَنَام . وَقُلْ : " إِلَّا وَحْيًا " بِإِرْسَالِ جِبْرِيل " أَوْ مِنْ وَرَاء حِجَاب " كَمَا كَلَّمَ مُوسَى . " أَوْ يُرْسِل رَسُولًا " إِلَى النَّاس كَافَّة . وَقَرَأَ الزُّهْرِيّ وَشَيْبَة وَنَافِع " أَوْ يُرْسِل رَسُولًا فَيُوحِي " بِرَفْعِ الْفِعْلَيْنِ . الْبَاقُونَ بِنَصْبِهِمَا . فَالرَّفْع عَلَى الِاسْتِئْنَاف ; أَيْ وَهُوَ يُرْسِل . وَقِيلَ : " يُرْسِل " بِالرَّفْعِ فِي مَوْضِع الْحَال ; وَالتَّقْدِير إِلَّا مُوحِيًا أَوْ مُرْسَلًا . وَمَنْ نَصَبَ عَطَفُوهُ عَلَى مَحَلّ الْوَحْي ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمهُ اللَّه إِلَّا أَنْ يُوحِي أَوْ يُرْسِل . وَيَجُوز أَنْ يَكُون النَّصْب عَلَى تَقْدِير حَذْف الْجَار مِنْ أَنْ الْمُضْمَرَة . وَيَكُون فِي مَوْضِع الْحَال ; التَّقْدِير أَوْ بِأَنْ يُرْسِل رَسُولًا . وَلَا يَجُوز أَنْ يَعْطِف " أَوْ يُرْسِل " بِالنَّصْبِ عَلَى " أَنْ يُكَلِّمهُ " لِفَسَادِ الْمَعْنَى ; لِأَنَّهُ يَصِير : مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُرْسِلهُ أَوْ أَنْ يُرْسِل إِلَيْهِ رَسُولًا , وَهُوَ قَدْ أَرْسَلَ الرُّسُل مِنْ الْبَشَر وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ .


اِحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَة مَنْ رَأَى فِيمَنْ حَلَفَ أَلَّا يُكَلِّم رَجُلًا فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولًا أَنَّهُ حَانِث , لِأَنَّ الْمُرْسَل قَدْ سُمِّيَ فِيهَا مُكَلِّمًا لِلْمُرْسَلِ إِلَيْهِ ; إِلَّا أَنْ يَنْوِي الْحَالِف الْمُوَاجَهَة بِالْخِطَابِ . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّجُل يَحْلِف أَلَّا يُكَلِّم فُلَانًا فَكَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا أَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولًا ; فَقَالَ الثَّوْرِيّ : الرَّسُول لَيْسَ بِكَلَامٍ . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا يُبَيِّن أَنْ يَحْنَث . وَقَالَ النَّخَعِيّ : وَالْحُكْم فِي الْكِتَاب يَحْنَث . وَقَالَ مَالِك : يَحْنَث فِي الْكِتَاب وَالرَّسُول . وَقَالَ مُرَّة : الرَّسُول أَسْهَل مِنْ الْكِتَاب . وَقَالَ أَبُو عُبَيْد : الْكَلَام سِوَى الْخَطّ وَالْإِشَارَة . وَقَالَ أَبُو ثَوْر : لَا يَحْنَث فِي الْكِتَاب . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : لَا يَحْنَث فِي الْكِتَاب وَالرَّسُول . قُلْت : وَهُوَ قَوْل مَالِك . قَالَ أَبُو عُمَر : وَمَنْ حَلَفَ أَلَّا يُكَلِّم رَجُلًا فَسَلَّمَ عَلَيْهِ عَامِدًا أَوْ سَاهِيًا , أَوْ سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَة هُوَ فِيهِمْ فَقَدْ حَنِثَ فِي ذَلِكَ كُلّه عِنْد مَالِك . وَإِنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولًا أَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاة لَمْ يَحْنَث . قُلْت : يَحْنَث فِي الرَّسُول إِلَّا أَنْ يَنْوِي الْمُشَافَهَة ; لِلْآيَةِ , وَهُوَ قَوْل مَالِك وَابْن الْمَاجِشُون . وَقَدْ مَضَى فِي أَوَّل " سُورَة مَرْيَم " هَذَا الْمَعْنَى عَنْ عُلَمَائِنَا مُسْتَوْفًى , وَالْحَمْد لِلَّهِ .
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍسورة الشورى الآية رقم 52
أَيْ وَكَاَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَى الْأَنْبِيَاء مِنْ قَبْلك أَوْحَيْنَا إِلَيْك " رُوحًا " أَيْ نُبُوَّة ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس . الْحَسَن وَقَتَادَة : رَحْمَة مِنْ عِنْدنَا . السُّدِّيّ : وَحْيًا . الْكَلْبِيّ : كِتَابًا . الرَّبِيع : هُوَ جِبْرِيل . الضَّحَّاك : هُوَ الْقُرْآن . وَهُوَ قَوْل مَالِك بْن دِينَار . وَسَمَّاهُ رُوحًا لِأَنَّ فِيهِ حَيَاة مِنْ مَوْت الْجَهْل . وَجَعَلَهُ مِنْ أَمْره بِمَعْنَى أَنْزَلَ كَمَا شَاءَ عَلَى مَنْ يَشَاء مِنْ النَّظْم الْمُعْجِز وَالتَّأْلِيف الْمُعْجِب . وَيُمْكِن أَنْ يُحْمَل قَوْله : " وَيَسْأَلُونَك عَنْ الرُّوح " [ الْإِسْرَاء : 85 ] عَلَى الْقُرْآن أَيْضًا " قُلْ الرُّوح مِنْ أَمْر رَبِّي " [ الْإِسْرَاء : 85 ] أَيْ يَسْأَلُونَك مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا الْقُرْآن , قُلْ إِنَّهُ مِنْ أَمْر اللَّه أُنْزِلَ عَلَيَّ مُعْجِزًا ; ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيّ . وَكَانَ مَالِك بْن دِينَار يَقُول : يَا أَهْل الْقُرْآن , مَاذَا زَرَعَ الْقُرْآن فِي قُلُوبكُمْ ؟ فَإِنَّ الْقُرْآن رَبِيع الْقُلُوب كَمَا أَنَّ الْغَيْث رَبِيع الْأَرْض .

أَيْ لَمْ تَكُنْ تَعْرِف الطَّرِيق إِلَى الْإِيمَان . وَظَاهِر هَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ قَبْل الْإِيحَاء مُتَّصِفًا بِالْإِيمَانِ . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَهُوَ مِنْ مُجَوَّزَات الْعُقُول , وَاَلَّذِي صَارَ إِلَيْهِ الْمُعْظَم أَنَّ اللَّه مَا بَعَثَ نَبِيًّا إِلَّا كَانَ مُؤْمِنًا بِهِ قَبْل الْبَعْثَة . وَفِيهِ تَحَكُّم , إِلَّا أَنْ يَثْبُت ذَلِكَ بِتَوْقِيفِ مَقْطُوع بِهِ . قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْل عِيَاض وَأَمَّا عِصْمَتهمْ مِنْ هَذَا الْفَنّ قَبْل النُّبُوَّة فَلِلنَّاسِ فِيهِ خِلَاف ; وَالصَّوَاب أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ قَبْل النُّبُوَّة مِنْ الْجَهْل بِاَللَّهِ وَصِفَاته وَالتَّشَكُّك فِي شَيْء مِنْ ذَلِكَ . وَقَدْ تَعَاضَدَتْ الْأَخْبَار وَالْآثَار عَنْ الْأَنْبِيَاء بِتَنْزِيهِهِمْ عَنْ هَذِهِ النَّقِيصَة مُنْذُ وُلِدُوا ; وَنَشْأَتهمْ عَلَى التَّوْحِيد وَالْإِيمَان , بَلْ عَلَى إِشْرَاق أَنْوَار الْمَعَارِف وَنَفَحَات أَلْطَاف السَّعَادَة , وَمَنْ طَالَعَ سِيَرهمْ مُنْذُ صِبَاهُمْ إِلَى مَبْعَثهمْ حَقَّقَ ذَلِكَ ; كَمَا عُرِفَ مِنْ حَال مُوسَى وَعِيسَى وَيَحْيَى وَسُلَيْمَان وَغَيْرهمْ عَلَيْهِمْ السَّلَام . قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَآتَيْنَاهُ الْحُكْم صَبِيًّا " [ مَرْيَم : 12 ] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : أُعْطِيَ يَحْيَى الْعِلْم بِكِتَابِ اللَّه فِي حَال صِبَاهُ . قَالَ مَعْمَر : كَانَ اِبْن سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاث ; فَقَالَ لَهُ الصِّبْيَان : لِمَ لَا تَلْعَب ! فَقَالَ : أَلِلَّعِبِ خُلِقْت ! وَقِيلَ فِي قَوْله : " مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّه " [ آل عِمْرَان : 39 ] صَدَّقَ يَحْيَى بِعِيسَى وَهُوَ اِبْن ثَلَاث سِنِينَ , فَشَهِدَ لَهُ أَنَّهُ كَلِمَة اللَّه وَرُوحه وَقِيلَ : صَدَّقَهُ وَهُوَ فِي بَطْن أُمّه ; فَكَانَتْ أُمّ يَحْيَى تَقُول لِمَرْيَم إِنِّي أَجِد مَا فِي بَطْنِي يَسْجُد لِمَا فِي بَطْنك تَحِيَّة لَهُ . وَقَدْ نَصَّ اللَّه عَلَى كَلَام عِيسَى لِأُمِّهِ عِنْد وِلَادَتهَا إِيَّاهُ بِقَوْلِهِ : " أَلَّا تَحْزَنِي " [ مَرْيَم : 24 ] عَلَى قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ " مِنْ تَحْتهَا " , وَعَلَى قَوْل مَنْ قَالَ : إِنَّ الْمُنَادَى عِيسَى وَنُصَّ عَلَى كَلَامه فِي مَهْده فَقَالَ : " إِنِّي عَبْد اللَّه آتَانِيَ الْكِتَاب وَجَعَلَنِي نَبِيًّا " [ مَرْيَم : 30 ] . وَقَالَ " فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَان وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا " [ الْأَنْبِيَاء : 79 ] وَقَدْ ذُكِرَ مِنْ حُكْم سُلَيْمَان وَهُوَ صَبِيّ يَلْعَب فِي قِصَّة الْمَرْجُومَة وَفِي قِصَّة الصَّبِيّ مَا اِقْتَدَى بِهِ أَبُوهُ دَاوُدُ . وَحَكَى الطَّبَرِيّ أَنَّ عُمْره كَانَ حِين أُوتِيَ الْمُلْك اِثْنَيْ عَشَرَ عَامًا . وَكَذَلِكَ قِصَّة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام مَعَ فِرْعَوْن وَأَخْذه بِلِحْيَتِهِ وَهُوَ طِفْل . وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْله تَعَالَى : " وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيم رُشْده مِنْ قَبْل " [ الْأَنْبِيَاء : 51 ] : أَيْ هَدَيْنَاهُ صَغِيرًا ; قَالَهُ مُجَاهِد وَغَيْره . وَقَالَ اِبْن عَطَاء : اِصْطَفَاهُ قَبْل إِبْدَاء خَلْقه . وَقَالَ بَعْضهمْ : لَمَّا وُلِدَ إِبْرَاهِيم بَعَثَ اللَّه إِلَيْهِ مَلَكًا يَأْمُرهُ عَنْ اللَّه تَعَالَى أَنْ يُعَرِّفهُ بِقَلْبِهِ وَيُذَكِّرهُ بِلِسَانِهِ فَقَالَ : قَدْ فَعَلْت ; وَلَمْ يَقُلْ أَفْعَل ; فَذَلِكَ رُشْده . وَقِيلَ : إِنَّ إِلْقَاء إِبْرَاهِيم فِي النَّار وَمِحْنَته كَانَتْ وَهُوَ اِبْن سِتّ عَشْرَة سَنَة . وَإِنَّ اِبْتِلَاء إِسْحَاق بِالذَّبْحِ وَهُوَ اِبْن سَبْع سِنِينَ . وَأَنَّ اِسْتِدْلَال إِبْرَاهِيم بِالْكَوْكَبِ وَالْقَمَر وَالشَّمْس كَانَ وَهُوَ اِبْن خَمْس عَشْرَة سَنَة . وَقِيلَ أُوحِيَ إِلَى يُوسُف وَهُوَ صَبِيّ عِنْدَمَا هُمْ إِخْوَته بِإِلْقَائِهِ فِي الْجُبّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا " [ يُوسُف : 15 ] الْآيَة ; إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ أَخْبَارهمْ . وَقَدْ حَكَى أَهْل السِّيَر أَنَّ آمِنَة بِنْت وَهْب أُخْبِرَتْ أَنَّ نَبِيّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُلِدَ حِين وُلِدَ بَاسِطًا يَدَيْهِ إِلَى الْأَرْض رَافِعًا رَأْسه إِلَى السَّمَاء , وَقَالَ فِي حَدِيثه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَمَّا نَشَأَتْ بُغِّضَتْ إِلَيَّ الْأَوْثَان وَبُغِّضَ إِلَيَّ الشِّعْر وَلَمْ أَهُمّ بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّة تَفْعَلهُ إِلَّا مَرَّتَيْنِ فَعَصَمَنِي اللَّه مِنْهُمَا ثُمَّ لَمْ أَعُدْ ) . ثُمَّ يَتَمَكَّن الْأَمْر لَهُمْ , وَتَتَرَادَف نَفَحَات اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِمْ , وَتَشْرَق أَنْوَار الْمَعَارِف فِي قُلُوبهمْ حَتَّى يَصِلُوا الْغَايَة وَيَبْلُغُوا بِاصْطِفَاءِ اللَّه تَعَالَى لَهُمْ بِالنُّبُوَّةِ فِي تَحْصِيل الْخِصَال الشَّرِيفَة النِّهَايَة دُون مُمَارَسَة وَلَا رِيَاضَة . قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا " [ يُوسُف : 22 ] . قَالَ الْقَاضِي : وَلَمْ يَنْقُل أَحَد مِنْ أَهْل الْأَخْبَار أَنَّ أَحَدًا نُبِّئَ وَاصْطُفِيَ مِمَّنْ عُرِفَ بِكُفْرٍ وَإِشْرَاك قَبْل ذَلِكَ . وَمُسْتَنَد هَذَا الْبَاب النَّقْل . وَقَدْ اِسْتَدَلَّ بَعْضهمْ بِأَنَّ الْقُلُوب تَنْفِر عَمَّنْ كَانَتْ هَذِهِ سَبِيله . قَالَ الْقَاضِي : وَأَنَا أَقُول إِنَّ قُرَيْشًا قَدْ رَمَتْ نَبِيّنَا عَلَيْهِ السَّلَام بِكُلِّ مَا اِفْتَرَتْهُ , وَعَيَّرَ كُفَّار الْأُمَم أَنْبِيَاءَهَا بِكُلِّ مَا أَمْكَنَهَا وَاخْتَلَقَتْهُ , مِمَّا نَصَّ اللَّه عَلَيْهِ أَوْ نَقَلَتْهُ إِلَيْنَا الرُّوَاة , وَلَمْ نَجِد فِي شَيْء مِنْ ذَلِكَ تَعْيِيرًا لِوَاحِدِ مِنْهُمْ بِرَفْضِهِ آلِهَتهمْ وَتَقْرِيعه بِذَمِّهِ بِتَرْكِ مَا كَانَ قَدْ جَامَعَهُمْ عَلَيْهِ . وَلَوْ كَانَ هَذَا لَكَانُوا بِذَلِكَ مُبَادِرِينَ , وَبِتَلَوُّنِهِ فِي مَعْبُوده مُحْتَجِّينَ , وَلَكَانَ تَوْبِيخهمْ لَهُ بِنَهْيِهِمْ عَمَّا كَانَ يُعْبَد قَبْل أَفْظَع وَأَقْطَع فِي الْحُجَّة مِنْ تَوْبِيخه بِنَهْيِهِمْ عَنْ تَرْكه آلِهَتهمْ وَمَا كَانَ يَعْبُد آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْل ; فَفِي إِطْبَاقهمْ عَلَى الْإِعْرَاض عَنْهُ دَلِيل عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا سَبِيلًا إِلَيْهِ ; إِذْ لَوْ كَانَ لَنُقِلَ وَمَا سَكَتُوا عَنْهُ كَمَا لَمْ يَسْكُتُوا عَنْ تَحْوِيل الْقِبْلَة وَقَالُوا : " مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتهمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا " [ الْبَقَرَة : 142 ] كَمَا حَكَاهُ اللَّه عَنْهُمْ .


وَتَكَلَّمَ الْعُلَمَاء فِي نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; هَلْ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِدِينٍ قَبْل الْوَحْي أَمْ لَا ; فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ مُطْلَقًا وَأَحَالَهُ عَقْلًا . قَالُوا : لِأَنَّهُ يَبْعُد أَنْ يَكُون مَتْبُوعًا مَنْ عُرِفَ تَابِعًا , وَبَنَوْا هَذَا عَلَى التَّحْسِين وَالتَّقْبِيح . وَقَالَتْ فِرْقَة أُخْرَى : بِالْوَقْفِ فِي أَمْره عَلَيْهِ السَّلَام وَتَرْك قَطْع الْحُكْم عَلَيْهِ بِشَيْءٍ فِي ذَلِكَ , إِذْ لَمْ يُحِلْ الْوَجْهَيْنِ مِنْهُمَا الْعَقْل وَلَا اِسْتَبَانَ عِنْدهَا فِي أَحَدهمَا طَرِيق النَّقْل , وَهَذَا مَذْهَب أَبِي الْمَعَالِي . وَقَالَتْ فِرْقَة ثَالِثَة : إِنَّهُ كَانَ مُتَعَبَّدًا بِشَرْعِ مَنْ قَبْله وَعَامِلًا بِهِ ; ثُمَّ اِخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي التَّعْيِين , فَذَهَبَتْ طَائِفَة إِلَى أَنَّهُ كَانَ عَلَى دِين عِيسَى فَإِنَّهُ نَاسِخ لِجَمِيعِ الْأَدْيَان وَالْمِلَل قَبْلهَا ; فَلَا يَجُوز أَنْ يَكُون النَّبِيّ عَلَى دِين مَنْسُوخ . وَذَهَبَتْ طَائِفَة إِلَى أَنَّهُ كَانَ عَلَى دِين إِبْرَاهِيم ; لِأَنَّهُ مِنْ وَلَده وَهُوَ أَبُو الْأَنْبِيَاء . وَذَهَبَتْ طَائِفَة إِلَى أَنَّهُ كَانَ عَلَى دِين مُوسَى ; لِأَنَّهُ أَقْدَم الْأَدْيَان . وَذَهَبَتْ الْمُعْتَزِلَة إِلَى أَنَّهُ لَا بُدّ أَنْ يَكُون عَلَى دِين وَلَكِنْ عَيْن الدِّين غَيْر مَعْلُومَة عِنْدنَا . وَقَدْ أَبْطَلَ هَذِهِ الْأَقْوَال كُلّهَا أَئِمَّتنَا ; إِذْ هِيَ أَقْوَال مُتَعَارِضَة وَلَيْسَ فِيهَا دَلَالَة قَاطِعَة , وَإِنْ كَانَ الْعَقْل يُجَوِّز ذَلِكَ كُلّه . وَاَلَّذِي يُقْطَع بِهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام لَمْ يَكُنْ مَنْسُوبًا إِلَى وَاحِد مِنْ الْأَنْبِيَاء نِسْبَة تَقْتَضِي أَنْ يَكُون وَاحِدًا مِنْ أُمَّته وَمُخَاطَبًا بِكُلِّ شَرِيعَته ; بَلْ شَرِيعَته مُسْتَقِلَّة بِنَفْسِهَا مُفْتَتِحَة مِنْ عِنْد اللَّه الْحَاكِم جَلَّ وَعَزَّ وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَلَا سَجَدَ لِصَنَمٍ , وَلَا أَشْرَكَ بِاَللَّهِ , وَلَا زَنَى وَلَا شَرِبَ الْخَمْر , وَلَا شَهِدَ السَّامِر وَلَا حَضَرَ حِلْف الْمَطَر وَلَا حِلْف الْمُطَيَّبِينَ ; بَلْ نَزَّهَهُ اللَّه وَصَانَهُ عَنْ ذَلِكَ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى عُثْمَان بْن أَبِي شَيْبَة حَدِيثًا بِسَنَدِهِ عَنْ جَابِر أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَشْهَد مَعَ الْمُشْرِكِينَ مَشَاهِدهمْ , فَسَمِعَ مَلَكَيْنِ خَلْفه أَحَدهمَا يَقُول لِصَاحِبِهِ : اِذْهَبْ حَتَّى تَقُوم خَلْفه , فَقَالَ الْآخَر : كَيْف أَقُوم خَلْفه وَعَهِدَهُ بِاسْتِلَامِ الْأَصْنَام فَلَمْ يَشْهَدهُمْ بَعْد ؟ فَالْجَوَاب أَنَّ هَذَا حَدِيث أَنْكَرَهُ الْإِمَام أَحْمَد بْن حَنْبَل جِدًّا وَقَالَ : هَذَا مَوْضُوع أَوْ شَبِيه بِالْمَوْضُوعِ . وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : إِنَّ عُثْمَان وَهِمَ فِي إِسْنَاده , وَالْحَدِيث بِالْجُمْلَةِ مُنْكَر غَيْر مُتَّفَق عَلَى إِسْنَاده فَلَا يُلْتَفَت إِلَيْهِ , وَالْمَعْرُوف عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلَافه عِنْد أَهْل الْعِلْم مِنْ قَوْله : ( بُغِّضَتْ إِلَيَّ الْأَصْنَام ) وَقَوْله فِي قِصَّة بَحِيرَا حِين اِسْتَحْلَفَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى إِذْ لَقِيَهُ بِالشَّامِ فِي سُفْرَته مَعَ عَمّه أَبِي طَالِب وَهُوَ صَبِيّ , وَرَأَى فِيهِ عَلَامَات النُّبُوَّة فَاخْتَبَرَهُ بِذَلِكَ ; فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تَسْأَلنِي بِهِمَا فَوَاَللَّهِ مَا أَبْغَضْت شَيْئًا قَطُّ بُغْضهمَا ) فَقَالَ لَهُ بَحِيرَا : فَبِاَللَّهِ إِلَّا مَا أَخْبَرْتنِي عَمَّا أَسْأَلك عَنْهُ , فَقَالَ : ( سَلْ عَمَّا بَدَا لَك ) . وَكَذَلِكَ الْمَعْرُوف مِنْ سِيرَته عَلَيْهِ السَّلَام وَتَوْفِيق اللَّه إِيَّاهُ لَهُ أَنَّهُ كَانَ قَبْل نُبُوَّته يُخَالِف الْمُشْرِكِينَ فِي وُقُوفهمْ بِمُزْدَلِفَة فِي الْحَجّ , وَكَانَ يَقِف هُوَ بِعَرَفَة , لِأَنَّهُ كَانَ مَوْقِف إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى : " قُلْ بَلْ مِلَّة إِبْرَاهِيم " [ الْبَقَرَة : 135 ] وَقَالَ : " أَنْ اِتَّبِعْ مِلَّة إِبْرَاهِيم " [ النَّحْل : 12 ] وَقَالَ : " شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّين " [ الشُّورَى : 13 ] الْآيَة . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُون مُتَعَبَّدًا بِشَرْعٍ . فَالْجَوَاب أَنَّ ذَلِكَ فِيمَا لَا تَخْتَلِف فِيهِ الشَّرَائِع مِنْ التَّوْحِيد وَإِقَامَة الدِّين ; عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي غَيْر مَوْضِع وَفِي هَذِهِ السُّورَة عِنْد قَوْله : " شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّين " [ الشُّورَى : 13 ] وَالْحَمْد لِلَّهِ .


الرَّابِعَة : إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاء اِخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : " مَا كُنْت تَدْرِي مَا الْكِتَاب وَلَا الْإِيمَان " . فَقَالَ جَمَاعَة : مَعْنَى الْإِيمَان فِي هَذِهِ الْآيَة شَرَائِع الْإِيمَان وَمَعَالِمه ; ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ . وَقِيلَ : تَفَاصِيل هَذَا الشَّرْع ; أَيْ كُنْت غَافِلًا عَنْ هَذِهِ التَّفَاصِيل . وَيَجُوز إِطْلَاق لَفْظ الْإِيمَان عَلَى تَفَاصِيل الشَّرْع ; ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيّ : وَقِيلَ : مَا كُنْت تَدْرِي قَبْل الْوَحْي أَنْ تَقْرَأ الْقُرْآن , وَلَا كَيْف تَدْعُو الْخَلْق إِلَى الْإِيمَان ; وَنَحْوه عَنْ أَبِي الْعَالِيَة . وَقَالَ بَكْر الْقَاضِي : وَلَا الْإِيمَان الَّذِي هُوَ الْفَرَائِض وَالْأَحْكَام . قَالَ : وَكَانَ قَبْل مُؤْمِنًا بِتَوْحِيدِهِ ثُمَّ نَزَلَتْ الْفَرَائِض الَّتِي لَمْ يَكُنْ يَدْرِيهَا قَبْل ; فَزَادَ بِالتَّكْلِيفِ إِيمَانًا . وَهَذِهِ الْأَقْوَال الْأَرْبَعَة مُتَقَارِبَة . وَقَالَ اِبْن خُزَيْمَة : عَنَى بِالْإِيمَانِ الصَّلَاة ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَمَا كَانَ اللَّه لِيُضِيعَ إِيمَانكُمْ " [ الْبَقَرَة : 143 ] أَيْ صَلَاتكُمْ إِلَى بَيْت الْمَقْدِس ; فَيَكُون اللَّفْظ عَامًّا وَالْمُرَاد الْخُصُوصِيّ . وَقَالَ الْحُسَيْن بْن الْفَضْل : أَيْ مَا كُنْت تَدْرِي مَا الْكِتَاب وَلَا أَهْل الْإِيمَان . وَهُوَ مِنْ بَاب حَذْف الْمُضَاف ; أَيْ مَنْ الَّذِي يُؤْمِن ؟ أَبُو طَالِب أَوْ الْعَبَّاس أَوْ غَيْرهمَا . وَقِيلَ : مَا كُنْت تَدْرِي شَيْئًا إِذْ كُنْت فِي الْمَهْد وَقَبْل الْبُلُوغ . وَحَكَى الْمَاوَرْدِيّ نَحْوه عَنْ عَلِيّ بْن عِيسَى قَالَ : مَا كُنْت تَدْرِي مَا الْكِتَاب لَوْلَا الرِّسَالَة , وَلَا الْإِيمَان لَوْلَا الْبُلُوغ . وَقِيلَ : مَا كُنْت تَدْرِي مَا الْكِتَاب لَوْلَا إِنْعَامنَا عَلَيْك , وَلَا الْإِيمَان لَوْلَا هِدَايَتنَا لَك , وَهُوَ مُحْتَمَل . وَفِي هَذَا الْإِيمَان وَجْهَانِ : أَحَدهمَا : أَنَّهُ الْإِيمَان بِاَللَّهِ , وَهَذَا يَعْرِفهُ بَعْد بُلُوغه وَقَبْل نُبُوَّته . وَالثَّانِي : أَنَّهُ دِين الْإِسْلَام , وَهَذَا لَا يَعْرِفهُ إِلَّا بَعْد النُّبُوَّة . قُلْت : الصَّحِيح أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حِين نَشَأَ إِلَى حِين بُلُوغه ; عَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَقِيلَ : " مَا كُنْت تَدْرِي مَا الْكِتَاب وَلَا الْإِيمَان " أَيْ كُنْت مِنْ قَوْم أُمِّيِّينَ لَا يَعْرِفُونَ الْكِتَاب وَلَا الْإِيمَان , حَتَّى تَكُون قَدْ أَخَذْت مَا جِئْتهمْ بِهِ عَمَّنْ كَانَ يَعْلَم ذَلِكَ مِنْهُمْ ; وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَمَا كُنْت تَتْلُو مِنْ قَبْله مِنْ كِتَاب وَلَا تَخُطّهُ بِيَمِينِك إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ " [ الْعَنْكَبُوت : 48 ] رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا .

قَالَ اِبْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك : يَعْنِي الْإِيمَان . السُّدِّيّ : الْقُرْآن وَقِيلَ الْوَحْي ; أَيْ جَعَلْنَا هَذَا الْوَحْي

أَيْ مَنْ نَخْتَارهُ لِلنُّبُوَّةِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاء " [ آل عِمْرَان : 74 ] . وَوَحَّدَ الْكِتَابَة لِأَنَّ الْفِعْل فِي كَثْرَة أَسْمَائِهِ بِمَنْزِلَةِ الْفِعْل فِي الِاسْم الْوَاحِد ; أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُول : إِقْبَالك وَإِدْبَارك يُعْجِبنِي ; فَتَوَحَّدَ , وَهُمَا اِثْنَانِ .

أَيْ تَدْعُو وَتُرْشِد

دِين قَوِيم لَا اِعْوِجَاج فِيهِ . وَقَالَ عَلِيّ : إِلَى كِتَاب مُسْتَقِيم . وَقَرَأَ عَاصِم الْجَحْدَرِيّ وَحَوْشَب " وَإِنَّك لَتَهْدِي " غَيْر مُسَمَّى الْفَاعِل ; أَيْ لَتُدْعَى . الْبَاقُونَ " لَتَهْدِي " مُسَمَّى الْفَاعِل . وَفِي قِرَاءَة أُبَيّ " وَإِنَّك لَتَدْعُو " . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا لَا يُقْرَأ بِهِ ; لِأَنَّهُ مُخَالِف لِلسَّوَادِ , وَإِنَّمَا يُحْمَل مَا كَانَ مِثْله عَلَى أَنَّهُ مِنْ قَائِله عَلَى جِهَة التَّفْسِير ; كَمَا قَالَ : " وَإِنَّك لَتَهْدِي " أَيْ لَتَدْعُو . وَرَوَى مَعْمَر عَنْ قَتَادَة فِي قَوْله تَعَالَى : " وَإِنَّك لَتَهْدِي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم " قَالَ : " وَلِكُلِّ قَوْم هَادٍ " [ الرَّعْد : 7 ] .
صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُسورة الشورى الآية رقم 53
بَدَل مِنْ الْأَوَّل بَدَل الْمَعْرِفَة مِنْ النَّكِرَة . قَالَ عَلِيّ : هُوَ الْقُرْآن . وَقِيلَ الْإِسْلَام . وَرَوَاهُ النَّوَّاس بْن سَمْعَان عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

مُلْكًا وَعَبْدًا وَخَلْقًا .

وَعِيد بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاء . قَالَ سَهْل بْن أَبِي الْجَعْد : اِحْتَرَقَ مُصْحَف فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا قَوْله : " أَلَا إِلَى اللَّه تَصِير الْأُمُور " وَغَرَق مُصْحَف فَامَّحَى كُلّه إِلَّا قَوْله : " أَلَا إِلَى اللَّه تَصِير الْأُمُور " وَالْحَمْد لِلَّهِ وَحْده .
الصفحة 1الصفحة 2