الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3
وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَسورة النور الآية رقم 31
" وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ " خَصَّ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى الْإِنَاث هُنَا بِالْخِطَابِ عَلَى طَرِيق التَّأْكِيد ; فَإِنَّ قَوْله " قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ " يَكْفِي ; لِأَنَّهُ قَوْل عَامّ يَتَنَاوَل الذَّكَر وَالْأُنْثَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ , حَسَب كُلّ خِطَاب عَامّ فِي الْقُرْآن . وَظَهَرَ التَّضْعِيف فِي " يَغْضُضْنَ " وَلَمْ يَظْهَر فِي " يَغُضُّوا " لِأَنَّ لَام الْفِعْل مِنْ الثَّانِي سَاكِنَة وَمِنْ الْأَوَّل مُتَحَرِّكَة , وَهُمَا فِي مَوْضِع جَزْم جَوَابًا . وَبَدَأَ بِالْغَضِّ قَبْل الْفَرْج لِأَنَّ الْبَصَر رَائِد لِلْقَلْبِ ; كَمَا أَنَّ الْحُمَّى رَائِد الْمَوْت . وَأَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى بَعْض الشُّعَرَاء فَقَالَ : أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْعَيْن لِلْقَلْبِ رَائِد فَمَا تَأْلَف الْعَيْنَانِ فَالْقَلْب آلِف وَفِي الْخَبَر ( النَّظَر سَهْم مِنْ سِهَام إِبْلِيس مَسْمُوم فَمَنْ غَضَّ بَصَره أَوْرَثَهُ اللَّه الْحَلَاوَة فِي قَلْبه ) . وَقَالَ مُجَاهِد : إِذَا أَقْبَلَتْ الْمَرْأَة جَلَسَ الشَّيْطَان عَلَى رَأْسهَا فَزَيَّنَهَا لِمَنْ يَنْظُر ; فَإِذَا أَدْبَرَتْ جَلَسَ عَلَى عَجُزهَا فَزَيَّنَهَا لِمَنْ يَنْظُر . وَعَنْ خَالِد بْن أَبِي عِمْرَان قَالَ : لَا تُتْبِعَنَّ النَّظْرَة النَّظْرَة فَرُبَّمَا نَظَرَ الْعَبْد نَظْرَة نَغِلَ مِنْهَا قَلْبه كَمَا يَنْغَل الْأَدِيم فَلَا يُنْتَفَع بِهِ . فَأَمَرَ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات بِغَضِّ الْأَبْصَار عَمَّا لَا يَحِلّ ; فَلَا يَحِلّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُر إِلَى الْمَرْأَة وَلَا الْمَرْأَة إِلَى الرَّجُل ; فَإِنَّ عَلَاقَتهَا بِهِ كَعَلَاقَتِهِ بِهَا ; وَقَصْدهَا مِنْهُ كَقَصْدِهِ مِنْهَا . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( إِنَّ اللَّه كَتَبَ عَلَى اِبْن آدَم حَظّه مِنْ الزِّنَى أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَة فَالْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَر ... ) الْحَدِيث . وَقَالَ الزُّهْرِيّ فِي النَّظَر إِلَى الَّتِي لَمْ تَحِضْ مِنْ النِّسَاء : لَا يَصْلُح النَّظَر إِلَى شَيْء مِنْهُنَّ مِمَّنْ يُشْتَهَى النَّظَر إِلَيْهِنَّ وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَة . وَكَرِهَ عَطَاء النَّظَر إِلَى الْجَوَارِي اللَّاتِي يُبَعْنَ بِمَكَّةَ إِلَّا أَنْ يُرِيد أَنْ يَشْتَرِي . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَنَّهُ صَرَفَ وَجْه الْفَضْل عَنْ الْخَثْعَمِيَّة حِين سَأَلَتْهُ , وَطَفِقَ الْفَضْل يَنْظُر إِلَيْهَا. وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( الْغَيْرَة مِنْ الْإِيمَان وَالْمِذَاء مِنْ النِّفَاق ) . وَالْمِذَاء هُوَ أَنْ يَجْمَع الرَّجُل بَيْن النِّسَاء وَالرِّجَال ثُمَّ يُخَلِّيهِمْ يُمَاذِي بَعْضهمْ بَعْضًا ; مَأْخُوذ مِنْ الْمَذْي . وَقِيلَ : هُوَ إِرْسَال الرِّجَال إِلَى النِّسَاء ; مِنْ قَوْلهمْ : مَذَيْت الْفَرَس إِذَا أَرْسَلْتهَا تَرْعَى . وَكُلّ ذَكَر يَمْذِي , وَكُلّ أُنْثَى تَقْذِي ; فَلَا يَحِلّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِن بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر أَنْ تُبْدِي زِينَتهَا إِلَّا لِمَنْ تَحِلّ لَهُ ; أَوْ لِمَنْ هِيَ مُحَرَّمَة عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيد ; فَهُوَ آمَن أَنْ يَتَحَرَّك طَبْعه إِلَيْهَا لِوُقُوعِ الْيَأْس لَهُ مِنْهَا .

رَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ نَبْهَان مَوْلَى أُمّ سَلَمَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا وَلِمَيْمُونَةَ وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهَا اِبْن أُمّ مَكْتُوم : ( اِحْتَجِبَا ) فَقَالَتَا : إِنَّهُ أَعْمَى , قَالَ : ( أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا أَلَسْتُمَا تُبْصِرَانِهِ ) . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا الْحَدِيث لَا يَصِحّ عِنْد أَهْل النَّقْل لِأَنَّ رَاوِيه عَنْ أُمّ سَلَمَة نَبْهَان مَوْلَاهَا وَهُوَ مِمَّنْ لَا يُحْتَجّ بِحَدِيثِهِ . وَعَلَى تَقْدِير صِحَّته فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام تَغْلِيظ عَلَى أَزْوَاجه لِحُرْمَتِهِنَّ كَمَا غُلِّظَ عَلَيْهِنَّ أَمْر الْحِجَاب ; كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو دَاوُد وَغَيْره مِنْ الْأَئِمَّة . وَيَبْقَى مَعْنَى الْحَدِيث الصَّحِيح الثَّابِت وَهُوَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ فَاطِمَة بِنْت قَيْس أَنْ تَعْتَدّ فِي بَيْت أُمّ شَرِيك ; ثُمَّ قَالَ : ( تِلْكَ اِمْرَأَة يَغْشَاهَا أَصْحَابِي اِعْتَدِّي عِنْد اِبْن أُمّ مَكْتُوم فَإِنَّهُ رَجُل أَعْمَى تَضَعِينَ ثِيَابك وَلَا يَرَاك ) . قُلْنَا : قَدْ اِسْتَدَلَّ بَعْض الْعُلَمَاء بِهَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّ الْمَرْأَة يَجُوز لَهَا أَنْ تَطَّلِع مِنْ الرَّجُل عَلَى مَا لَا يَجُوز لِلرَّجُلِ أَنْ يَطَّلِع مِنْ الْمَرْأَة كَالرَّأْسِ وَمُعَلَّق الْقُرْط ; وَأَمَّا الْعَوْرَة فَلَا . فَعَلَى هَذَا يَكُون مُخَصَّصًا لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى : " وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارهنَّ " , وَتَكُون " مِنْ " لِلتَّبْعِيضِ كَمَا هِيَ فِي الْآيَة قَبْلهَا. قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَإِنَّمَا أَمَرَهَا بِالِانْتِقَالِ مِنْ بَيْت أُمّ شَرِيك إِلَى بَيْت اِبْن أُمّ مَكْتُوم لِأَنَّ ذَلِكَ أَوْلَى بِهَا مِنْ بَقَائِهَا فِي بَيْت أُمّ شَرِيك ; إِذْ كَانَتْ أُمّ شَرِيك مُؤْثَرَة بِكَثْرَةِ الدَّاخِل إِلَيْهَا , فَيَكْثُر الرَّائِي لَهَا , وَفِي بَيْت اِبْن أُمّ مَكْتُوم لَا يَرَاهَا أَحَد ; فَكَانَ إِمْسَاك بَصَرهَا عَنْهُ أَقْرَب مِنْ ذَلِكَ وَأَوْلَى , فَرُخِّصَ لَهَا فِي ذَلِكَ , وَاَللَّه أَعْلَم .

أَمَرَ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى النِّسَاء بِأَلَّا يُبْدِينَ زِينَتهنَّ لِلنَّاظِرِينَ , إِلَّا مَا اِسْتَثْنَاهُ مِنْ النَّاظِرِينَ فِي بَاقِي الْآيَة حِذَارًا مِنْ الِافْتِتَان , ثُمَّ اِسْتَثْنَى , مَا يَظْهَر مِنْ الزِّينَة ; وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي قَدْر ذَلِكَ ; فَقَالَ اِبْن مَسْعُود : ظَاهِر الزِّينَة هُوَ الثِّيَاب. وَزَادَ اِبْن جُبَيْر الْوَجْه . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر أَيْضًا وَعَطَاء وَالْأَوْزَاعِيّ : الْوَجْه وَالْكَفَّانِ وَالثِّيَاب . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة وَالْمِسْوَر بْن مَخْرَمَة : ظَاهِر الزِّينَة هُوَ الْكُحْل وَالسِّوَار وَالْخِضَاب إِلَى نِصْف الذِّرَاع وَالْقِرَطَة وَالْفَتَخ ; وَنَحْو هَذَا فَمُبَاح أَنْ تُبْدِيه الْمَرْأَة لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهَا مِنْ النَّاس . وَذَكَرَ الطَّبَرِيّ عَنْ قَتَادَة فِي مَعْنَى نِصْف الذِّرَاع حَدِيثًا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَذَكَرَ آخَر عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( لَا يَحِلّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِن بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر إِذَا عَرَكَتْ أَنْ تُظْهِر إِلَّا وَجْههَا وَيَدَيْهَا إِلَى هَاهُنَا ) وَقَبَضَ عَلَى نِصْف الذِّرَاع . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَيَظْهَر لِي بِحُكْمِ أَلْفَاظ الْآيَة أَنَّ الْمَرْأَة مَأْمُورَة بِأَلَّا تُبْدِي وَأَنْ تَجْتَهِد فِي الْإِخْفَاء لِكُلِّ مَا هُوَ زِينَة , وَوَقَعَ الِاسْتِثْنَاء فِيمَا يَظْهَر بِحُكْمِ ضَرُورَة حَرَكَة فِيمَا لَا بُدّ مِنْهُ , أَوْ إِصْلَاح شَأْن وَنَحْو ذَلِكَ . فَ " مَا ظَهَرَ " عَلَى هَذَا الْوَجْه مِمَّا تُؤَدِّي إِلَيْهِ الضَّرُورَة فِي النِّسَاء فَهُوَ الْمَعْفُوّ عَنْهُ .

قُلْت : هَذَا قَوْل حَسَن , إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْغَالِب مِنْ الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ ظُهُورهمَا عَادَة وَعِبَادَة وَذَلِكَ فِي الصَّلَاة وَالْحَجّ , فَيَصْلُح أَنْ يَكُون الِاسْتِثْنَاء رَاجِعًا إِلَيْهِمَا. يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّ أَسْمَاء بِنْت أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا دَخَلَتْ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهَا ثِيَاب رِقَاق , فَأَعْرَضَ عَنْهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهَا : ( يَا أَسْمَاء إِنَّ الْمَرْأَة إِذَا بَلَغَتْ الْمَحِيض لَمْ يَصْلُح أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا ) وَأَشَارَ إِلَى وَجْهه وَكَفَّيْهِ. فَهَذَا أَقْوَى مِنْ جَانِب الِاحْتِيَاط ; وَلِمُرَاعَاةِ فَسَاد النَّاس فَلَا تُبْدِي الْمَرْأَة مِنْ زِينَتهَا إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْ وَجْههَا وَكَفَّيْهَا , وَاَللَّه الْمُوَفِّق لَا رَبّ سِوَاهُ. وَقَدْ قَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد مِنْ عُلَمَائِنَا : إِنَّ الْمَرْأَة إِذَا كَانَتْ جَمِيلَة وَخِيفَ مِنْ وَجْههَا وَكَفَّيْهَا الْفِتْنَة فَعَلَيْهَا سَتْر ذَلِكَ ; وَإِنْ كَانَتْ عَجُوزًا أَوْ مُقَبَّحَة جَازَ أَنْ تَكْشِف وَجْههَا وَكَفَّيْهَا .

الزِّينَة عَلَى قِسْمَيْنِ : خِلْقِيَّة وَمُكْتَسَبَة ; فَالْخِلْقِيَّة وَجْههَا فَإِنَّهُ أَصْل الزِّينَة وَجَمَال الْخِلْقَة وَمَعْنَى الْحَيَوَانِيَّة ; لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنَافِع وَطُرُق الْعُلُوم . وَأَمَّا الزِّينَة الْمُكْتَسَبَة فَهِيَ مَا تُحَاوِلهُ الْمَرْأَة فِي تَحْسِين خِلْقَتهَا ; كَالثِّيَابِ وَالْحُلِيّ وَالْكُحْل وَالْخِضَاب ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " خُذُوا زِينَتكُمْ " [ الْأَعْرَاف : 31 ] . وَقَالَ الشَّاعِر : يَأْخُذْنَ زِينَتهنَّ أَحْسَن مَا تَرَى وَإِذَا عَطِلْنَ فَهُنَّ خَيْر عَوَاطِل

مِنْ الزِّينَة ظَاهِر وَبَاطِن ; فَمَا ظَهَرَ فَمُبَاح أَبَدًا لِكُلِّ النَّاس مِنْ الْمَحَارِم وَالْأَجَانِب ; وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ . وَأَمَّا مَا بَطْن فَلَا يَحِلّ إِبْدَاؤُهُ إِلَّا لِمَنْ سَمَّاهُمْ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَة , أَوْ حَلَّ مَحَلّهمْ . وَاخْتُلِفَ فِي السِّوَار ; فَقَالَتْ عَائِشَة : هِيَ مِنْ الزِّينَة الظَّاهِرَة لِأَنَّهَا فِي الْيَدَيْنِ . وَقَالَ مُجَاهِد : هِيَ مِنْ الزِّينَة الْبَاطِنَة , لِأَنَّهَا خَارِج عَنْ الْكَفَّيْنِ وَإِنَّمَا تَكُون فِي الذِّرَاع . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَأَمَّا الْخِضَاب فَهُوَ مِنْ الزِّينَة الْبَاطِنَة إِذَا كَانَ فِي الْقَدَمَيْنِ .



قَرَأَ الْجُمْهُور بِسُكُونِ اللَّام الَّتِي هِيَ لِلْأَمْرِ . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو فِي رِوَايَة اِبْن عَبَّاس بِكَسْرِهَا عَلَى الْأَصْل ; لِأَنَّ الْأَصْل فِي لَام الْأَمْر الْكَسْر , وَحُذِفَتْ الْكَسْرَة لِثِقَلِهَا , وَإِنَّمَا تَسْكِينهَا لِتَسْكِينِ عَضُد وَفَخِذ . وَ " يَضْرِبْنَ " فِي مَوْضِع جَزْم بِالْأَمْرِ , إِلَّا أَنَّهُ بُنِيَ عَلَى حَالَة وَاحِدَة إِتْبَاعًا لِلْمَاضِي عِنْد سِيبَوَيْهِ. وَسَبَب هَذِهِ الْآيَة أَنَّ النِّسَاء كُنَّ فِي ذَلِكَ الزَّمَان إِذَا غَطَّيْنَ رُءُوسهنَّ بِالْأَخْمِرَةِ وَهِيَ الْمَقَانِع سَدَلْنَهَا مِنْ وَرَاء الظَّهْر . قَالَ النَّقَّاش : كَمَا يَصْنَع النَّبَط ; فَيَبْقَى النَّحْر وَالْعُنُق وَالْأُذُنَانِ لَا سَتْر عَلَى ذَلِكَ ; فَأَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِلَيِّ الْخِمَار عَلَى الْجُيُوب , وَهَيْئَة ذَلِكَ أَنْ تَضْرِب الْمَرْأَة بِخِمَارِهَا عَلَى جَيْبهَا لِتَسْتُر صَدْرهَا . رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ عَائِشَة أَنَّهَا قَالَتْ : رَحِمَ اللَّه نِسَاء الْمُهَاجِرَات الْأُوَل ; لَمَّا نَزَلَ : " وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبهنَّ " شَقَقْنَ أُزُرهنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا . وَدَخَلَتْ عَلَى عَائِشَة حَفْصَة بِنْت أَخِيهَا عَبْد الرَّحْمَن رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَقَدْ اِخْتَمَرَتْ بِشَيْءٍ يَشِفّ عَنْ عُنُقهَا وَمَا هُنَالِكَ ; فَشَقَّتْهُ عَلَيْهَا وَقَالَتْ : إِنَّمَا يُضْرَب بِالْكَثِيفِ الَّذِي يَسْتُر .

الْخُمُر : جَمْع الْخِمَار , وَهُوَ مَا تُغَطِّي بِهِ رَأْسهَا ; وَمِنْهُ اِخْتَمَرَتْ الْمَرْأَة وَتَخَمَّرَتْ , وَهِيَ حَسَنَة الْخُمْرَة . وَالْجُيُوب : جَمْع الْجَيْب , وَهُوَ مَوْضِع الْقَطْع مِنْ الدِّرْع وَالْقَمِيص ; وَهُوَ مِنْ الْجَوْب وَهُوَ الْقَطْع . وَمَشْهُور الْقِرَاءَة ضَمّ الْجِيم مِنْ " جُيُوبهنَّ " . وَقَرَأَ بَعْض الْكُوفِيِّينَ بِكَسْرِهَا بِسَبَبِ الْيَاء ; كَقِرَاءَتِهِمْ ذَلِكَ فِي : بُيُوت وَشُيُوخ . وَالنَّحْوِيُّونَ الْقُدَمَاء لَا يُجِيزُونَ هَذِهِ الْقِرَاءَة وَيَقُولُونَ : بَيْت وَبُيُوت كَفَلْسٍ وَفُلُوس. وَقَالَ الزَّجَّاج : يَجُوز عَلَى أَنْ تُبْدَل مِنْ الضَّمَّة كَسْرَة ; فَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ حَمْزَة مِنْ الْجَمْع بَيْن الضَّمّ وَالْكَسْر فَمُحَال , لَا يَقْدِر أَحَد أَنْ يَنْطِق بِهِ إِلَّا عَلَى الْإِيمَاء إِلَى مَا لَا يَجُوز . وَقَالَ مُقَاتِل : " عَلَى جُيُوبهنَّ " أَيْ عَلَى صُدُورهنَّ ; يَعْنِي عَلَى مَوَاضِع جُيُوبهنَّ .

فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّ الْجَيْب إِنَّمَا يَكُون فِي الثَّوْب مَوْضِع الصَّدْر . وَكَذَلِكَ كَانَتْ الْجُيُوب فِي ثِيَاب السَّلَف رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِمْ ; عَلَى مَا يَصْنَعهُ النِّسَاء عِنْدنَا بِالْأَنْدَلُسِ وَأَهْل الدِّيَار الْمِصْرِيَّة مِنْ الرِّجَال وَالصِّبْيَان وَغَيْرهمْ . وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيّ رَحْمَة اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ ( بَاب جَيْب الْقَمِيص مِنْ عِنْد الصَّدْر وَغَيْره ) وَسَاقَ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : ضَرَبَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَل الْبَخِيل وَالْمُتَصَدِّق كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيد قَدْ اُضْطُرَّتْ أَيْدِيهمَا إِلَى ثُدِيّهمَا وَتَرَاقِيهمَا... ) الْحَدِيث , وَقَدْ تَقَدَّمَ بِكَمَالِهِ , وَفِيهِ : قَالَ أَبُو هُرَيْرَة : فَأَنَا رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول بِإِصْبَعَيْهِ هَكَذَا فِي جَيْبه ; فَلَوْ رَأَيْته يُوَسِّعهَا وَلَا تَتَوَسَّع . فَهَذَا يُبَيِّن لَك أَنَّ جَيْبه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ فِي صَدْره ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي مَنْكِبه لَمْ تَكُنْ يَدَاهُ مُضْطَرَّة إِلَى ثَدْيَيْهِ وَتَرَاقِيه. وَهَذَا اِسْتِدْلَال حَسَن .



أَمَرَ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى النِّسَاء بِأَلَّا يُبْدِينَ زِينَتهنَّ لِلنَّاظِرِينَ , إِلَّا مَا اِسْتَثْنَاهُ مِنْ النَّاظِرِينَ فِي بَاقِي الْآيَة حِذَارًا مِنْ الِافْتِتَان , ثُمَّ اِسْتَثْنَى , مَا يَظْهَر مِنْ الزِّينَة ; وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي قَدْر ذَلِكَ ; فَقَالَ اِبْن مَسْعُود : ظَاهِر الزِّينَة هُوَ الثِّيَاب . وَزَادَ اِبْن جُبَيْر الْوَجْه . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر أَيْضًا وَعَطَاء وَالْأَوْزَاعِيّ : الْوَجْه وَالْكَفَّانِ وَالثِّيَاب . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة وَالْمِسْوَر بْن مَخْرَمَة : ظَاهِر الزِّينَة هُوَ الْكُحْل وَالسِّوَار وَالْخِضَاب إِلَى نِصْف الذِّرَاع وَالْقِرَطَة وَالْفَتَخ ; وَنَحْو هَذَا فَمُبَاح أَنْ تُبْدِيَهُ الْمَرْأَة لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهَا مِنْ النَّاس . وَذَكَرَ الطَّبَرِيّ عَنْ قَتَادَة فِي مَعْنَى نِصْف الذِّرَاع حَدِيثًا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَذَكَرَ آخَر عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( لَا يَحِلّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِن بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر إِذَا عَرَكَتْ أَنْ تُظْهِر إِلَّا وَجْههَا وَيَدَيْهَا إِلَى هَاهُنَا ) وَقَبَضَ عَلَى نِصْف الذِّرَاع . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَيَظْهَر لِي بِحُكْمِ أَلْفَاظ الْآيَة أَنَّ الْمَرْأَة مَأْمُورَة بِأَلَّا تُبْدِي وَأَنْ تَجْتَهِد فِي الْإِخْفَاء لِكُلِّ مَا هُوَ زِينَة , وَوَقَعَ الِاسْتِثْنَاء فِيمَا يَظْهَر بِحُكْمِ ضَرُورَة حَرَكَة فِيمَا لَا بُدّ مِنْهُ , أَوْ إِصْلَاح شَأْن وَنَحْو ذَلِكَ . فَ " مَا ظَهَرَ " عَلَى هَذَا الْوَجْه مِمَّا تُؤَدِّي إِلَيْهِ الضَّرُورَة فِي النِّسَاء فَهُوَ الْمَعْفُوّ عَنْهُ .

قُلْت : هَذَا قَوْل حَسَن , إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْغَالِب مِنْ الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ ظُهُورهمَا عَادَة وَعِبَادَة وَذَلِكَ فِي الصَّلَاة وَالْحَجّ , فَيَصْلُح أَنْ يَكُون الِاسْتِثْنَاء رَاجِعًا إِلَيْهِمَا . يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّ أَسْمَاء بِنْت أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا دَخَلَتْ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهَا ثِيَاب رِقَاق , فَأَعْرَضَ عَنْهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهَا : ( يَا أَسْمَاء إِنَّ الْمَرْأَة إِذَا بَلَغَتْ الْمَحِيض لَمْ يَصْلُح أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا ) وَأَشَارَ إِلَى وَجْهه وَكَفَّيْهِ. فَهَذَا أَقْوَى مِنْ جَانِب الِاحْتِيَاط ; وَلِمُرَاعَاةِ فَسَاد النَّاس فَلَا تُبْدِي الْمَرْأَة مِنْ زِينَتهَا إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْ وَجْههَا وَكَفَّيْهَا , وَاَللَّه الْمُوَفِّق لَا رَبّ سِوَاهُ . وَقَدْ قَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد مِنْ عُلَمَائِنَا : إِنَّ الْمَرْأَة إِذَا كَانَتْ جَمِيلَة وَخِيفَ مِنْ وَجْههَا وَكَفَّيْهَا الْفِتْنَة فَعَلَيْهَا سَتْر ذَلِكَ ; وَإِنْ كَانَتْ عَجُوزًا أَوْ مُقَبَّحَة جَازَ أَنْ تَكْشِف وَجْههَا وَكَفَّيْهَا .

الزِّينَة عَلَى قِسْمَيْنِ : خِلْقِيَّة وَمُكْتَسَبَة ; فَالْخِلْقِيَّة وَجْههَا فَإِنَّهُ أَصْل الزِّينَة وَجَمَال الْخِلْقَة وَمَعْنَى الْحَيَوَانِيَّة ; لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنَافِع وَطُرُق الْعُلُوم . وَأَمَّا الزِّينَة الْمُكْتَسَبَة فَهِيَ مَا تُحَاوِلهُ الْمَرْأَة فِي تَحْسِين خِلْقَتهَا ; كَالثِّيَابِ وَالْحُلِيّ وَالْكُحْل وَالْخِضَاب ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " خُذُوا زِينَتكُمْ " [ الْأَعْرَاف : 31 ] . وَقَالَ الشَّاعِر : يَأْخُذْنَ زِينَتهنَّ أَحْسَن مَا تَرَى وَإِذَا عُطِّلْنَ فَهُنَّ خَيْر عَوَاطِل

مِنْ الزِّينَة ظَاهِر وَبَاطِن ; فَمَا ظَهَرَ فَمُبَاح أَبَدًا لِكُلِّ النَّاس مِنْ الْمَحَارِم وَالْأَجَانِب ; وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ . وَأَمَّا مَا بَطَنَ فَلَا يَحِلّ إِبْدَاؤُهُ إِلَّا لِمَنْ سَمَّاهُمْ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَة , أَوْ حَلَّ مَحَلّهمْ . وَاخْتُلِفَ فِي السِّوَار ; فَقَالَتْ عَائِشَة : هِيَ مِنْ الزِّينَة الظَّاهِرَة لِأَنَّهَا فِي الْيَدَيْنِ . وَقَالَ مُجَاهِد : هِيَ مِنْ الزِّينَة الْبَاطِنَة , لِأَنَّهَا خَارِج عَنْ الْكَفَّيْنِ وَإِنَّمَا تَكُون فِي الذِّرَاع . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَأَمَّا الْخِضَاب فَهُوَ مِنْ الزِّينَة الْبَاطِنَة إِذَا كَانَ فِي الْقَدَمَيْنِ .

وَالْبَعْل هُوَ الزَّوْج وَالسَّيِّد فِي كَلَام الْعَرَب ; وَمِنْهُ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِبْرِيل : ( إِذَا وَلَدَتْ الْأَمَة بَعْلهَا ) يَعْنِي سَيِّدهَا ; إِشَارَة إِلَى كَثْرَة السَّرَارِيّ بِكَثْرَةِ الْفُتُوحَات , فَيَأْتِي الْأَوْلَاد مِنْ الْإِمَاء فَتَعْتِق كُلّ أُمّ بِوَلَدِهَا وَكَأَنَّهُ سَيِّدهَا الَّذِي مَنَّ عَلَيْهَا بِالْعِتْقِ , إِذْ كَانَ الْعِتْق حَاصِلًا لَهَا مِنْ سَبَبه ; قَالَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ .

قُلْت : وَمِنْهُ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فِي مَارِيَة : ( أَعْتَقَهَا وَلَدهَا ) فَنُسِبَ الْعِتْق إِلَيْهِ. وَهَذَا مِنْ أَحْسَن تَأْوِيلَات هَذَا الْحَدِيث . وَاَللَّه أَعْلَم .

مَسْأَلَة : فَالزَّوْج وَالسَّيِّد يَرَى الزِّينَة مِنْ الْمَرْأَة وَأَكْثَر مِنْ الزِّينَة إِذْ كُلّ مَحَلّ مِنْ بَدَنهَا حَلَال لَهُ لَذَّة وَنَظَرًا . وَلِهَذَا الْمَعْنَى بَدَأَ بِالْبُعُولَةِ ; لِأَنَّ اِطِّلَاعهمْ يَقَع عَلَى أَعْظَم مِنْ هَذَا , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجهمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانهمْ فَإِنَّهُمْ غَيْر مَلُومِينَ " [ الْمُؤْمِنُونَ : 5 - 6 ] .

اِخْتَلَفَ النَّاس فِي جَوَاز نَظَر الرَّجُل إِلَى فَرْج الْمَرْأَة ; عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدهمَا : يَجُوز ; لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ لَهُ التَّلَذُّذ بِهِ فَالنَّظَر أَوْلَى . وَقِيلَ : لَا يَجُوز ; لِقَوْلِ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا فِي ذِكْر حَالهَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا رَأَيْت ذَلِكَ مِنْهُ وَلَا رَأَى ذَلِكَ مِنِّي ) وَالْأَوَّل أَصَحّ , وَهَذَا مَحْمُول عَلَى الْأَدَب ; قَالَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ . وَقَدْ قَالَ أَصْبَغ مِنْ عُلَمَائِنَا : يَجُوز لَهُ أَنْ يَلْحَسهُ بِلِسَانِهِ . وَقَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : أَمَّا الزَّوْج وَالسَّيِّد فَيَجُوز لَهُ أَنْ يَنْظُر إِلَى سَائِر الْجَسَد وَظَاهِر الْفَرْج دُون بَاطِنه . وَكَذَلِكَ الْمَرْأَة يَجُوز أَنْ تَنْظُر إِلَى عَوْرَة زَوْجهَا , وَالْأَمَة إِلَى عَوْرَة سَيِّدهَا .

قُلْت : وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( النَّظَر إِلَى الْفَرْج يُورِث الطَّمْس ) أَيْ الْعَمَى , أَيْ فِي النَّاظِر . وَقِيلَ : إِنَّ الْوَلَد بَيْنهمَا يُولَد أَعْمَى . وَاَللَّه أَعْلَم .

لَمَّا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى الْأَزْوَاج وَبَدَأَ بِهِمْ ثَنَّى بِذَوِي الْمَحَارِم وَسَوَّى بَيْنهمْ فِي إِبْدَاء الزِّينَة , وَلَكِنْ تَخْتَلِف مَرَاتِبهمْ بِحَسَبِ مَا فِي نُفُوس الْبَشَر. فَلَا مِرْيَة أَنَّ كَشْف الْأَب وَالْأَخ عَلَى الْمَرْأَة أَحْوَط مِنْ كَشْف وَلَد زَوْجهَا. وَتَخْتَلِف مَرَاتِب مَا يُبْدَى لَهُمْ ; فَيُبْدَى لِلْأَبِ مَا لَا يَجُوز إِبْدَاؤُهُ لِوَلَدِ الزَّوْج . وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيل عَنْ الْحَسَن وَالْحُسَيْن رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا لَا يَرَيَانِ أُمَّهَات الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : إِنَّ رُؤْيَتهمَا لَهُنَّ تَحِلّ . قَالَ إِسْمَاعِيل : أَحْسَب أَنَّ الْحَسَن وَالْحُسَيْن ذَهَبَا فِي ذَلِكَ إِلَى أَنَّ أَبْنَاء الْبُعُولَة لَمْ يُذْكَرُوا فِي الْآيَة الَّتِي فِي أَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَهِيَ قَوْله تَعَالَى : " لَا جُنَاح عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ " [ الْأَحْزَاب : 55 ] . وَقَالَ فِي سُورَة النُّور : " وَلَا يُبْدِينَ زِينَتهنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ " الْآيَة . فَذَهَبَ اِبْن عَبَّاس إِلَى هَذِهِ الْآيَة , وَذَهَبَ الْحَسَن وَالْحُسَيْن إِلَى الْآيَة أُخْرَى .



يُرِيد ذُكُور أَوْلَاد الْأَزْوَاج , وَيَدْخُل فِيهِ أَوْلَاد الْأَوْلَاد وَإِنْ سَفَلُوا , مِنْ ذُكْرَان كَانُوا أَوْ إِنَاث ; كَبَنِي الْبَنِينَ وَبَنِي الْبَنَات . وَكَذَلِكَ آبَاء الْبُعُولَة وَالْأَجْدَاد وَإِنْ عَلَوْا مِنْ جِهَة الذُّكْرَان لِآبَاءِ الْآبَاء وَآبَاء الْأُمَّهَات , وَكَذَلِكَ أَبْنَاؤُهُنَّ وَإِنْ سَفَلُوا . وَكَذَلِكَ أَبْنَاء الْبَنَات وَإِنْ سَفَلْنَ ; فَيَسْتَوِي فِيهِ أَوْلَاد الْبَنِينَ وَأَوْلَاد الْبَنَات . وَكَذَلِكَ أَخَوَاتهنَّ , وَهُمْ مِنْ وَلَد الْآبَاء وَالْأُمَّهَات أَوْ أَحَد الصِّنْفَيْنِ. وَكَذَلِكَ بَنُو الْإِخْوَة وَبَنُو الْأَخَوَات وَإِنْ سَفَلُوا مِنْ ذُكْرَان كَانُوا أَوْ إِنَاث كَبَنِي بَنِي الْأَخَوَات وَبَنِي بَنَات الْأَخَوَات. وَهَذَا كُلّه فِي مَعْنَى مَا حَرُمَ مِنْ الْمَنَاكِح , فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى الْمَعَانِي فِي الْوِلَادَات وَهَؤُلَاءِ مَحَارِم , وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " النِّسَاء " . وَالْجُمْهُور عَلَى أَنَّ الْعَمّ وَالْخَال كَسَائِرِ الْمَحَارِم فِي جَوَاز النَّظَر لَهُمَا إِلَى مَا يَجُوز لَهُمْ . وَلَيْسَ فِي الْآيَة ذِكْر الرَّضَاع , وَهُوَ كَالنَّسَبِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَعِنْد الشَّعْبِيّ وَعِكْرِمَة لَيْسَ الْعَمّ وَالْخَال مِنْ الْمَحَارِم . وَقَالَ عِكْرِمَة : لَمْ يَذْكُرهُمَا فِي الْآيَة لِأَنَّهُمَا تَبَعَانِ لِأَبْنَائِهِمَا .



يَعْنِي الْمُسْلِمَات , وَيَدْخُل فِي هَذَا الْإِمَاء الْمُؤْمِنَات , وَيَخْرُج مِنْهُ نِسَاء الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْل الذِّمَّة وَغَيْرهمْ ; فَلَا يَحِلّ لِامْرَأَةٍ مُؤْمِنَة أَنْ تَكْشِف شَيْئًا مِنْ بَدَنهَا بَيْن يَدَيْ اِمْرَأَة مُشْرِكَة إِلَّا أَنْ تَكُون أَمَة لَهَا ; فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانهنَّ " . وَكَانَ اِبْن جُرَيْج وَعُبَادَة بْن نُسَيّ وَهِشَام الْقَارِئ يَكْرَهُونَ أَنْ تُقَبِّل النَّصْرَانِيَّة الْمُسْلِمَة أَوْ تَرَى عَوْرَتهَا ; وَيَتَأَوَّلُونَ " أَوْ نِسَائِهِنَّ " . وَقَالَ عُبَادَة بْن نُسَيّ : وَكَتَبَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ إِلَى أَبِي عُبَيْدَة بْن الْجَرَّاح : أَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ نِسَاء أَهْل الذِّمَّة يَدْخُلْنَ الْحَمَّامَات مَعَ نِسَاء الْمُسْلِمِينَ ; فَامْنَعْ مِنْ ذَلِكَ , وَحُلْ دُونه ; فَإِنَّهُ لَا يَجُوز أَنْ تَرَى الذِّمِّيَّة عُرْيَة الْمُسْلِمَة . قَالَ : فَعِنْد ذَلِكَ قَامَ أَبُو عُبَيْدَة وَابْتَهَلَ وَقَالَ : أَيّمَا اِمْرَأَة تَدْخُل الْحَمَّام مِنْ غَيْر عُذْر لَا تُرِيد إِلَّا أَنْ تُبَيِّض وَجْههَا فَسَوَّدَ اللَّه وَجْههَا يَوْم تَبْيَضّ الْوُجُوه. وَقَالَ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا : لَا يَحِلّ لِلْمُسْلِمَةِ أَنْ تَرَاهَا يَهُودِيَّة أَوْ نَصْرَانِيَّة ; لِئَلَّا تَصِفهَا لِزَوْجِهَا . وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة خِلَاف لِلْفُقَهَاءِ . فَإِنْ كَانَتْ الْكَافِرَة أَمَة لِمُسْلِمَةٍ جَازَ أَنْ تَنْظُر إِلَى سَيِّدَتهَا ; وَأَمَّا غَيْرهَا فَلَا , لِانْقِطَاعِ الْوِلَايَة بَيْن أَهْل الْإِسْلَام وَأَهْل الْكُفْر , وَلِمَا ذَكَرْنَاهُ . وَاَللَّه أَعْلَم.



ظَاهِر الْآيَة يَشْمَل الْعَبِيد وَالْإِمَاء الْمُسْلِمَات وَالْكِتَابِيَّات . وَهُوَ قَوْل جَمَاعَة مِنْ أَهْل الْعِلْم , وَهُوَ الظَّاهِر مِنْ مَذْهَب عَائِشَة وَأُمّ سَلَمَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : لَا بَأْس أَنْ يَنْظُر الْمَمْلُوك إِلَى شَعْر مَوْلَاته . وَقَالَ أَشْهَب : سُئِلَ مَالِك أَتُلْقِي الْمَرْأَة خِمَارهَا بَيْن يَدَيْ الْخَصِيّ ؟ فَقَالَ نَعَمْ , إِذَا كَانَ مَمْلُوكًا لَهَا أَوْ لِغَيْرِهَا ; وَأَمَّا الْحُرّ فَلَا . وَإِنْ كَانَ فَحْلًا كَبِيرًا وَغْدًا تَمْلِكهُ , لَا هَيْئَة لَهُ وَلَا مَنْظَر فَلْيَنْظُرْ إِلَى شَعْرهَا . قَالَ أَشْهَب قَالَ مَالِك : لَيْسَ بِوَاسِعٍ أَنْ تَدْخُل جَارِيَة الْوَلَد أَوْ الزَّوْجَة عَلَى الرَّجُل الْمِرْحَاض ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانكُمْ " . وَقَالَ أَشْهَب عَنْ مَالِك : يَنْظُر الْغُلَام الْوَغْد إِلَى شَعْر سَيِّدَته , وَلَا أُحِبّهُ لِغُلَامِ الزَّوْج . وَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب : لَا تَغُرَّنَّكُمْ هَذِهِ الْآيَة " أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانهنَّ " إِنَّمَا عُنِيَ بِهَا الْإِمَاء وَلَمْ يُعْنَ بِهَا الْعَبِيد. وَكَانَ الشَّعْبِيّ يَكْرَه أَنْ يَنْظُر الْمَمْلُوك إِلَى شَعْر مَوْلَاته . وَهُوَ قَوْل مُجَاهِد وَعَطَاء . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَنَس أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى فَاطِمَة بِعَبْدٍ قَدْ وَهَبَهُ لَهَا , قَالَ : وَعَلَى فَاطِمَة ثَوْب إِذَا غَطَّتْ بِهِ رَأْسهَا لَمْ يَبْلُغ إِلَى رِجْلَيْهَا , وَإِذَا غَطَّتْ بِهِ رِجْلَيْهَا لَمْ يَبْلُغ إِلَى رَأْسهَا ; فَلَمَّا رَأَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَلْقَى مِنْ ذَلِكَ قَالَ : ( إِنَّهُ لَا بَأْس عَلَيْك إِنَّمَا هُوَ أَبُوك وَغُلَامك ).



أَيْ غَيْر أُولِي الْحَاجَة وَالْإِرْبَة الْحَاجَة , يُقَال : أَرِبْت كَذَا آرَب أَرَبًا . وَالْإِرْب وَالْإِرْبَة وَالْمَأْرُبَة وَالْأَرَب : الْحَاجَة ; وَالْجَمْع مَآرِب ; أَيْ حَوَائِج . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَلِيَ فِيهَا مَآرِب أُخْرَى " [ طَه : 18 ] وَقَدْ تَقَدَّمَ وَقَالَ طَرَفَة : إِذَا الْمَرْء قَالَ الْجَهْل وَالْحُوب وَالْخَنَا تَقَدَّمَ يَوْمًا ثُمَّ ضَاعَتْ مَآرِبه وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي مَعْنَى قَوْله : " أَوْ التَّابِعِينَ غَيْر أُولِي الْإِرْبَة " فَقِيلَ : هُوَ الْأَحْمَق الَّذِي لَا حَاجَة بِهِ إِلَى النِّسَاء . وَقِيلَ الْأَبْلَه . وَقِيلَ : الرَّجُل يَتَّبِع الْقَوْم فَيَأْكُل مَعَهُمْ وَيَرْتَفِق بِهِمْ ; وَهُوَ ضَعِيف لَا يَكْتَرِث لِلنِّسَاءِ وَلَا يَشْتَهِيهِنَّ . وَقِيلَ الْعِنِّين . وَقِيلَ الْخَصِيّ . وَقِيلَ الْمُخَنَّث . وَقِيلَ الشَّيْخ الْكَبِير , وَالصَّبِيّ الَّذِي لَمْ يُدْرِك . وَهَذَا الِاخْتِلَاف كُلّه مُتَقَارِب الْمَعْنَى , وَيَجْتَمِع فِيمَنْ لَا فَهْم لَهُ وَلَا هِمَّة يَنْتَبِه بِهَا إِلَى أَمْر النِّسَاء . وَبِهَذِهِ الصِّفَة كَانَ هِيت الْمُخَنَّث عِنْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَلَمَّا سَمِعَ مِنْهُ مَا سَمِعَ مِنْ وَصْف مَحَاسِن الْمَرْأَة : بَادِيَة بِنْت غَيْلَان , أَمَرَ بِالِاحْتِجَابِ مِنْهُ. أَخْرَجَ حَدِيثه مُسْلِم وَأَبُو دَاوُد وَمَالِك فِي الْمُوَطَّأ وَغَيْرهمْ عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة . قَالَ أَبُو عُمَر : ذَكَرَ عَبْد الْمَلِك بْن حَبِيب عَنْ حَبِيب كَاتِب مَالِك قَالَ قُلْت لِمَالِكٍ : إِنَّ سُفْيَان زَادَ فِي حَدِيث اِبْنَة غَيْلَان : ( أَنَّ مُخَنَّثًا يُقَال لَهُ هِيت ) وَلَيْسَ فِي كِتَابك هِيت ؟ فَقَالَ مَالِك : صَدَقَ , هُوَ كَذَلِكَ وَغَرَّبَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحِمَى وَهُوَ مَوْضِع مِنْ ذِي الْحُلَيْفَة ذَات الشِّمَال مِنْ مَسْجِدهَا . قَالَ حَبِيب وَقُلْت لِمَالِكٍ : وَقَالَ سُفْيَان فِي الْحَدِيث : إِذَا قَعَدَتْ تَبَنَّتْ , وَإِذَا تَكَلَّمَتْ تَغَنَّتْ . قَالَ مَالِك : صَدَقَ , هُوَ كَذَلِكَ . قَالَ أَبُو عُمَر : مَا ذَكَرَهُ حَبِيب كَاتِب مَالِك عَنْ سُفْيَان أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيث يَعْنِي حَدِيث هِشَام بْن عُرْوَة ( أَنَّ مُخَنَّثًا يُدْعَى هِيتًا ) فَغَيْر مَعْرُوف عِنْد أَحَد مِنْ رُوَاته عَنْ هِشَام , لَا اِبْن عُيَيْنَة وَلَا غَيْره , وَلَمْ يَقُلْ فِي نَسَق الْحَدِيث ( إِنَّ مُخَنَّثًا يُدْعَى هِيتًا ) وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ عَنْ اِبْن جُرَيْج بَعْد تَمَام الْحَدِيث , وَكَذَلِكَ قَوْله عَنْ سُفْيَان أَنَّهُ يَقُول فِي الْحَدِيث : إِذَا قَعَدَتْ تَبَنَّتْ وَإِذَا تَكَلَّمَتْ تَغَنَّتْ , هَذَا مَا لَمْ يَقُلْهُ سُفْيَان وَلَا غَيْره فِي حَدِيث هِشَام بْن عُرْوَة , وَهَذَا اللَّفْظ لَا يُوجَد إِلَّا مِنْ رِوَايَة الْوَاقِدِيّ , وَالْعَجَب أَنَّهُ يَحْكِيه عَنْ سُفْيَان وَيَحْكِي عَنْ مَالِك أَنَّهُ كَذَلِكَ , فَصَارَتْ رِوَايَة عَنْ مَالِك , وَلَمْ يَرْوِهِ عَنْ مَالِك غَيْر حَبِيب وَلَا ذَكَرَهُ عَنْ سُفْيَان غَيْره أَيْضًا , وَاَللَّه أَعْلَم. وَحَبِيب كَاتِب مَالِك مَتْرُوك الْحَدِيث ضَعِيف عِنْد جَمِيعهمْ , لَا يُكْتَب حَدِيثه وَلَا يُلْتَفَت إِلَى مَا يَجِيء بِهِ . ذَكَرَ الْوَاقِدِيّ وَالْكَلْبِيّ أَنَّ هِيتًا الْمُخَنَّث قَالَ لِعَبْدِ اللَّه بْن أُمَيَّة الْمَخْزُومِيّ وَهُوَ أَخُو أُمّ سَلَمَة لِأَبِيهَا وَأُمَّة عَاتِكَة عَمَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ لَهُ وَهُوَ فِي بَيْت أُخْته أُمّ سَلَمَة وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمَع : إِنْ فَتَحَ اللَّه عَلَيْكُمْ الطَّائِف فَعَلَيْك بِبَادِيَةَ بِنْت غَيْلَان بْن سَلَمَة الثَّقَفِيّ , فَإِنَّهَا تُقْبِل بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِر بِثَمَانٍ , مَعَ ثَغْر كَالْأُقْحُوَانِ , إِنْ جَلَسَتْ تَبَنَّتْ وَإِنْ تَكَلَّمَتْ تَغَنَّتْ , بَيْن رِجْلَيْهَا كَالْإِنَاءِ الْمَكْفُوء , وَهِيَ كَمَا قَالَ قَيْس بْن الْخَطِيم : تَغْتَرِق الطَّرْف وَهِيَ لَاهِيَة كَأَنَّمَا شَفَّ وَجْههَا نُزُف بَيْن شُكُول النِّسَاء خِلْقَتهَا قَصْد فَلَا جَبْلَة وَلَا قَضَف تَنَام عَنْ كُبْر شَأْنهَا فَإِذَا قَامَتْ رُوَيْدًا تَكَاد تَنْقَصِف فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَقَدْ غَلْغَلْت النَّظَر إِلَيْهَا يَا عَدُوّ اللَّه ) . ثُمَّ أَجْلَاهُ عَنْ الْمَدِينَة إِلَى الْحِمَى . قَالَ : فَلَمَّا اُفْتُتِحَتْ الطَّائِف تَزَوَّجَهَا عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف فَوَلَدَتْ لَهُ مِنْهُ بُرَيْهَة ; فِي قَوْل الْكَلْبِيّ . وَلَمْ يَزَلْ هِيت بِذَلِكَ الْمَكَان حَتَّى قُبِضَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَلَمَّا وَلِيَ أَبُو بَكْر كُلِّمَ فِيهِ فَأَبَى أَنْ يَرُدّهُ , فَلَمَّا وَلِيَ عُمَر كُلِّمَ فِيهِ فَأَبَى , ثُمَّ كُلِّمَ فِيهِ عُثْمَان بَعْد . وَقِيلَ : إِنَّهُ قَدْ كَبُرَ وَضَعُفَ وَاحْتَاجَ , فَأَذِنَ لَهُ أَنْ يَدْخُل كُلّ جُمْعَة فَيَسْأَل وَيَرْجِع إِلَى مَكَانه . قَالَ : وَكَانَ هِيت مَوْلَى لِعَبْدِ اللَّه بْن أَبِي أُمَيَّة الْمَخْزُومِيّ , وَكَانَ لَهُ طُوَيْس أَيْضًا , فَمِنْ ثَمَّ قَبْل الْخَنَث . قَالَ أَبُو عُمَر : يُقَال بَادِيَة بِالْيَاءِ وَ " بَادِنَة " بِالنُّونِ , وَالصَّوَاب فِيهِ عِنْدهمْ بِالْيَاءِ , وَهُوَ قَوْل أَكْثَرهمْ , وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ الزُّبَيْرِيّ بِالْيَاءِ .

وَصَفَ التَّابِعِينَ بِ " غَيْر " لِأَنَّ التَّابِعِينَ غَيْر مَقْصُودِينَ بِأَعْيَانِهِمْ , فَصَارَ اللَّفْظ كَالنَّكِرَةِ . وَ " غَيْر " لَا يَتَمَحَّض نَكِرَة فَجَازَ أَنْ يَجْرِي وَصْفًا عَلَى الْمَعْرِفَة . وَإِنْ شِئْت قُلْت هُوَ بَدَل . وَالْقَوْل فِيهَا كَالْقَوْلِ فِي " غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهِمْ " [ الْفَاتِحَة : 7 ] . وَقَرَأَ عَاصِم وَابْن عَامِر " غَيْر " بِالنَّصْبِ فَيَكُون اِسْتِثْنَاء ; أَيْ يُبْدِينَ زِينَتهنَّ لِلتَّابِعِينَ إِلَّا ذَا الْإِرْبَة مِنْهُمْ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون حَالًا ; أَيْ وَاَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَهُنَّ عَاجِزِينَ عَنْهُنَّ ; قَالَهُ أَبُو حَاتِم . وَذُو الْحَال مَا فِي " التَّابِعِينَ " مِنْ الذَّكَر .



اِسْم جِنْس بِمَعْنَى الْجَمْع , وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ نَعْته بِ " الَّذِينَ " . وَفِي مُصْحَف حَفْصَة " أَوْ الْأَطْفَال " عَلَى الْجَمْع . وَيُقَال : طِفْل مَا لَمْ يُرَاهِق الْحُلُم . وَ " يَظْهَرُوا " مَعْنَاهُ يَطَّلِعُوا بِالْوَطْءِ ; أَيْ لَمْ يَكْشِفُوا عَنْ عَوْرَاتهنَّ لِلْجِمَاعِ لِصِغَرِهِنَّ . وَقِيلَ : لَمْ يَبْلُغُوا أَنْ يُطِيقُوا النِّسَاء ; يُقَال : ظَهَرْت عَلَى كَذَا أَيْ عَلِمْته , وَظَهَرْت عَلَى كَذَا أَيْ قَهَرْته . وَالْجُمْهُور عَلَى سُكُون الْوَاو مِنْ " عَوْرَات " لِاسْتِثْقَالِ الْحَرَكَة عَلَى الْوَاو . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس فَتْح الْوَاو ; مِثْل جَفْنَة وَجَفَنَات . وَحَكَى الْفَرَّاء أَنَّهَا لُغَة قَيْس " عَوَرَات " بِفَتْحِ الْوَاو . النَّحَّاس : وَهَذَا هُوَ الْقِيَاس ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَعْتٍ , كَمَا تَقُول : جَفْنَة وَجَفَنَات ; إِلَّا أَنَّ التَّسْكِين أَجْوَد فِي " عَوْرَات " وَأَشْبَاهه , لِأَنَّ الْوَاو إِذَا تَحَرَّكَتْ وَتَحَرَّكَ مَا قَبْلهَا قُلِبَتْ أَلِفًا ; فَلَوْ قِيلَ هَذَا لَذَهَبَ الْمَعْنَى .

اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي وُجُوب سَتْر مَا سِوَى الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ مِنْهُ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدهمَا : لَا يَلْزَم ; لِأَنَّهُ لَا تَكْلِيف عَلَيْهِ , وَهُوَ الصَّحِيح . وَالْآخَر يَلْزَمهُ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَشْتَهِي وَقَدْ تَشْتَهِي أَيْضًا هِيَ فَإِنْ رَاهَقَ فَحُكْمه حُكْم الْبَالِغ وُجُوب السَّتْر . وَمِثْله الشَّيْخ الَّذِي سَقَطَتْ شَهْوَته اُخْتُلِفَ فِيهِ أَيْضًا عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا فِي الصَّبِيّ , وَالصَّحِيح بَقَاء الْحُرْمَة ; قَالَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ .

أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ السَّوْءَتَيْنِ عَوْرَة مِنْ الرَّجُل وَالْمَرْأَة , وَأَنَّ الْمَرْأَة كُلّهَا عَوْرَة , إِلَّا وَجْههَا وَيَدَيْهَا فَإِنَّهُمْ اِخْتَلَفُوا فِيهِمَا . وَقَالَ أَكْثَر الْعُلَمَاء فِي الرَّجُل : مِنْ سُرَّته إِلَى رُكْبَته عَوْرَة ; لَا يَجُوز أَنْ تُرَى . وَقَدْ مَضَى فِي [ الْأَعْرَاف ] الْقَوْل فِي هَذَا مُسْتَوْفًى .

قَالَ أَصْحَاب الرَّأْي : عَوْرَة الْمَرْأَة مَعَ عَبْدهَا مِنْ السُّرَّة إِلَى الرُّكْبَة . اِبْن الْعَرَبِيّ : وَكَأَنَّهُمْ ظَنُّوهَا رَجُلًا أَوْ ظَنُّوهُ اِمْرَأَة , وَاَللَّه تَعَالَى قَدْ حَرَّمَ الْمَرْأَة عَلَى الْإِطْلَاق لِنَظَرٍ أَوْ لَذَّة , ثُمَّ اِسْتَثْنَى اللَّذَّة لِلْأَزْوَاجِ وَمِلْك الْيَمِين , ثُمَّ اِسْتَثْنَى الزِّينَة لِاثْنَيْ عَشَر شَخْصًا الْعَبْد مِنْهُمْ , فَمَا لَنَا وَلِذَلِكَ ! هَذَا نَظَر فَاسِد وَاجْتِهَاد عَنْ السَّدَاد مُتَبَاعِد . وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْض النَّاس قَوْله : " أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانهنَّ " عَلَى الْإِمَاء دُون الْعَبِيد ; مِنْهُمْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب , فَكَيْفَ يُحْمَلُونَ عَلَى الْعَبِيد ثُمَّ يُلْحَقُونَ بِالنِّسَاءِ , هَذَا بَعِيد جِدًّا وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ التَّقْدِير أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانهنَّ مِنْ غَيْر أُولِي الْإِرْبَة أَوْ التَّابِعِينَ غَيْر أُولِي الْإِرْبَة مِنْ الرِّجَال ; حَكَاهُ الْمَهْدَوِيّ .



أَيْ لَا تَضْرِب الْمَرْأَة بِرِجْلِهَا إِذَا مَشَتْ لِتُسْمِعَ صَوْت خَلْخَالهَا ; فَإِسْمَاع صَوْت الزِّينَة كَإِبْدَاءِ الزِّينَة وَأَشَدّ , وَالْغَرَض التَّسَتُّر . أَسْنَدَ الطَّبَرِيّ عَنْ الْمُعْتَمِر عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ : زَعَمَ حَضْرَمِيّ أَنَّ اِمْرَأَة اِتَّخَذَتْ بُرَتَيْنِ مِنْ فِضَّة وَاِتَّخَذَتْ جَزْعًا فَجَعَلَتْ فِي سَاقهَا فَمَرَّتْ عَلَى الْقَوْم فَضَرَبَتْ بِرِجْلِهَا الْأَرْض فَوَقَعَ الْخَلْخَال عَلَى الْجَزْع فَصَوَّتَ ; فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة . وَسَمَاع هَذِهِ الزِّينَة أَشَدّ تَحْرِيكًا لِلشَّهْوَةِ مِنْ إِبْدَائِهَا ; قَالَهُ الزَّجَّاج .

مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُنَّ فَرَحًا بِحُلِيِّهِنَّ فَهُوَ مَكْرُوه . وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُنَّ تَبَرُّجًا وَتَعَرُّضًا لِلرِّجَالِ فَهُوَ حَرَام مَذْمُوم. وَكَذَلِكَ مَنْ ضَرَبَ بِنَعْلِهِ مِنْ الرِّجَال , إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ تَعَجُّبًا حَرُمَ فَإِنَّ الْعُجْب كَبِيرَة . وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ تَبَرُّجًا لَمْ يَجُزْ .

قَالَ مَكِّيّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى : لَيْسَ فِي كِتَاب اللَّه تَعَالَى آيَة أَكْثَر ضَمَائِر مِنْ هَذِهِ , جَمَعْت خَمْسَة وَعِشْرِينَ ضَمِيرًا لِلْمُؤْمِنَاتِ مِنْ مَخْفُوض وَمَرْفُوع.


" وَتُوبُوا " أَمْر . وَلَا خِلَاف بَيْن الْأُمَّة فِي وُجُوب التَّوْبَة , وَأَنَّهَا فَرْض مُتَعَيِّن ; وَقَدْ مَضَى الْكَلَام فِيهَا فِي " النِّسَاء " وَغَيْرهَا فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَةِ ذَلِكَ . وَالْمَعْنَى : وَتُوبُوا إِلَى اللَّه فَإِنَّكُمْ لَا تَخْلُونَ مِنْ سَهْو وَتَقْصِير فِي أَدَاء حُقُوق اللَّه تَعَالَى , فَلَا تَتْرُكُوا التَّوْبَة فِي كُلّ حَال .

قَرَأَ الْجُمْهُور " أَيُّهَ " بِفَتْحِ الْهَاء . وَقَرَأَ اِبْن عَامِر بِضَمِّهَا ; وَوَجْهه أَنْ تُجْعَل الْهَاء مِنْ نَفْس الْكَلِمَة , فَيَكُون إِعْرَاب الْمُنَادَى فِيهَا . وَضَعَّفَ أَبُو عَلِيّ ذَلِكَ جِدًّا وَقَالَ : آخِر الِاسْم هُوَ الْيَاء الثَّانِيَة مِنْ أَيّ , فَالْمَضْمُوم يَنْبَغِي أَنْ يَكُون آخِر الِاسْم , وَلَوْ جَازَ ضَمّ الْهَاء هَاهُنَا لِاقْتِرَانِهَا بِالْكَلِمَةِ لَجَازَ ضَمّ الْمِيم فِي " اللَّهُمَّ " لِاقْتِرَانِهَا بِالْكَلِمَةِ فِي كَلَام طَوِيل . وَالصَّحِيح أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِرَاءَة فَلَيْسَ إِلَّا اِعْتِقَاد الصِّحَّة فِي اللُّغَة , فَإِنَّ الْقُرْآن هُوَ الْحُجَّة . وَأَنْشَدَ الْفَرَّاء : يَا أَيُّهَ الْقَلْب اللَّجُوج النَّفَس أَفِقْ عَنْ الْبِيض الْحِسَان اللَّعَس اللَّعَس : لَوْن الشَّفَة إِذَا كَانَتْ تَضْرِب إِلَى السَّوَاد قَلِيلًا , وَذَلِكَ يُسْتَمْلَح ; يُقَال : شَفَة لَعْسَاء , وَفِتْيَة وَنِسْوَة لُعْس . وَبَعْضهمْ يَقِف " أَيُّهْ " . وَبَعْضهمْ يَقِف " أَيّهَا " بِالْأَلِفِ ; لِأَنَّ عِلَّة حَذْفهَا فِي الْوَصْل إِنَّمَا هِيَ سُكُونهَا وَسُكُون اللَّام , فَإِذَا كَانَ الْوَقْف ذَهَبَتْ الْعِلَّة فَرَجَعَتْ الْأَلِف كَمَا تَرْجِع الْيَاء إِذَا وَقَفَتْ عَلَى " مُحِلِّي " مِنْ قَوْله تَعَالَى : " غَيْر مُحِلِّي الصَّيْد " [ الْمَائِدَة : 1 ]. وَهَذَا الِاخْتِلَاف الَّذِي ذَكَرْنَاهُ كَذَلِكَ هُوَ فِي " يَا أَيُّهَ السَّاحِر " . " يَا أَيُّهَ الثَّقَلَان " .
وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌسورة النور الآية رقم 32
هَذِهِ الْمُخَاطَبَة تَدْخُل فِي بَاب السَّتْر وَالصَّلَاح ; أَيْ زَوِّجُوا مَنْ لَا زَوْج لَهُ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ طَرِيق التَّعَفُّف ; وَالْخِطَاب لِلْأَوْلِيَاءِ . وَقِيلَ لِلْأَزْوَاجِ . وَالصَّحِيح الْأَوَّل ; إِذْ لَوْ أَرَادَ الْأَزْوَاج لَقَالَ " وَأَنْكِحُوا " بِغَيْرِ هَمْز , وَكَانَتْ الْأَلِف لِلْوَصْلِ . وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ الْمَرْأَة لَيْسَ لَهَا أَنْ تُنْكِح نَفْسهَا بِغَيْرِ وَلِيّ ; وَهُوَ قَوْل أَكْثَر الْعُلَمَاء . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : إِذَا زَوَّجَتْ الثَّيِّب أَوْ الْبِكْر نَفْسهَا بِغَيْرِ وَلِيّ كُفْء لَهَا جَازَ . وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي " الْبَقَرَة " مُسْتَوْفًى .

اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي هَذَا الْأَمْر عَلَى ثَلَاثَة أَقْوَال ; فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : يَخْتَلِف الْحُكْم فِي ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ حَال الْمُؤْمِن مِنْ خَوْف الْعَنَت , وَمِنْ عَدَم صَبْره , وَمِنْ قُوَّته عَلَى الصَّبْر وَزَوَال خَشْيَة الْعَنَت عَنْهُ . وَإِذَا خَافَ الْهَلَاك فِي الدِّين أَوْ الدُّنْيَا أَوْ فِيهِمَا فَالنِّكَاح حَتْم . وَإِنْ لَمْ يَخْشَ شَيْئًا وَكَانَتْ الْحَال مُطْلَقَة فَقَالَ الشَّافِعِيّ : النِّكَاح مُبَاح . وَقَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة : هُوَ مُسْتَحَبّ . تَعَلَّقَ الشَّافِعِيّ بِأَنَّهُ قَضَاء لَذَّة فَكَانَ مُبَاحًا كَالْأَكْلِ وَالشُّرْب . وَتَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا بِالْحَدِيثِ الصَّحِيح : ( مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ) .

" الْأَيَامَى مِنْكُمْ " أَيْ الَّذِينَ لَا أَزْوَاج لَهُمْ مِنْ الرِّجَال وَالنِّسَاء ; وَاحِدهمْ أَيِّم . قَالَ أَبُو عَمْرو : أَيَامَى مَقْلُوب أَيَايِم . وَاتَّفَقَ أَهْل اللُّغَة عَلَى أَنَّ الْأَيِّم فِي الْأَصْل هِيَ الْمَرْأَة الَّتِي لَا زَوْج لَهَا , بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا ; حَكَى ذَلِكَ أَبُو عَمْرو وَالْكِسَائِيّ وَغَيْرهمَا . تَقُول الْعَرَب : تَأَيَّمَتْ الْمَرْأَة إِذَا أَقَامَتْ لَا تَتَزَوَّج . وَفِي حَدِيث النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَنَا وَامْرَأَة سَفْعَاء الْخَدَّيْنِ تَأَيَّمَتْ عَلَى وَلَدهَا الصِّغَار حَتَّى يَبْلُغُوا أَوْ يُغْنِيهِمْ اللَّه مِنْ فَضْله كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّة ) . وَقَالَ الشَّاعِر : فَإِنْ تَنْكِحِي أَنْكِح وَإِنْ تَتَأَيَّمِي وَإِنْ كُنْت أَفْتَى مِنْكُمْ أَتَأَيَّم وَيُقَال : أَيِّم بَيِّن الْأَيْمَة. وَقَدْ آمَتْ هِيَ , وَإِمْت أَنَا . قَالَ الشَّاعِر : لَقَدْ إِمْت حَتَّى لَامَنِي كُلّ صَاحِب رَجَاء بِسَلْمَى أَنْ تَئِيم كَمَا إِمْت قَالَ أَبُو عُبَيْد : يُقَال رَجُل أَيِّم وَامْرَأَة أَيِّم ; وَأَكْثَر مَا يَكُون ذَلِكَ فِي النِّسَاء , وَهُوَ كَالْمُسْتَعَارِ فِي الرِّجَال . وَقَالَ أُمَيَّة بْن أَبِي الصَّلْت : لِلَّهِ دَرّ بَنِي عَلِيّ أَيِّم مِنْهُمْ وَنَاكِح وَقَالَ قَوْم : هَذِهِ الْآيَة نَاسِخَة لِحُكْمِ قَوْله تَعَالَى : " وَالزَّانِيَة لَا يَنْكِحهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِك وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ " [ النُّور : 3 ]. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أَوَّل السُّورَة وَالْحَمْد لِلَّهِ .

الْمَقْصُود مِنْ قَوْله تَعَالَى : " وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ " الْحَرَائِر وَالْأَحْرَار ; ثُمَّ بَيَّنَ حُكْم الْمَمَالِيك فَقَالَ : " وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادكُمْ وَإِمَائِكُمْ " . وَقَرَأَ الْحَسَن " وَالصَّالِحِينَ مِنْ عَبِيدكُمْ " , وَعَبِيد اِسْم لِلْجَمْعِ . قَالَ الْفَرَّاء : وَيَجُوز " وَإِمَاءَكُمْ " بِالنَّصْبِ , يَرُدّهُ عَلَى " الصَّالِحِينَ " يَعْنِي الذُّكُور وَالْإِنَاث ; وَالصَّلَاح الْإِيمَان . وَقِيلَ : الْمَعْنَى يَنْبَغِي أَنْ تَكُون الرَّغْبَة فِي تَزْوِيج الْإِمَاء وَالْعَبِيد إِذَا كَانُوا صَالِحِينَ فَيَجُوز تَزْوِيجهمْ , وَلَكِنْ لَا تَرْغِيب فِيهِ وَلَا اِسْتِحْبَاب ; كَمَا قَالَ " فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا " [ النُّور : 33 ] . ثُمَّ قَدْ تَجُوز الْكِتَابَة وَإِنْ لَمْ يُعْلَم أَنَّ فِي الْعَبْد خَيْرًا , وَلَكِنَّ الْخِطَاب وَرَدَ فِي التَّرْغِيب وَاسْتِحْبَاب , وَإِنَّمَا يُسْتَحَبّ كِتَابَة مَنْ فِيهِ خَيْر .

أَكْثَر الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُكْرِه عَبْده وَأَمَته عَلَى النِّكَاح ; وَهُوَ قَوْل مَالِك وَأَبِي حَنِيفَة وَغَيْرهمَا. قَالَ مَالِك : وَلَا يَجُوز ذَلِكَ إِذَا كَانَ ضَرَرًا . وَرُوِيَ نَحْوه عَنْ الشَّافِعِيّ , ثُمَّ قَالَ : لَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُكْرِه الْعَبْد عَلَى النِّكَاح . وَقَالَ النَّخَعِيّ : كَانُوا يُكْرِهُونَ الْمَمَالِيك عَلَى النِّكَاح وَيُغْلِقُونَ عَلَيْهِمْ الْأَبْوَاب . تَمَسَّكَ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ فَقَالُوا : الْعَبْد مُكَلَّف فَلَا يُجْبَر عَلَى النِّكَاح ; لِأَنَّ التَّكْلِيف يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْعَبْد كَامِل مِنْ جِهَة الْآدَمِيَّة , وَإِنَّمَا تَتَعَلَّق بِهِ الْمَمْلُوكِيَّة فِيمَا كَانَ حَظًّا لِلسَّيِّدِ مِنْ مِلْك الرَّقَبَة وَالْمَنْفَعَة , بِخِلَافِ الْأَمَة فَإِنَّهُ لَهُ حَقّ الْمَمْلُوكِيَّة فِي بُضْعهَا لِيَسْتَوْفِيَهُ ; فَأَمَّا بُضْع الْعَبْد فَلَا حَقّ لَهُ فِيهِ , وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَا تُبَاح السَّيِّدَة لِعَبْدِهَا . هَذِهِ عُمْدَة أَهْل خُرَاسَان وَالْعِرَاق , وَعُمْدَتهمْ أَيْضًا الطَّلَاق , فَإِنَّهُ يَمْلِكهُ الْعَبْد بِتَمَلُّكِ عَقْده . وَلِعُلَمَائِنَا النُّكْتَة الْعُظْمَى فِي أَنَّ مَالِكِيَّة الْعَبْد اِسْتَغْرَقَتْهَا مَالِكِيَّة السَّيِّد ; وَلِذَلِكَ لَا يَتَزَوَّج إِلَّا بِإِذْنِهِ بِإِجْمَاعٍ . وَالنِّكَاح وَبَابه إِنَّمَا هُوَ مِنْ الْمَصَالِح , وَمَصْلَحَة الْعَبْد مَوْكُولَة إِلَى السَّيِّد , هُوَ يَرَاهَا وَيُقِيمهَا لِلْعَبْدِ .



رَجَعَ الْكَلَام إِلَى الْأَحْرَار ; أَيْ لَا تَمْتَنِعُوا عَنْ التَّزْوِيج بِسَبَبِ فَقْر الرَّجُل وَالْمَرْأَة ; " إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمْ اللَّه مِنْ فَضْله " . وَهَذَا وَعْد بِالْغِنَى لِلْمُتَزَوِّجِينَ طَلَب رِضَا اللَّه وَاعْتِصَامًا مِنْ مَعَاصِيه . وَقَالَ اِبْن مَسْعُود : اِلْتَمِسُوا الْغِنَى فِي النِّكَاح ; وَتَلَا هَذِهِ الْآيَة . وَقَالَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : عَجَبِي مِمَّنْ لَا يَطْلُب الْغِنَى فِي النِّكَاح , وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى : " إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمْ اللَّه مِنْ فَضْله " . وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَيْضًا . وَمِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( ثَلَاثَة كُلّهمْ حَقّ عَلَى اللَّه عَوْنه الْمُجَاهِد فِي سَبِيل اللَّه وَالنَّاكِح يُرِيد الْعَفَاف وَالْمُكَاتَب يُرِيد الْأَدَاء ) . أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ نَجِد النَّاكِح لَا يَسْتَغْنِي ; قُلْنَا : لَا يَلْزَم أَنْ يَكُون هَذَا عَلَى الدَّوَام , بَلْ لَوْ كَانَ فِي لَحْظَة وَاحِدَة لَصَدَقَ الْوَعْد . وَقَدْ قِيلَ : يُغْنِيه ; أَيْ يُغْنِي النَّفْس . وَفِي الصَّحِيح ( لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَة الْعَرَض إِنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْس ) . وَقَدْ قِيلَ : لَيْسَ وَعْد لَا يَقَع فِيهِ خُلْف , بَلْ الْمَعْنَى أَنَّ الْمَال غَادٍ وَرَائِح , فَارْجُوا الْغِنَى . وَقِيلَ : الْمَعْنَى يُغْنِهِمْ اللَّه مِنْ فَضْله إِنْ شَاءَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَيَكْشِف مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ " [ الْأَنْعَام : 41 ] , وَقَالَ تَعَالَى : " يَبْسُط الرِّزْق لِمَنْ يَشَاء " [ الشُّورَى : 12 ] . وَقِيلَ : الْمَعْنَى إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاء إِلَى النِّكَاح يُغْنِهِمْ اللَّه بِالْحَلَالِ لِيَتَعَفَّفُوا عَنْ الزِّنَى .

هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى تَزْوِيج الْفَقِير , وَلَا يَقُول كَيْفَ أَتَزَوَّج وَلَيْسَ لِي مَال ; فَإِنَّ رِزْقه عَلَى اللَّه . وَقَدْ زَوَّجَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَرْأَة الَّتِي أَتَتْهُ تَهَب لَهُ نَفْسهَا لِمَنْ لَيْسَ لَهُ إِلَّا إِزَار وَاحِد , وَلَيْسَ لَهَا بَعْد ذَلِكَ فَسْخ النِّكَاح بِالْإِعْسَارِ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ ; وَإِنَّمَا يَكُون ذَلِكَ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْيَسَار فَخَرَجَ مُعْسِرًا , أَوْ طَرَأَ الْإِعْسَار بَعْد ذَلِكَ لِأَنَّ الْجُوع لَا صَبْر عَلَيْهِ ; قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا . وَقَالَ النَّقَّاش : هَذِهِ الْآيَة حُجَّة عَلَى مَنْ قَالَ : إِنَّ الْقَاضِي يُفَرِّق بَيْن الزَّوْجَيْنِ إِذَا كَانَ الزَّوْج فَقِيرًا لَا يَقْدِر عَلَى النَّفَقَة ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ : " يُغْنِهِمْ اللَّه " وَلَمْ يَقُلْ يُفَرَّق . وَهَذَا اِنْتِزَاع ضَعِيف , وَلَيْسَ هَذِهِ الْآيَة حُكْمًا فِيمَنْ عَجَزَ عَنْ النَّفَقَة , وَإِنَّمَا هِيَ وَعْد بِالْإِغْنَاءِ لِمَنْ تَزَوَّجَ فَقِيرًا . فَأَمَّا مَنْ تَزَوَّجَ مُوسِرًا وَأَعْسَرَ بِالنَّفَقَةِ فَإِنَّهُ يُفَرَّق بَيْنهمَا ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّه كُلًّا مِنْ سَعَته " [ النِّسَاء : 130 ] . وَنَفَحَات اللَّه تَعَالَى مَأْمُولَة فِي كُلّ حَال مَوْعُود بِهَا .
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌسورة النور الآية رقم 33
" وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ " الْخِطَاب لِمَنْ يَمْلِك أَمْر نَفْسه , لَا لِمَنْ زِمَامه بِيَدِ غَيْره فَإِنَّهُ يَقُودهُ إِلَى مَا يَرَاهُ ; كَالْمَحْجُورِ - قَوْلًا وَاحِدًا - وَالْأَمَة وَالْعَبْد ; عَلَى أَحَد قَوْلَيْ الْعُلَمَاء .

وَ " اِسْتَعْفَفَ " وَزْنه اِسْتَفْعَلَ ; وَمَعْنَاهُ طَلَبَ أَنْ يَكُون عَفِيفًا ; فَأَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَة كُلّ مَنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ النِّكَاح وَلَا يَجِدهُ بِأَيِّ وَجْه تَعَذَّرَ أَنْ يَسْتَعْفِف . ثُمَّ لَمَّا كَانَ أَغْلَب الْمَوَانِع عَلَى النِّكَاح عَدَم الْمَال وَعَدَ بِالْإِغْنَاءِ مِنْ فَضْله ; فَيَرْزُقهُ مَا يَتَزَوَّج بِهِ , أَوْ يَجِد اِمْرَأَة تَرْضَى بِالْيَسِيرِ مِنْ الصَّدَاق , أَوْ تَزُول عَنْهُ شَهْوَة النِّسَاء . وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( ثَلَاثَة كُلّهمْ حَقّ عَلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَوْنهمْ الْمُجَاهِد فِي سَبِيل اللَّه وَالنَّاكِح الَّذِي يُرِيد الْعَفَاف وَالْمُكَاتَب الَّذِي يُرِيد الْأَدَاء ) .

" لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا " أَيْ طَوْل نِكَاح ; فَحُذِفَ الْمُضَاف . وَقِيلَ : النِّكَاح هَاهُنَا مَا تُنْكَح بِهِ الْمَرْأَة مِنْ الْمَهْر وَالنَّفَقَة ; كَاللِّحَافِ اِسْم لِمَا يُلْتَحَف بِهِ. وَاللِّبَاس اِسْم لِمَا يُلْبَس ; فَعَلَى هَذَا لَا حَذْف فِي الْآيَة , قَالَهُ جَمَاعَة مِنْ الْمُفَسِّرِينَ ; وَحَمَلَهُمْ عَلَى هَذَا قَوْله تَعَالَى : " حَتَّى يُغْنِيهِمْ اللَّه مِنْ فَضْله " فَظَنُّوا أَنَّ الْمَأْمُور بِالِاسْتِعْفَافِ إِنَّمَا هُوَ مَنْ عَدِمَ الْمَال الَّذِي يَتَزَوَّج بِهِ . وَفِي هَذَا الْقَوْل تَخْصِيص الْمَأْمُورِينَ بِالِاسْتِعْفَافِ ; وَذَلِكَ ضَعِيف , بَلْ الْأَمْر بِالِاسْتِعْفَافِ مُتَوَجِّه لِكُلِّ مَنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ النِّكَاح بِأَيِّ وَجْه تَعَذَّرَ , كَمَا قَدَّمْنَاهُ , وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم .

مَنْ تَاقَتْ نَفْسه إِلَى النِّكَاح فَإِنْ وَجَدَ الطَّوْل فَالْمُسْتَحَبّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّج , وَإِنْ لَمْ يَجِد الطَّوْل فَعَلَيْهِ بِالِاسْتِعْفَافِ مَا أَمْكَنَ وَلَوْ بِالصَّوْمِ فَإِنَّ الصَّوْم لَهُ وِجَاء ; كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَر الصَّحِيح. وَمَنْ لَمْ تَتُقْ نَفْسه إِلَى النِّكَاح فَالْأَوْلَى لَهُ التَّخَلِّي لِعِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى . وَفِي الْخَبَر ( خَيْركُمْ الْخَفِيف الْحَاذِ الَّذِي لَا أَهْل لَهُ وَلَا وَلَد ) . وَقَدْ تَقَدَّمَ جَوَاز نِكَاح الْإِمَاء عِنْد عَدَم الطَّوْل لِلْحُرَّةِ فِي " النِّسَاء " وَالْحَمْد لِلَّهِ . وَلَمَّا لَمْ يَجْعَل اللَّه لَهُ مِنْ الْعِفَّة وَالنِّكَاح دَرَجَة دَلَّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُمَا مُحَرَّم وَلَا يَدْخُل فِيهِ مِلْك الْيَمِين ; لِأَنَّهُ بِنَصٍّ آخَر مُبَاح وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : " أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانكُمْ " فَجَاءَتْ فِيهِ زِيَادَة وَيَبْقَى عَلَى التَّحْرِيم الِاسْتِمْنَاء رَدًّا عَلَى أَحْمَد . وَكَذَلِكَ يَخْرُج عَنْهُ نِكَاح الْمُتْعَة بِنَسْخِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي " الْمُؤْمِنُونَ " .



فِيهِ إِحْدَى عَشْرَة مَسْأَلَة : الْأُولَى : " الَّذِينَ " فِي مَوْضِع رَفْع . وَعِنْد الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى إِضْمَار فِعْل ; لِأَنَّ بَعْده أَمْرًا. وَلَمَّا جَرَى ذِكْر الْعَبِيد وَالْإِمَاء فِيمَا سَبَقَ وُصِلَ بِهِ أَنَّ الْعَبْد إِنْ طَلَبَ الْكِتَاب فَالْمُسْتَحَبّ كِتَابَته ; فَرُبَّمَا يَقْصِد بِالْكِتَابَةِ أَنْ يَسْتَقِلّ وَيَكْتَسِب وَيَتَزَوَّج إِذَا أَرَادَ , فَيَكُون أَعَفّ لَهُ . قِيلَ : نَزَلَتْ فِي غُلَام لِحُوَيْطِبِ بْن عَبْد الْعُزَّى يُقَال لَهُ صُبْح - وَقِيلَ صُبَيْح - طَلَبَ مِنْ مَوْلَاهُ أَنْ يُكَاتِبهُ فَأَبَى ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَة , فَكَاتَبَهُ حُوَيْطِب عَلَى مِائَة دِينَار وَوَهَبَ لَهُ مِنْهَا عِشْرِينَ دِينَارًا فَأَدَّاهَا , وَقُتِلَ بِحُنَيْنٍ فِي الْحَرْب ; ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيّ وَحَكَاهُ النَّقَّاش . وَقَالَ مَكِّيّ : هُوَ صُبَيْح الْقِبْطِيّ غُلَام حَاطِب بْن أَبِي بَلْتَعَة. وَعَلَى الْجُمْلَة فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ كَافَّة أَنْ يُكَاتِب مِنْهُمْ كُلّ مَنْ لَهُ مَمْلُوك وَطَلَبَ الْمَمْلُوك الْكِتَابَة وَعَلِمَ سَيِّده مِنْهُ خَيْرًا .

الثَّانِيَة : الْكِتَاب وَالْمُكَاتَبَة سَوَاء ; مُفَاعَلَة مِمَّا لَا تَكُون إِلَّا بَيْن اِثْنَيْنِ , لِأَنَّهَا مُعَاقَدَة بَيْن السَّيِّد وَعَبْده ; يُقَال : كَاتَبَ يُكَاتِب كِتَابًا وَمُكَاتَبَة , كَمَا يُقَال : قَاتَلَ قِتَالًا وَمُقَاتَلَة. فَالْكِتَاب فِي الْآيَة مَصْدَر كَالْقِتَالِ وَالْجِلَاد وَالدِّفَاع. وَقِيلَ : الْكِتَاب هَاهُنَا هُوَ الْكِتَاب الْمَعْرُوف الَّذِي يُكْتَب فِيهِ الشَّيْء ; وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا كَاتَبُوا الْعَبْد كَتَبُوا عَلَيْهِ وَعَلَى أَنْفُسهمْ بِذَلِكَ كِتَابًا . فَالْمَعْنَى يَطْلُبُونَ الْعِتْق الَّذِي يُكْتَب بِهِ الْكِتَاب فَيُدْفَع إِلَيْهِمْ .

الثَّالِثَة : مَعْنَى الْمُكَاتَبَة فِي الشَّرْع : هُوَ أَنْ يُكَاتِب الرَّجُل عَبْده عَلَى مَال يُؤَدِّيه مُنَجَّمًا عَلَيْهِ ; فَإِذَا أَدَّاهُ فَهُوَ حُرّ . وَلَهَا حَالَتَانِ : الْأُولَى : أَنْ يَطْلُبهَا الْعَبْد وَيُجِيبهُ السَّيِّد ; فَهَذَا مُطْلَق الْآيَة وَظَاهِرهَا . الثَّانِيَة : أَنْ يَطْلُبهَا الْعَبْد وَيَأْبَاهَا السَّيِّد ; وَفِيهَا قَوْلَانِ : الْأَوَّل : لِعِكْرِمَةَ وَعَطَاء وَمَسْرُوق وَعَمْرو بْن دِينَار وَالضَّحَّاك بْن مُزَاحِم وَجَمَاعَة أَهْل الظَّاهِر أَنَّ ذَلِكَ وَاجِب عَلَى السَّيِّد . وَقَالَ عُلَمَاء الْأَمْصَار : لَا يَجِب ذَلِكَ . وَتَعَلَّقَ مَنْ أَوْجَبَهَا بِمُطْلَقِ الْأَمْر , وَأَفْعَلَ بِمُطْلَقِهِ عَلَى الْوُجُوب حَتَّى يَأْتِي الدَّلِيل بِغَيْرِهِ . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَابْن عَبَّاس , وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيّ . وَاحْتَجَّ دَاوُد أَيْضًا بِأَنَّ سِيرِينَ أَبَا مُحَمَّد بْن سِيرِينَ سَأَلَ أَنَس بْن مَالِك الْكِتَابَة وَهُوَ مَوْلَاهُ فَأَبَى أَنَس ; فَرَفَعَ عُمَر عَلَيْهِ الدِّرَّة , وَتَلَا : " فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا " , فَكَاتَبَهُ أَنَس. قَالَ دَاوُد : وَمَا كَانَ عُمَر لِيَرْفَع الدِّرَّة عَلَى أَنَس فِيمَا لَهُ مُبَاح أَلَّا يَفْعَلهُ. وَتَمَسَّكَ الْجُمْهُور بِأَنَّ الْإِجْمَاع مُنْعَقِد عَلَى أَنَّهُ لَوْ سَأَلَهُ أَنْ يَبِيعهُ مِنْ غَيْره لَمْ يَلْزَمهُ ذَلِكَ , وَلَمْ يُجْبَر عَلَيْهِ وَإِنْ ضُوعِفَ لَهُ فِي الثَّمَن . وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ أَعْتِقْنِي أَوْ دَبِّرْنِي أَوْ زَوِّجْنِي لَمْ يَلْزَمهُ ذَلِكَ بِإِجْمَاعٍ , فَكَذَلِكَ الْكِتَابَة ; لِأَنَّهَا مُعَاوَضَة فَلَا تَصِحّ إِلَّا عَنْ تَرَاضٍ . وَقَوْلهمْ : مُطْلَق الْأَمْر يَقْتَضِي الْوُجُوب صَحِيح , لَكِنْ إِذَا عَرِيَ عَنْ قَرِينَة تَقْتَضِي صَرْفه عَنْ الْوُجُوب , وَتَعْلِيقه هُنَا بِشَرْطِ عِلْم الْخَيْر فِيهِ ; فَعُلِّقَ الْوُجُوب عَلَى أَمْر بَاطِن وَهُوَ عِلْم السَّيِّد بِالْخَيْرِيَّةِ . وَإِذَا قَالَ الْعَبْد : كَاتِبْنِي ; وَقَالَ السَّيِّد : لَمْ أَعْلَم فِيك خَيْرًا ; وَهُوَ أَمْر بَاطِن , فَيُرْجَع فِيهِ إِلَيْهِ وَيُعَوَّل عَلَيْهِ . وَهَذَا قَوِيّ فِي بَابه .

الرَّابِعَة : وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي قَوْله تَعَالَى : " خَيْرًا " فَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَعَطَاء : الْمَال. مُجَاهِد : الْمَال وَالْأَدَاء . وَالْحَسَن وَالنَّخَعِيّ : الدِّين وَالْأَمَانَة . وَقَالَ مَالِك : سَمِعْت بَعْض أَهْل الْعِلْم يَقُولُونَ هُوَ الْقُوَّة عَلَى الِاكْتِسَاب وَالْأَدَاء . وَعَنْ اللَّيْث نَحْوه , وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ . وَقَالَ عَبِيدَة السَّلْمَانِيّ : إِقَامَة الصَّلَاة وَالْخَيْر . قَالَ الطَّحَاوِيّ : وَقَوْل مَنْ قَالَ إِنَّهُ الْمَال لَا يَصِحّ عِنْدنَا ; لِأَنَّ الْعَبْد مَال لِمَوْلَاهُ , فَكَيْفَ يَكُون لَهُ مَال . وَالْمَعْنَى عِنْدنَا : إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ الدِّين وَالصِّدْق , وَعَلِمْتُمْ أَنَّهُمْ يُعَامِلُونَكُمْ عَلَى أَنَّهُمْ مُتَعَبِّدُونَ بِالْوَفَاءِ لَكُمْ بِمَا عَلَيْهِمْ مِنْ الْكِتَابَة وَالصِّدْق فِي الْمُعَامَلَة فَكَاتِبُوهُمْ. وَقَالَ أَبُو عُمَر : مَنْ لَمْ يَقُلْ إِنَّ الْخَيْر هُنَا الْمَال أَنْكَرَ أَنْ يُقَال إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ مَالًا , وَإِنَّمَا يُقَال : عَلِمْت فِيهِ الْخَيْر وَالصَّلَاح وَالْأَمَانَة ; وَلَا يُقَال : عَلِمْت فِيهِ الْمَال , وَإِنَّمَا يُقَال عَلِمْت عِنْده الْمَال .

قُلْت : وَحَدِيث بَرِيرَة يَرُدّ قَوْل مَنْ قَالَ : إِنَّ الْخَيْر الْمَال ; عَلَى مَا يَأْتِي .

الْخَامِسَة : اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي كِتَابَة مَنْ لَا حِرْفَة لَهُ ; فَكَانَ اِبْن عُمَر يَكْرَه أَنْ يُكَاتِب عَبْده إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ حِرْفَة , وَيَقُول : أَتَأْمُرُنِي أَنْ آكُل أَوْسَاخ النَّاس ; وَنَحْوه عَنْ سَلْمَان الْفَارِسِيّ . وَرَوَى حَكِيم بْن حِزَام فَقَالَ : كَتَبَ عُمَر بْن الْخَطَّاب إِلَى عُمَيْر بْن سَعْد : أَمَّا بَعْد ! فَإِنَّهُ مَنْ قَبْلك مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُكَاتِبُوا أَرِقَّاءَهُمْ عَلَى مَسْأَلَة النَّاس . وَكَرِهَهُ الْأَوْزَاعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق . وَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ اِبْن التَّيَّاح مُؤَذِّنه قَالَ لَهُ : أُكَاتِب وَلَيْسَ لِي مَال ؟ قَالَ نَعَمْ ; ثُمَّ حَضَّ النَّاس عَلَى الصَّدَقَة عَلَيَّ ; فَأَعْطَوْنِي مَا فَضَلَ عَنْ مُكَاتَبَتِي , فَأَتَيْت عَلِيًّا فَقَالَ : اِجْعَلْهَا فِي الرِّقَاب . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِك كَرَاهَة ذَلِكَ , وَأَنَّ الْأَمَة الَّتِي لَا حِرْفَة لَهَا يُكْرَه مُكَاتَبَتهَا لِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ مِنْ فَسَادهَا . وَالْحُجَّة فِي السُّنَّة لَا فِيمَا خَالَفَهَا. رَوَى الْأَئِمَّة عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : دَخَلَتْ عَلَيَّ بَرِيرَة فَقَالَتْ : إِنَّ أَهْلِي كَاتَبُونِي عَلَى تِسْع أَوَاقٍ فِي تِسْع سِنِينَ كُلّ سَنَة أُوقِيَّة , فَأَعِينِينِي ... ) الْحَدِيث . فَهَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُكَاتِب عَبْده وَهُوَ لَا شَيْء مَعَهُ ; أَلَا تَرَى أَنَّ بَرِيرَة جَاءَتْ عَائِشَة تُخْبِرهَا بِأَنَّهَا كَاتَبَتْ أَهْلهَا وَسَأَلَتْهَا أَنْ تُعِينهَا , وَذَلِكَ كَانَ فِي أَوَّل كِتَابَتهَا قَبْل أَنْ تُؤَدِّي مِنْهَا شَيْئًا ; كَذَلِكَ ذَكَرَهُ اِبْن شِهَاب عَنْ عُرْوَة أَنَّ عَائِشَة أَخْبَرَتْهُ أَنَّ بَرِيرَة جَاءَتْ تَسْتَعِينهَا فِي كِتَابَتهَا وَلَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتهَا شَيْئًا ; أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد . وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى جَوَاز كِتَابَة الْأَمَة , وَهِيَ غَيْر ذَات صَنْعَة وَلَا حِرْفَة وَلَا مَال , وَلَمْ يَسْأَل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ لَهَا كَسْب أَوْ عَمَل وَاصِب أَوْ مَال , وَلَوْ كَانَ هَذَا وَاجِبًا لَسَأَلَ عَنْهُ لِيَقَع حُكْمه عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ بُعِثَ مُبَيِّنًا مُعَلِّمًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفِي هَذَا الْحَدِيث مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ مَنْ تَأَوَّلَ فِي قَوْله تَعَالَى : " إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا " أَنَّ الْمَال الْخَيْر , لَيْسَ بِالتَّأْوِيلِ الْجَيِّد , وَأَنَّ الْخَيْر الْمَذْكُور هُوَ الْقُوَّة عَلَى الِاكْتِسَاب مَعَ الْأَمَانَة . وَاَللَّه أَعْلَم .

السَّادِسَة : الْكِتَابَة تَكُون بِقَلِيلِ الْمَال وَكَثِيره , وَتَكُون عَلَى أَنْجُم ; لِحَدِيثِ بَرِيرَة . وَهَذَا مَا لَا خِلَاف فِيهِ بَيْن الْعُلَمَاء وَالْحَمْد لِلَّهِ . فَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْف دِرْهَم وَلَمْ يَذْكُر أَجَلًا نُجِّمَتْ عَلَيْهِ بِقَدْرِ سِعَايَته وَإِنْ كَرِهَ السَّيِّد . قَالَ الشَّافِعِيّ : لَا بُدّ فِيهَا مِنْ أَجَل ; وَأَقَلّهَا ثَلَاثَة أَنْجُم . وَاخْتَلَفُوا إِذَا وَقَعَتْ عَلَى نَجْم وَاحِد فَأَكْثَر أَهْل الْعِلْم يُجِيزُونَهَا عَلَى نَجْم وَاحِد . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا تَجُوز عَلَى نَجْم وَاحِد , وَلَا تَجُوز حَالَّة الْبَتَّة , وَإِنَّمَا ذَلِكَ عِتْق عَلَى صِفَة ; كَأَنَّهُ قَالَ : إِذَا أَدَّيْت كَذَا وَكَذَا فَأَنْتَ حُرّ وَلَيْسَتْ كِتَابَة . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء وَالسَّلَف فِي الْكِتَابَة إِذَا كَانَتْ حَالَّة عَلَى قَوْلَيْنِ , وَاخْتَلَفَ قَوْل عُلَمَائِنَا كَاخْتِلَافِهِمْ. وَالصَّحِيح فِي النَّظَر أَنَّ الْكِتَابَة مُؤَجَّلَة ; كَمَا وَرَدَ بِهَا الْأَثَر فِي حَدِيث بَرِيرَة حِين كَاتَبَتْ أَهْلهَا عَلَى تِسْع أَوَاقٍ فِي كُلّ عَام أُوقِيَّة , وَكَمَا فَعَلَتْ الصَّحَابَة ; وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ كِتَابَة لِأَنَّهَا تُكْتَب وَيُشْهَد عَلَيْهَا , فَقَدْ اِسْتَوْسَقَ الِاسْم وَالْأَثَر , وَعَضَّدَهُ الْمَعْنَى ; فَإِنَّ الْمَال إِنْ جَعَلَهُ حَالًا وَكَانَ عِنْد الْعَبْد شَيْء فَهُوَ مَال مُقَاطَعَة وَعَقْد مُقَاطَعَة لَا عَقْد كِتَابَة . وَقَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : إِذَا كَاتَبَهُ عَلَى مَال مُعَجَّل كَانَ عِتْقًا عَلَى مَال , وَلَمْ تَكُنْ كِتَابَة . وَأَجَازَ غَيْره مِنْ أَصْحَابنَا الْكِتَابَة الْحَالَّة وَسَمَّاهَا قِطَاعَة , وَهُوَ الْقِيَاس ; لِأَنَّ الْأَجَل فِيهَا إِنَّمَا هُوَ فُسْحَة لِلْعَبْدِ فِي التَّكَسُّب. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَاءَ بِالْمُنَجَّمِ عَلَيْهِ قَبْل مَحِلّه لَوَجَبَ عَلَى السَّيِّد أَنْ يَأْخُذهُ وَيَتَعَجَّل لِلْمُكَاتَبِ عِتْقه . وَتَجُوز الْكِتَابَة الْحَالَّة ; قَالَهُ الْكُوفِيُّونَ .

قُلْت : لَمْ يَرِد عَنْ مَالِك نَصّ فِي الْكِتَابَة الْحَالَّة ; وَالْأَصْحَاب يَقُولُونَ : إِنَّهَا جَائِزَة , وَيُسَمُّونَهَا قِطَاعَة. وَأَمَّا قَوْل الشَّافِعِيّ إِنَّهَا لَا تَجُوز عَلَى أَقَلّ مِنْ ثَلَاثَة أَنْجُم فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَجَازَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقُول : لَا يَجُوز عَلَى أَقَلّ مِنْ خَمْسَة نُجُوم ; لِأَنَّهَا أَقَلّ النُّجُوم الَّتِي كَانَتْ عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَرِيرَة , وَعَلِمَ بِهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَضَى فِيهَا , فَكَانَ بِصَوَابِ الْحُجَّة أَوْلَى . رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ عَائِشَة أَنَّ بَرِيرَة دَخَلَتْ عَلَيْهَا تَسْتَعِينهَا فِي كِتَابَتهَا وَعَلَيْهَا خَمْسَة أَوَاقٍ نُجِّمَتْ عَلَيْهَا فِي خَمْس سِنِينَ ... الْحَدِيث . كَذَا قَالَ اللَّيْث عَنْ يُونُس عَنْ اِبْن شِهَاب عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة : وَعَلَيْهَا خَمْسَة أَوَاقٍ نُجِّمَتْ عَلَيْهَا فِي خَمْس سِنِينَ . وَقَالَ أَبُو أُسَامَة عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : جَاءَتْ بَرِيرَة فَقَالَتْ : إِنِّي كَاتَبْت أَهْلِي عَلَى تِسْع أَوَاقٍ ... الْحَدِيث . وَظَاهِر الرِّوَايَتَيْنِ تَعَارُض , غَيْر أَنَّ حَدِيث هِشَام أَوْلَى لِاتِّصَالِهِ وَانْقِطَاع حَدِيث يُونُس ; لِقَوْلِ الْبُخَارِيّ : وَقَالَ اللَّيْث حَدَّثَنِي يُونُس ; وَلِأَنَّ هِشَامًا أَثْبَتَ فِي حَدِيث أَبِيهِ وَجَدّه مِنْ غَيْره , وَاَللَّه أَعْلَم .

السَّابِعَة : الْمُكَاتَب عَبْد مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ مَال الْكِتَابَة شَيْء ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( الْمُكَاتَب عَبْد مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ مُكَاتَبَته دِرْهَم ) . أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( أَيّمَا عَبْد كَاتَبَ عَلَى مِائَة دِينَار فَأَدَّاهَا إِلَّا عَشَرَة دَنَانِير فَهُوَ عَبْد ) . وَهَذَا قَوْل مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابهمْ وَالثَّوْرِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبِي ثَوْر وَدَاوُد وَالطَّبَرِيّ . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ اِبْن عُمَر مِنْ وُجُوه , وَعَنْ زَيْد بْن ثَابِت وَعَائِشَة وَأُمّ سَلَمَة , لَمْ يُخْتَلَف عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب , وَبِهِ قَالَ اِبْن الْمُسَيِّب وَالْقَاسِم وَسَالِم وَعَطَاء . قَالَ مَالِك : وَكُلّ مَنْ أَدْرَكْنَا بِبَلَدِنَا يَقُول ذَلِكَ. وَفِيهَا قَوْل آخَر رُوِيَ عَنْ عَلِيّ أَنَّهُ إِذَا أَدَّى الشَّطْر فَهُوَ غَرِيم ; وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيّ . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ , وَالْإِسْنَاد عَنْهُ بِأَنَّ الْمُكَاتَب عَبْد مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَم , خَيْر مِنْ الْإِسْنَاد عَنْهُ بِأَنَّ الْمُكَاتَب إِذَا أَدَّى الشَّطْر فَلَا رِقّ عَلَيْهِ ; قَالَهُ أَبُو عُمَر . وَعَنْ عَلِيّ أَيْضًا يَعْتِق مِنْهُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى . وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّ الْعَتَاقَة تَجْرِي فِيهِ بِأَوَّلِ نَجْم يُؤَدِّيه . وَقَالَ اِبْن مَسْعُود : إِذَا أَدَّى ثُلُث الْكِتَابَة فَهُوَ عَتِيق غَرِيم ; وَهَذَا قَوْل شُرَيْح . وَعَنْ اِبْن مَسْعُود : لَوْ كَانَتْ الْكِتَابَة مِائَتَيْ دِينَار وَقِيمَة الْعَبْد مِائَة دِينَار فَأَدَّى الْعَبْد الْمِائَة الَّتِي هِيَ قِيمَته عِتْق ; وَهُوَ قَوْل النَّخَعِيّ أَيْضًا . وَقَوْل سَابِع : إِذَا أَدَّى الثَّلَاثَة الْأَرْبَاع وَبَقِيَ الرُّبْع فَهُوَ غَرِيم وَلَا يَعُود عَبْدًا ; قَالَهُ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح , رَوَاهُ اِبْن جُرَيْج عَنْهُ . وَحُكِيَ عَنْ بَعْض السَّلَف أَنَّهُ بِنَفْسِ عَقْد الْكِتَابَة حُرّ , وَهُوَ غَرِيم بِالْكِتَابَةِ وَلَا يَرْجِع إِلَى الرِّقّ أَبَدًا . وَهَذَا الْقَوْل يَرُدّهُ حَدِيث بَرِيرَة لِصِحَّتِهِ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفِيهِ دَلِيل وَاضِح عَلَى أَنَّ الْمُكَاتَب عَبْد , وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا بِيعَتْ بَرِيرَة , وَلَوْ كَانَ فِيهَا شَيْء مِنْ الْعِتْق مَا أَجَازَ بَيْع ذَلِكَ ; إِذْ مِنْ سُنَّته الْمُجْمَع عَلَيْهَا أَلَّا يُبَاع الْحُرّ . وَكَذَلِكَ كِتَابَة سَلْمَان وَجُوَيْرِيَة ; فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ لِجَمِيعِهِمْ بِالرِّقِّ حَتَّى أَدَّوْا الْكِتَابَة . وَهِيَ حُجَّة لِلْجُمْهُورِ فِي أَنَّ الْمَكَاتَب عَبْد مَا بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْء . وَقَدْ نَاظَرَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب زَيْد بْن ثَابِت فِي الْمُكَاتَب ; فَقَالَ لِعَلِيٍّ : أَكُنْت رَاجِمه لَوْ زَنَى , أَوْ مُجِيزًا شَهَادَته لَوْ شَهِدَ ؟ فَقَالَ عَلِيّ لَا . فَقَالَ زَيْد : هُوَ عَبْد مَا بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْء . وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيّ عَنْ عَلِيّ وَابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( الْمُكَاتَب يَعْتِق مِنْهُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى وَيُقَام عَلَيْهِ الْحَدّ بِقَدْرِ مَا أَدَّى وَيَرِث بِقَدْرِ مَا عَتَقَ مِنْهُ ) . وَإِسْنَاده صَحِيح. وَهُوَ حُجَّة لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيّ , وَيَعْتَضِد بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ نَبْهَان مُكَاتَب أُمّ سَلَمَة قَالَ سَمِعْت أُمّ سَلَمَة تَقُول : قَالَ لَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا كَانَ لِإِحْدَاكُنَّ مُكَاتَب وَكَانَ عِنْده مَا يُؤَدِّي فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ ) . وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ : حَدِيث حَسَن صَحِيح. إِلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون خِطَابًا مَعَ زَوْجَاته , أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ وَالْوَرَع فِي حَقّهنَّ ; كَمَا قَالَ لِسَوْدَةَ : ( اِحْتَجِبِي مِنْهُ ) مَعَ أَنَّهُ قَدْ حَكَمَ بِأُخُوَّتِهَا لَهُ , وَبِقَوْلِهِ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَة : ( أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا أَلَسْتُمَا تُبْصِرَانِهِ ) يَعْنِي اِبْن أُمّ مَكْتُوم , مَعَ أَنَّهُ قَالَ لِفَاطِمَةَ بِنْت قَيْس : ( اِعْتَدِّي عِنْد اِبْن أُمّ مَكْتُوم ) وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى .

الثَّامِنَة : أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْمُكَاتَب إِذَا حَلَّ عَلَيْهِ نَجْم مِنْ نُجُومه أَوْ نَجْمَانِ أَوْ نُجُومه كُلّهَا فَوَقْف السَّيِّد عَنْ مُطَالَبَته وَتَرْكه بِحَالِهِ أَنَّ الْكِتَابَة لَا تَنْفَسِخ مَا دَامَا عَلَى ذَلِكَ ثَابِتَيْنِ .

التَّاسِعَة : قَالَ مَالِك : لَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُعَجِّز نَفْسه إِذَا كَانَ لَهُ مَال ظَاهِر , وَإِنْ لَمْ يَظْهَر لَهُ مَال فَذَلِكَ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : لَا يُمَكَّن مِنْ تَعْجِيز نَفْسه إِذَا كَانَ قَوِيًّا عَلَى الْأَدَاء . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَهُ أَنْ يُعَجِّز نَفْسه , عُلِمَ لَهُ مَال أَوْ قُوَّة عَلَى الْكِتَابَة أَوْ لَمْ يُعْلَم ; فَإِذَا قَالَ : قَدْ عَجَزْت وَأَبْطَلْت الْكِتَابَة فَذَلِكَ إِلَيْهِ . وَقَالَ مَالِك : إِذَا عَجَزَ الْمُكَاتَب فَكُلّ مَا قَبَضَهُ مِنْهُ سَيِّده قَبْل الْعَجْز حِلّ لَهُ , كَانَ مِنْ كَسْبه أَوْ مِنْ صَدَقَة عَلَيْهِ . وَأَمَّا مَا أُعِينَ بِهِ عَلَى فِكَاك رَقَبَته فَلَمْ يَفِ ذَلِكَ بِكِتَابَتِهِ كَانَ لِكُلِّ مَنْ أَعَانَهُ الرُّجُوع بِمَا أَعْطَى أَوْ تَحَلَّلَ مِنْهُ الْمُكَاتَب . وَلَوْ أَعَانُوهُ صَدَقَة لَا عَلَى فِكَاك رَقَبَته فَذَلِكَ إِنْ عَجَزَ حَلَّ لِسَيِّدِهِ وَلَوْ تَمَّ بِهِ فِكَاكه وَبَقِيَتْ مِنْهُ فَضْلَة . فَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْفِكَاك رَدَّهَا إِلَيْهِمْ بِالْحِصَصِ أَوْ يُحَلِّلُونَهُ مِنْهَا . هَذَا كُلّه مَذْهَب مَالِك فِيمَا ذَكَرَ اِبْن الْقَاسِم . وَقَالَ أَكْثَر أَهْل الْعِلْم : إِنَّ مَا قَبَضَهُ السَّيِّد مِنْهُ مِنْ كِتَابَته , وَمَا فَضَلَ بِيَدِهِ بَعْد عَجْزه مِنْ صَدَقَة أَوْ غَيْرهَا فَهُوَ لِسَيِّدِهِ , يَطِيب لَهُ أَخْذ ذَلِكَ كُلّه . هَذَا قَوْل الشَّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابهمَا وَأَحْمَد بْن حَنْبَل , وَرِوَايَة عَنْ شُرَيْح . وَقَالَ الثَّوْرِيّ : يَجْعَل السَّيِّد مَا أَعْطَاهُ فِي الرِّقَاب ; وَهُوَ قَوْل مَسْرُوق وَالنَّخَعِيّ , وَرِوَايَة عَنْ شُرَيْح . وَقَالَتْ طَائِفَة : مَا قَبَضَ مِنْهُ السَّيِّد فَهُوَ لَهُ , وَمَا فَضَلَ بِيَدِهِ بَعْد الْعَجْز فَهُوَ لَهُ دُون سَيِّده ; وَهَذَا قَوْل بَعْض مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْعَبْد يُمْلَك . وَقَالَ إِسْحَاق : مَا أُعْطِيَ بِحَالٍ الْكِتَابَة رُدَّ عَلَى أَرْبَابه .

الْعَاشِرَة : حَدِيث بَرِيرَة عَلَى اِخْتِلَاف طُرُقه وَأَلْفَاظه يَتَضَمَّن أَنَّ بَرِيرَة وَقَعَ فِيهَا بَيْع بَعْد كِتَابَة تَقَدَّمَتْ . وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي بَيْع الْمُكَاتَب بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيّ ( بَاب بَيْع الْمُكَاتَب إِذَا رَضِيَ ) . وَإِلَى جَوَاز بَيْعه لِلْعِتْقِ إِذَا رَضِيَ الْمُكَاتَب بِالْبَيْعِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَاجِزًا , ذَهَبَ اِبْن الْمُنْذِر وَالدَّاوُدِيّ , وَهُوَ الَّذِي اِرْتَضَاهُ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ , وَبِهِ قَالَ اِبْن شِهَاب وَأَبُو الزِّنَاد وَرَبِيعَة ; غَيْر أَنَّهُمْ قَالُوا : لِأَنَّ رِضَاهُ بِالْبَيْعِ عَجْز مِنْهُ . وَقَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابهمَا : لَا يَجُوز بَيْع الْمُكَاتَب مَا دَامَ مُكَاتَبًا حَتَّى يَعْجِز , وَلَا يَجُوز بَيْع كِتَابَته بِحَالٍ ; وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ بِمِصْرَ , وَكَانَ بِالْعِرَاقِ يَقُول : بَيْعه جَائِز , وَأَمَّا بَيْع كِتَابَته فَغَيْر جَائِزَة . وَأَجَازَ مَالِك بَيْع الْكِتَابَة ; فَإِنْ أَدَّاهَا عَتَقَ وَإِلَّا كَانَ رَقِيقًا لِمُشْتَرِي الْكِتَابَة . وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَة ; لِأَنَّهُ بَيْع غَرَر . وَاخْتَلَفَ قَوْل الشَّافِعِيّ فِي ذَلِكَ بِالْمَنْعِ وَالْإِجَازَة. وَقَالَتْ طَائِفَة : يَجُوز بَيْع الْمُكَاتَب عَلَى أَنْ يَمْضِي فِي كِتَابَته ; فَإِنْ أَدَّى عَتَقَ وَكَانَ وَلَاؤُهُ لِلَّذِي اِبْتَاعَهُ , وَلَوْ عَجَزَ فَهُوَ عَبْد لَهُ . وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيّ وَعَطَاء وَاللَّيْث وَأَحْمَد وَأَبُو ثَوْر . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : لَا يُبَاع الْمُكَاتَب إِلَّا لِلْعِتْقِ , وَيُكْرَه أَنْ يُبَاع قَبْل عَجْزه ; وَهُوَ قَوْل أَحْمَد وَإِسْحَاق. قَالَ أَبُو عُمَر : فِي حَدِيث بَرِيرَة إِجَازَة بَيْع الْمُكَاتَب إِذَا رَضِيَ بِالْبَيْعِ وَلَمْ يَكُنْ عَاجِزًا عَنْ أَدَاء نَجْم قَدْ حَلَّ عَلَيْهِ ; بِخِلَافِ قَوْل مَنْ زَعَمَ أَنَّ بَيْع الْمُكَاتَب غَيْر جَائِز إِلَّا بِالْعَجْزِ ; لِأَنَّ بَرِيرَة لَمْ تَذْكُر أَنَّهَا عَجَزَتْ عَنْ أَدَاء نَجْم , وَلَا أَخْبَرَتْ بِأَنَّ النَّجْم قَدْ حَلَّ عَلَيْهَا , وَلَا قَالَ لَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعَاجِزَة أَنْتِ أَمْ هَلْ حَلَّ عَلَيْك نَجْم . وَلَوْ لَمْ يَجُزْ بَيْع الْمُكَاتَب وَالْمُكَاتَبَة إِلَّا بِالْعَجْزِ عَنْ أَدَاء مَا قَدْ حَلَّ لَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَأَلَهَا أَعَاجِزَة هِيَ أَمْ لَا , وَمَا كَانَ لِيَأْذَنَ فِي شِرَائِهَا إِلَّا بَعْد عِلْمه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا عَاجِزَة وَلَوْ عَنْ أَدَاء نَجْم وَاحِد قَدْ حَلَّ عَلَيْهَا. وَفِي حَدِيث الزُّهْرِيّ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتهَا شَيْئًا . وَلَا أَعْلَم فِي هَذَا الْبَاب حُجَّة أَصَحّ مِنْ حَدِيث بَرِيرَة هَذَا , وَلَمْ يُرْوَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْء يُعَارِضهُ , وَلَا فِي شَيْء مِنْ الْأَخْبَار دَلِيل عَلَى عَجْزهَا . اِسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ مِنْ بَيْع الْمُكَاتَب بِأُمُورٍ : مِنْهَا أَنْ قَالُوا إِنَّ الْكِتَابَة الْمَذْكُورَة لَمْ تَكُنْ اِنْعَقَدَتْ , وَأَنَّ قَوْلهَا كَاتَبْت أَهْلِي مَعْنَاهُ أَنَّهَا رَاوَضَتْهُمْ عَلَيْهَا , وَقَدَّرُوا مَبْلَغهَا وَأَجَلهَا وَلَمْ يَعْقِدُوهَا . وَظَاهِر الْأَحَادِيث خِلَاف هَذَا إِذَا تُؤُمِّلَ مَسَاقهَا . وَقِيلَ : إِنَّ بَرِيرَة عَجَزَتْ عَنْ الْأَدَاء فَاتَّفَقَتْ هِيَ وَأَهْلهَا عَلَى فَسْخ الْكِتَابَة , وَحِينَئِذٍ صَحَّ الْبَيْع ; إِلَّا أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَتَمَشَّى عَلَى قَوْل مَنْ يَقُول : إِنَّ تَعْجِيز الْمُكَاتَب غَيْر مُفْتَقِر إِلَى حُكْم حَاكِم إِذَا اِتَّفَقَ الْعَبْد وَالسَّيِّد عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْحَقّ لَا يَعْدُوهُمَا , وَهُوَ الْمَذْهَب الْمَعْرُوف. وَقَالَ سَحْنُون : لَا بُدّ مِنْ السُّلْطَان ; وَهَذَا إِنَّمَا خَافَ أَنْ يَتَوَاطَآ عَلَى تَرْك حَقّ اللَّه تَعَالَى . وَيَدُلّ عَلَى صِحَّة أَنَّهَا عَجَزَتْ مَا رُوِيَ أَنَّ بَرِيرَة جَاءَتْ عَائِشَة تَسْتَعِينهَا فِي كِتَابَتهَا وَلَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتهَا شَيْئًا ; فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَة : اِرْجِعِي إِلَى أَهْلك فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ أَقْضِي عَنْك كِتَابَتك فَعَلْت . فَظَاهِر هَذَا أَنَّ جَمِيع كِتَابَتهَا أَوْ بَعْضهَا اُسْتُحِقَّ عَلَيْهَا ; لِأَنَّهُ لَا يُقْضَى مِنْ الْحُقُوق إِلَّا مَا وَجَبَتْ الْمُطَالَبَة بِهِ , وَاَللَّه أَعْلَم . هَذِهِ التَّأْوِيلَات أَشْبَه مَا لَهُمْ وَفِيهَا مِنْ الدَّخَل مَا بَيَّنَّاهُ . وَقَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَلَا أَعْلَم حُجَّة لِمَنْ قَالَ لَيْسَ لَهُ بَيْع الْمُكَاتَب إِلَّا أَنْ يَقُول لَعَلَّ بَرِيرَة عَجَزَتْ . قَالَ الشَّافِعِيّ : وَأَظْهَر مَعَانِيه أَنَّ لِمَالِكِ الْمُكَاتَب بَيْعه .

الْحَادِيَة عَشْرَة : الْمُكَاتَب إِذَا أَدَّى كِتَابَته عَتَقَ وَلَا يَحْتَاج إِلَى اِبْتِدَاء عِتْق مِنْ السَّيِّد . وَكَذَلِكَ وَلَده الَّذِينَ وُلِدُوا فِي كِتَابَته مِنْ أَمَته , يَعْتِقُونَ بِعِتْقِهِ وَيَرِقُّونَ بِرِقِّهِ ; لِأَنَّ وَلَد الْإِنْسَان مِنْ أَمَته بِمَثَابَتِهِ اِعْتِبَارًا بِالْحُرِّ وَكَذَلِكَ وَلَد الْمُكَاتَبَة , فَإِنْ كَانَ لَهُمَا وَلَد قَبْل الْكِتَابَة لَمْ يَدْخُل فِي الْكِتَابَة إِلَّا بِشَرْطٍ .



فِيهِ خَمْسَة مَسَائِل : الْأُولَى : هَذَا أَمْر لِلسَّادَةِ بِإِعَانَتِهِمْ فِي مَال الْكِتَابَة ; إِمَّا بِأَنْ يُعْطُوهُمْ شَيْئًا مِمَّا فِي أَيْدِيهمْ - أَعْنِي أَيْدِي السَّادَة - أَوْ يَحُطُّوا عَنْهُمْ شَيْئًا مِنْ مَال الْكِتَابَة. قَالَ مَالِك : يُوضَع عَنْ الْمُكَاتَب مِنْ آخِر كِتَابَته . وَقَدْ وَضَعَ اِبْن عُمَر خَمْسَة آلَاف مِنْ خَمْسَة وَثَلَاثِينَ أَلْفًا . وَاسْتَحْسَنَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنْ يَكُون ذَلِكَ رُبْع الْكِتَابَة . قَالَ الزَّهْرَاوِيّ : رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَاسْتَحْسَنَ اِبْن مَسْعُود وَالْحَسَن بْن أَبِي الْحَسَن ثُلُثهَا . وَقَالَ قَتَادَة : عُشْرهَا. اِبْن جُبَيْر : يُسْقِط عَنْهُ شَيْئًا , وَلَمْ يَحُدّهُ ; وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ , وَاسْتَحْسَنَهُ الثَّوْرِيّ . قَالَ الشَّافِعِيّ : وَالشَّيْء أَقَلّ شَيْء يَقَع عَلَيْهِ اِسْم شَيْء , وَيُجْبَر عَلَيْهِ السَّيِّد وَيَحْكُم بِهِ الْحَاكِم عَلَى الْوَرَثَة إِنْ مَاتَ السَّيِّد . وَرَأَى مَالِك رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى هَذَا الْأَمْر عَلَى النَّدْب , وَلَمْ يَرَ لِقَدْرِ الْوَضْعِيَّة حَدًّا . اِحْتَجَّ الشَّافِعِيّ بِمُطْلَقِ الْأَمْر فِي قَوْله " وَآتُوهُمْ " , وَرَأَى أَنَّ عَطْف الْوَاجِب عَلَى النَّدْب مَعْلُوم فِي الْقُرْآن وَلِسَان الْعَرَب ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : " إِنَّ اللَّه يَأْمُر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى " [ النَّحْل : 90 ] وَمَا كَانَ مِثْله. قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَذَكَرَهُ قَبْله إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق الْقَاضِي , جَعَلَ الشَّافِعِيّ الْإِيتَاء وَاجِبًا , وَالْكِتَابَة غَيْر وَاجِبَة ; فَجُعِلَ الْأَصْل غَيْر وَاجِب وَالْفَرْع وَاجِبًا , وَهَذَا لَا نَظِير لَهُ , فَصَارَتْ دَعْوَى مَحْضَة. فَإِنْ قِيلَ : يَكُون ذَلِكَ كَالنِّكَاحِ لَا يَجِب فَإِذَا اِنْعَقَدَ وَجَبَتْ أَحْكَامه , مِنْهَا الْمُتْعَة. قُلْنَا : عِنْدنَا لَا تَجِب الْمُتْعَة فَلَا مَعْنَى لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيّ . وَقَدْ كَاتَبَ عُثْمَان بْن عَفَّانَ عَبْده وَحَلَفَ أَلَّا يَحُطّهُ ... , فِي حَدِيث طَوِيل .

قُلْت : وَقَدْ قَالَ الْحَسَن وَالنَّخَعِيّ وَبُرَيْدَة إِنَّمَا الْخِطَاب بِقَوْلِهِ " وَآتُوهُمْ " لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ فِي أَنْ يَتَصَدَّقُوا عَلَى الْمُكَاتَبِينَ , وَأَنْ يُعِينُوهُمْ فِي فِكَاك رِقَابهمْ . وَقَالَ زَيْد بْن أَسْلَم : إِنَّمَا الْخِطَاب لِلْوُلَاةِ بِأَنْ يُعْطُوا الْمُكَاتَبِينَ مِنْ مَال الصَّدَقَة حَظّهمْ ; وَهُوَ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْله تَعَالَى " وَفِي الرِّقَاب " . وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فَلَيْسَ لِسَيِّدِ الْمُكَاتَب أَنْ يَضَع شَيْئًا عَنْ مُكَاتَبه . وَدَلِيل هَذَا أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ حَطّ شَيْء مِنْ نُجُوم الْكِتَابَة لَقَالَ وَضَعُوا عَنْهُمْ كَذَا .

الثَّانِيَة : إِذَا قُلْنَا : إِنَّ الْمُرَاد بِالْخِطَابِ السَّادَة فَرَأَى عُمَر بْن الْخَطَّاب أَنْ يَكُون ذَلِكَ مِنْ أَوَّل نُجُومه , مُبَادَرَة إِلَى الْخَيْر خَوْفًا أَلَّا يُدْرِك آخِرهَا . وَرَأَى مَالِك رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى وَغَيْره أَنْ يَكُون الْوَضْع مِنْ آخِر نَجْم . وَعِلَّة ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا وَضَعَ مِنْ أَوَّل نَجْم رُبَّمَا عَجَزَ الْعَبْد فَرَجَعَ هُوَ وَمَاله إِلَى السَّيِّد , فَعَادَتْ إِلَيْهِ وَضِيعَته وَهِيَ شِبْه الصَّدَقَة . وَهَذَا قَوْل عَبْد اللَّه بْن عُمَر وَعَلِيّ . وَقَالَ مُجَاهِد : يَتْرُك لَهُ مِنْ كُلّ نَجْم . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَالْأَقْوَى عِنْدِي أَنْ يَكُون فِي آخِرهَا ; لِأَنَّ الْإِسْقَاط أَبَدًا إِنَّمَا يَكُون فِي أُخْرَيَات الدُّيُون .

الثَّالِثَة : الْمُكَاتَب إِذَا بِيعَ لِلْعِتْقِ رِضًا مِنْهُ بَعْد الْكِتَابَة وَقَبَضَ بَائِعه ثَمَنه لَمْ يَجِب عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيه مِنْ ثَمَنه شَيْئًا , سَوَاء بَاعَهُ لِعِتْقٍ أَوْ لِغَيْرِ عِتْق , وَلَيْسَ ذَلِكَ كَالسَّيِّدِ يُؤَدِّي إِلَيْهِ مُكَاتَب كِتَابَته فَيُؤْتِيه مِنْهَا أَوْ يَضَع عَنْهُ مِنْ آخِرهَا نَجْمًا أَوْ مَا شَاءَ ; عَلَى مَا أَمَرَ اللَّه بِهِ فِي كِتَابه , لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُر مَوَالِي بَرِيرَة بِإِعْطَائِهَا مِمَّا قَبَضُوا شَيْئًا , وَإِنْ كَانُوا قَدْ بَاعُوهَا لِلْعِتْقِ .

الرَّابِعَة : اِخْتَلَفُوا فِي صِفَة عَقْد الْكِتَابَة ; فَقَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : صِفَتهَا أَنْ يَقُول السَّيِّد لِعَبْدِهِ كَاتَبْتُك عَلَى كَذَا وَكَذَا مِنْ الْمَال , فِي كَذَا وَكَذَا نَجْمًا , إِذَا أَدَّيْته فَأَنْتَ حُرّ . أَوْ يَقُول لَهُ أَدِّ إِلَيَّ أَلْفًا فِي عَشَرَة أَنْجُم وَأَنْتَ حُرّ . فَيَقُول الْعَبْد قَدْ قَبِلْت وَنَحْو ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظ ; فَمَتَى أَدَّاهَا عَتَقَ . وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْعَبْد كَاتِبْنِي , فَقَالَ السَّيِّد قَدْ فَعَلْت , أَوْ قَدْ كَاتَبْتُك . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا لَا يَلْزَم ; لِأَنَّ لَفْظ الْقُرْآن لَا يَقْتَضِيه وَالْحَال يَشْهَد لَهُ ; فَإِنْ ذَكَرَهُ فَحَسَن , وَإِنْ تَرَكَهُ فَهُوَ مَعْلُوم لَا يُحْتَاج إِلَيْهِ. وَمَسَائِل هَذَا الْبَاب وَفُرُوعه كَثِيرَة , وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ أُصُوله جُمْلَة , فِيهَا لِمَنْ اِقْتَصَرَ عَلَيْهَا كِفَايَة , وَاَللَّه الْمُوَفِّق لِلْهِدَايَةِ .

الْخَامِسَة : فِي مِيرَاث الْمُكَاتَب ; وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَة أَقْوَال :

[ فَمَذْهَب مَالِك ] أَنَّ الْمُكَاتَب إِذَا هَلَكَ وَتَرَكَ مَالًا أَكْثَر مِمَّا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَته وَلَهُ وَلَد وُلِدُوا فِي كِتَابَته أَوْ كَاتَبَ عَلَيْهِمْ , وَرِثُوا مَا بَقِيَ مِنْ الْمَال بَعْد قَضَاء كِتَابَته ; لِأَنَّ حُكْمهمْ كَحُكْمِهِ , وَعَلَيْهِمْ السَّعْي فِيمَا بَقِيَ مِنْ كِتَابَته لَوْ لَمْ يُخَلِّف مَالًا , وَلَا يَعْتِقُونَ إِلَّا بِعِتْقِهِ , وَلَوْ أَدَّى عَنْهُمْ مَا رَجَعَ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُمْ يَعْتِقُونَ عَلَيْهِ ; فَهُمْ أَوْلَى بِمِيرَاثِهِ لِأَنَّهُمْ مُسَاوُونَ لَهُ فِي جَمِيع حَاله .

[ وَالْقَوْل الثَّانِي ] أَنَّهُ يُؤَدِّي عَنْهُ مِنْ مَاله جَمِيع كِتَابَته , وَجُعِلَ كَأَنَّهُ قَدْ مَاتَ حُرًّا , وَيَرِثهُ جَمِيع وَلَده وَسَوَاء فِي ذَلِكَ مَنْ كَانَ حُرًّا قَبْل مَوْته مِنْ وَلَده وَمَنْ كَاتَبَ عَلَيْهِمْ أَوْ وُلِدُوا فِي كِتَابَته لِأَنَّهُمْ قَدْ اِسْتَوَوْا فِي الْحُرِّيَّة كُلّهمْ حِين تَأَدَّتْ عَنْهُمْ كِتَابَتهمْ . رُوِيَ هَذَا الْقَوْل عَنْ عَلِيّ وَابْن مَسْعُود , وَمِنْ التَّابِعِينَ عَنْ عَطَاء وَالْحَسَن وَطَاوُس وَإِبْرَاهِيم , وَبِهِ قَالَ فُقَهَاء الْكُوفَة سُفْيَان الثَّوْرِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَالْحَسَن بْن صَالِح بْن حَيّ , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِسْحَاق .

[ وَالْقَوْل الثَّالِث ] أَنَّ الْمُكَاتَب إِذَا مَاتَ قَبْل أَنْ يُؤَدِّي جَمِيع كِتَابَته فَقَدْ مَاتَ عَبْدًا , وَكُلّ مَا يُخَلِّفهُ مِنْ الْمَال فَهُوَ لِسَيِّدِهِ , وَلَا يَرِثهُ أَحَد مِنْ أَوْلَاده , لَا الْأَحْرَار وَلَا الَّذِينَ مَعَهُ فِي كِتَابَته ; لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ قَبْل أَنْ يُؤَدِّي جَمِيع كِتَابَته فَقَدْ مَاتَ عَبْدًا وَمَاله لِسَيِّدِهِ , فَلَا يَصِحّ عِتْقه بَعْد مَوْته ; لِأَنَّهُ مُحَال أَنْ يَعْتِق عَبْد بَعْد مَوْته , وَعَلَى وَلَده الَّذِينَ كَاتَبَ عَلَيْهِمْ أَوْ وُلِدُوا فِي كِتَابَته أَنْ يَسْعَوْا فِي بَاقِي الْكِتَابَة , وَيَسْقُط عَنْهُمْ مِنْهَا قَدْر حِصَّته , فَإِنْ أَدَّوْا عَتَقُوا لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِيهَا تَبَعًا لِأَبِيهِمْ , وَإِنْ لَمْ يُؤَدُّوا ذَلِكَ رَقُّوا . هَذَا قَوْل الشَّافِعِيّ , وَبِهِ قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل , وَهُوَ قَوْل عُمَر بْن الْخَطَّاب وَزَيْد بْن ثَابِت وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَالزُّهْرِيّ وَقَتَادَة.



رُوِيَ عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه وَابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ , وَكَانَتْ لَهُ جَارِيَتَانِ إِحْدَاهُمَا تُسَمَّى مُعَاذَة وَالْأُخْرَى مُسَيْكَة , وَكَانَ يُكْرِههُمَا عَلَى الزِّنَى وَيَضْرِبهُمَا عَلَيْهِ اِبْتِغَاء الْأَجْر وَكَسْب الْوَلَد ; فَشَكَتَا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ الْآيَة فِيهِ وَفِيمَنْ فَعَلَ فِعْله مِنْ الْمُنَافِقِينَ . وَمُعَاذَة هَذِهِ أُمّ خَوْلَة الَّتِي جَادَلَتْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زَوْجهَا . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ جَابِر أَنَّ جَارِيَة لِعَبْدِ اللَّه بْن أُبَيّ يُقَال لَهَا مُسَيْكَة وَأُخْرَى يُقَال لَهَا أُمَيْمَة فَكَانَ يُكْرِههُمَا عَلَى الزِّنَى , فَشَكَتَا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتكُمْ عَلَى الْبِغَاء - إِلَى قَوْله - غَفُور رَحِيم " . " إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا " رَاجِع إِلَى الْفَتَيَات , وَذَلِكَ أَنَّ الْفَتَاة إِذَا أَرَادَتْ التَّحَصُّن فَحِينَئِذٍ يُمْكِن وَيُتَصَوَّر أَنْ يَكُون السَّيِّد مُكْرِهًا , وَيُمْكِن أَنْ يُنْهَى عَنْ الْإِكْرَاه. وَإِذَا كَانَتْ الْفَتَاة لَا تُرِيد التَّحَصُّن فَلَا يُتَصَوَّر أَنْ يُقَال لِلسَّيِّدِ لَا تُكْرِههَا ; لِأَنَّ الْإِكْرَاه لَا يُتَصَوَّر فِيهَا وَهِيَ مُرِيدَة لَلَزِّنَى. فَهَذَا أَمْر فِي سَادَة وَفَتَيَات حَالهمْ هَذِهِ. وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ اِبْن الْعَرَبِيّ فَقَالَ : إِنَّمَا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى إِرَادَة التَّحَصُّن مِنْ الْمَرْأَة لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُصَوِّر الْإِكْرَاه ; فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ هِيَ رَاغِبَة فِي الزِّنَى لَمْ يُتَصَوَّر إِكْرَاه , فَحَصَّلُوهُ. وَذَهَبَ هَذَا النَّظَر عَنْ كَثِير مِنْ الْمُفَسِّرِينَ ; فَقَالَ بَعْضهمْ قَوْله : " إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا " رَاجِع إِلَى الْأَيَامَى , قَالَ الزَّجَّاج وَالْحُسَيْن بْن الْفَضْل : فِي الْكَلَام تَقْدِيم وَتَأْخِير ; أَيْ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادكُمْ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا . وَقَالَ بَعْضهمْ : هَذَا الشَّرْط فِي قَوْله : " إِنْ أَرَدْنَ " مُلْغًى , وَنَحْو ذَلِكَ مِمَّا يَضْعُف وَاَللَّه الْمُوَفِّق .


أَيْ الشَّيْء الَّذِي تَكْسِبهُ الْأَمَة بِفَرْجِهَا وَالْوَلَد يُسْتَرَقّ فَيُبَاع . وَقِيلَ : كَانَ الزَّانِي يَفْتَدِي وَلَده مِنْ الْمَزْنِيّ بِهَا بِمِائَةٍ مِنْ الْإِبِل يَدْفَعهَا إِلَى سَيِّدهَا .



" وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ " أَيْ يَقْهَرهُنَّ . " فَإِنَّ اللَّه مِنْ بَعْد إِكْرَاههنَّ غَفُور " لَهُنَّ " رَحِيم " بِهِنَّ . وَقَرَأَ اِبْن مَسْعُود وَجَابِر بْن عَبْد اللَّه وَابْن جُبَيْر " لَهُنَّ غَفُور " بِزِيَادَةِ لَهُنَّ . وَقَدْ مَضَى الْكَلَام فِي الْإِكْرَاه فِي " النَّحْل " وَالْحَمْد لِلَّهِ .
وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَسورة النور الآية رقم 34
ثُمَّ عَدَّدَ تَعَالَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ نِعَمه فِيمَا أَنْزَلَ إِلَيْهِمْ مِنْ الْآيَات الْمُنِيرَات , وَفِيهَا ضَرَبَ لَهُمْ مِنْ أَمْثَال الْمَاضِينَ مِنْ الْأُمَم لِيَقَعَ التَّحَفُّظ مِمَّا وَقَعَ أُولَئِكَ فِيهِ .
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لّا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌسورة النور الآية رقم 35
النُّور فِي كَلَام الْعَرَب : الْأَضْوَاء الْمُدْرَكَة بِالْبَصَرِ . وَاسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِيمَا صَحَّ مِنْ الْمَعَانِي وَلَاحَ ; فَيُقَال مِنْهُ : كَلَام لَهُ نُور. وَمِنْهُ : الْكِتَاب الْمُنِير , وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : نَسَب كَأَنَّ عَلَيْهِ مِنْ شَمْس الضُّحَا نُورًا وَمِنْ فَلَق الصَّبَاح عَمُودَا وَالنَّاس يَقُولُونَ : فُلَان نُور الْبَلَد , وَشَمْس الْعَصْر وَقَمَره. وَقَالَ : فَإِنَّك شَمْس وَالْمُلُوك كَوَاكِب وَقَالَ آخَر : هَلَّا خَصَصْت مِنْ الْبِلَاد بِمَقْصِدٍ قَمَر الْقَبَائِل خَالِد بْن يَزِيد وَقَالَ آخَر : إِذَا سَارَ عَبْد اللَّه مِنْ مَرْو لَيْلَة فَقَدْ سَارَ مِنْهَا نُورهَا وَجَمَالهَا فَيَجُوز أَنْ يُقَال : لِلَّهِ تَعَالَى نُور , مِنْ جِهَة الْمَدْح لِأَنَّهُ أَوْجَدَ الْأَشْيَاء وَنُور جَمِيع الْأَشْيَاء مِنْهُ اِبْتِدَاؤُهَا وَعَنْهُ صُدُورهَا , وَهُوَ سُبْحَانه لَيْسَ مِنْ الْأَضْوَاء الْمُدْرَكَة جَلَّ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا . وَقَدْ قَالَ هِشَام الْجُوَالِقِيّ وَطَائِفَة مِنْ الْمُجَسِّمَة : هُوَ نُور لَا كَالْأَنْوَارِ , وَجِسْم لَا كَالْأَجْسَامِ . وَهَذَا كُلّه مُحَال عَلَى اللَّه تَعَالَى عَقْلًا وَنَقْلًا عَلَى مَا يُعْرَف فِي مَوْضِعه مِنْ عِلْم الْكَلَام . ثُمَّ إِنَّ قَوْلهمْ مُتَنَاقِض ; فَإِنَّ قَوْلهمْ جِسْم أَوْ نُور حُكْم عَلَيْهِ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ , وَقَوْلهمْ لَا كَالْأَنْوَارِ وَلَا كَالْأَجْسَامِ نَفْي لِمَا أَثْبَتُوهُ مِنْ الْجِسْمِيَّة وَالنُّور ; وَذَلِكَ مُتَنَاقِض , وَتَحْقِيقه فِي عِلْم الْكَلَام . وَاَلَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِي ذَلِكَ ظَوَاهِر اِتَّبَعُوهَا مِنْهَا هَذِهِ الْآيَة , وَقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْل يَتَهَجَّد ( اللَّهُمَّ لَك الْحَمْد أَنْتَ نُور السَّمَوَات وَالْأَرْض ) . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام وَقَدْ سُئِلَ : هَلْ رَأَيْت رَبّك ؟ فَقَالَ : ( رَأَيْت نُورًا ) . إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيث .

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَأْوِيل هَذِهِ الْآيَة ; فَقِيلَ : الْمَعْنَى أَيْ بِهِ وَبِقُدْرَتِهِ أَنَارَتْ أَضْوَاؤُهَا , وَاسْتَقَامَتْ أُمُورهَا , وَقَامَتْ مَصْنُوعَاتهَا . فَالْكَلَام عَلَى التَّقْرِيب لِلذِّهْنِ ; كَمَا يُقَال : الْمَلِك نُور أَهْل الْبَلَد ; أَيْ بِهِ قِوَام أَمْرهَا وَصَلَاح جُمْلَتهَا ; لِجَرَيَانِ أُمُوره عَلَى سُنَن السَّدَاد. فَهُوَ فِي الْمَلِك مَجَاز , وَهُوَ فِي صِفَة اللَّه حَقِيقَة مَحْضَة , إِذْ هُوَ الَّذِي أَبْدَعَ الْمَوْجُودَات وَخَلَقَ الْعَقْل نُورًا هَادِيًا ; لِأَنَّ ظُهُور الْمَوْجُود بِهِ حَصَلَ كَمَا حَصَلَ بِالضَّوْءِ ظُهُور الْمُبْصَرَات , تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا رَبّ غَيْره . قَالَ مَعْنَاهُ مُجَاهِد وَالزُّهْرِيّ وَغَيْرهمَا . قَالَ اِبْن عَرَفَة : أَيْ مُنَوِّر السَّمَوَات وَالْأَرْض . وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاك وَالْقَرَظِيّ . كَمَا يَقُولُونَ : فُلَان غِيَاثنَا ; أَيْ مُغِيثنَا. وَفُلَان زَادِي ; أَيْ مُزَوِّدِي . قَالَ جَرِير : وَأَنْتَ لَنَا نُور وَغَيْث وَعِصْمَة وَنَبْت لِمَنْ يَرْجُو نَدَاك وَرِيق أَيْ ذُو وَرَق . وَقَالَ مُجَاهِد : مُدَبِّر الْأُمُور فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض. أُبَيّ بْن كَعْب وَالْحَسَن وَأَبُو الْعَالِيَة : مُزَيِّن السَّمَوَات بِالشَّمْسِ وَالْقَمَر وَالنُّجُوم , وَمُزَيِّن الْأَرْض بِالْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاء وَالْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَأَنَس : الْمَعْنَى اللَّه هَادِي أَهْل السَّمَوَات وَالْأَرْض. وَالْأَوَّل أَعَمّ لِلْمَعَانِي وَأَصَحّ مَعَ التَّأْوِيل .



أَيْ صِفَة دَلَائِله الَّتِي يَقْذِفهَا فِي قَلْب الْمُؤْمِن ; وَالدَّلَائِل تُسَمَّى نُورًا . وَقَدْ سَمَّى اللَّه تَعَالَى كِتَابه نُورًا فَقَالَ : " وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا " [ النِّسَاء : 174 ] وَسَمَّى نَبِيّه نُورًا فَقَالَ : " قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّه نُور وَكِتَاب مُبِين " [ الْمَائِدَة : 15 ] . وَهَذَا لِأَنَّ الْكِتَاب يَهْدِي وَيُبَيِّن , وَكَذَلِكَ الرَّسُول . وَوَجْه الْإِضَافَة إِلَى اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ مُثْبِت الدَّلَالَة وَمُبَيِّنهَا وَوَاضِعهَا. وَتَحْتَمِل الْآيَة مَعْنَى آخَر لَيْسَ فِيهِ مُقَابَلَة جُزْء مِنْ الْمِثَال بِجُزْءٍ مِنْ الْمُمَثَّل بِهِ , بَلْ وَقَعَ التَّشْبِيه فِيهِ جُمْلَة بِجُمْلَةٍ , وَذَلِكَ أَنْ يُرِيد مَثَل نُور اللَّه الَّذِي هُوَ هُدَاهُ وَإِتْقَانه صَنْعَة كُلّ مَخْلُوق وَبَرَاهِينه السَّاطِعَة عَلَى الْجُمْلَة , كَهَذِهِ الْجُمْلَة مِنْ النُّور الَّذِي تَتَّخِذُونَهُ أَنْتُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَة , الَّتِي هِيَ أَبْلَغ صِفَات النُّور الَّذِي بَيْن أَيْدِي النَّاس ; فَمَثَل نُور اللَّه فِي الْوُضُوح كَهَذَا الَّذِي هُوَ مُنْتَهَاكُمْ أَيّهَا الْبَشَر . وَالْمِشْكَاة : الْكُوَّة فِي الْحَائِط غَيْر النَّافِذَة ; قَالَهُ اِبْن جُبَيْر وَجُمْهُور الْمُفَسِّرِينَ , وَهِيَ أَجْمَع لِلضَّوْءِ , وَالْمِصْبَاح فِيهَا أَكْثَر إِنَارَة مِنْهُ فِي غَيْرهَا , وَأَصْلهَا الْوِعَاء يُجْعَل فِيهِ الشَّيْء . وَالْمِشْكَاة وِعَاء مِنْ أُدُم كَالدَّلْوِ يُبَرَّد فِيهَا الْمَاء ; وَهُوَ عَلَى وَزْن مِفْعَلَة كَالْمِقْرَاةِ وَالْمِصْفَاة . قَالَ الشَّاعِر : كَأَنَّ عَيْنَيْهِ مِشْكَاتَانِ فِي حَجَر قِيضَا اِقْتِيَاضًا بِأَطْرَافِ الْمَنَاقِير وَقِيلَ : الْمِشْكَاة عَمُود الْقِنْدِيل الَّذِي فِيهِ الْفَتِيلَة . وَقَالَ مُجَاهِد : هِيَ الْقِنْدِيل . وَقَالَ " فِي زُجَاجَة " لِأَنَّهُ جِسْم شَفَّاف , وَالْمِصْبَاح فِيهِ أَنْوَر مِنْهُ فِي غَيْر الزُّجَاج . وَالْمِصْبَاح : الْفَتِيل بِنَارِهِ


أَيْ فِي الْإِنَارَة وَالضَّوْء. وَذَلِكَ يَحْتَمِل مَعْنَيَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُرِيد أَنَّهَا بِالْمِصْبَاحِ كَذَلِكَ , وَإِمَّا أَنْ يُرِيد أَنَّهَا فِي نَفْسهَا لِصَفَائِهَا وَجَوْدَة جَوْهَرهَا كَذَلِكَ . وَهَذَا التَّأْوِيل أَبْلَغ فِي التَّعَاوُن عَلَى النُّور. قَالَ الضَّحَّاك : الْكَوْكَب الدُّرِّيّ هُوَ الزَّهْرَة .


أَيْ مِنْ زَيْت شَجَرَة , فَحُذِفَ الْمُضَاف . وَالْمُبَارَة الْمُنَمَّاة ; وَالزَّيْتُون مِنْ أَعْظَم الثِّمَار نَمَاء , وَالرُّمَّان كَذَلِكَ . وَالْمَعْنَى يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَقَوْل أَبِي طَالِب يَرْثِي مُسَافِر بْن أَبِي عَمْرو بْن أُمَيَّة بْن عَبْد شَمْس : لَيْتَ شِعْرِي مُسَافِر بْن أَبِي عَمْرو وَلَيْتَ يَقُولهَا الْمَحْزُون بُورِكَ الْمَيْت الْغَرِيب كَمَا بُو رِكَ نَبْع الرُّمَّان وَالزَّيْتُون وَقِيلَ : مِنْ بَرَكَتهمَا أَنَّ أَغْصَانهمَا تُورِق مِنْ أَسْفَلهَا إِلَى أَعْلَاهَا . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : فِي الزَّيْتُونَة مَنَافِع , يُسْرَج بِالزَّيْتِ , وَهُوَ إِدَام وَدِهَان وَدِبَاغ , وَوَقُود يُوقَد بِحَطَبِهِ وَتُفْله , وَلَيْسَ فِيهِ شَيْء إِلَّا وَفِيهِ مَنْفَعَة , حَتَّى الرَّمَاد يُغْسَل بِهِ الْإِبْرَيْسِم . وَهِيَ أَوَّل شَجَرَة نَبَتَتْ فِي الدُّنْيَا , وَأَوَّل شَجَرَة نَبَتَتْ بَعْد الطُّوفَان , وَتَنْبُت فِي مَنَازِل الْأَنْبِيَاء وَالْأَرْض الْمُقَدَّسَة , وَدَعَا لَهَا سَبْعُونَ نَبِيًّا بِالْبَرَكَةِ ; مِنْهُمْ إِبْرَاهِيم , وَمِنْهُمْ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ قَالَ : ( اللَّهُمَّ بَارِكْ فِي الزَّيْت وَالزَّيْتُون ) . قَالَهُ مَرَّتَيْنِ .



اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي قَوْله تَعَالَى : " لَا شَرْقِيَّة وَلَا غَرْبِيَّة " فَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَعِكْرِمَة وَقَتَادَة وَغَيْرهمْ : الشَّرْقِيَّة الَّتِي تُصِيبهَا الشَّمْس إِذَا شَرَقَتْ وَلَا تُصِيبهَا إِذَا غَرَبَتْ ; لِأَنَّ لَهَا سِتْرًا . وَالْغَرْبِيَّة عَكْسهَا ; أَيْ أَنَّهَا شَجَرَة فِي صَحْرَاء وَمُنْكَشِف مِنْ الْأَرْض لَا يُوَارِيهَا عَنْ الشَّمْس شَيْء وَهُوَ أَجْوَد لِزَيْتِهَا , فَلَيْسَتْ خَالِصَة لِلشَّرْقِ فَتُسَمَّى شَرْقِيَّة وَلَا لِلْغَرْبِ فَتُسَمَّى غَرْبِيَّة , بَلْ هِيَ شَرْقِيَّة غَرْبِيَّة . وَقَالَ الطَّبَرِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس : إِنَّهَا شَجَرَة فِي دَوْحَة قَدْ أَحَاطَتْ بِهَا ; فَهِيَ غَيْر مُنْكَشِفَة مِنْ جِهَة الشَّرْق وَلَا مِنْ جِهَة الْغَرْب . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا قَوْل لَا يَصِحّ عَنْ اِبْن عَبَّاس ; لِأَنَّ الثَّمَرَة الَّتِي بِهَذِهِ الصِّفَة يَفْسُد جَنَاهَا , وَذَلِكَ مُشَاهَد فِي الْوُجُود . وَقَالَ الْحَسَن : لَيْسَتْ هَذِهِ الشَّجَرَة مِنْ شَجَر الدُّنْيَا , وَإِنَّمَا هُوَ مَثَل ضَرَبَهُ اللَّه تَعَالَى لِنُورِهِ , وَلَوْ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا لَكَانَتْ إِمَّا شَرْقِيَّة وَإِمَّا غَرْبِيَّة . الثَّعْلَبِيّ : وَقَدْ أَفْصَحَ الْقُرْآن بِأَنَّهَا مِنْ شَجَر الدُّنْيَا ; لِأَنَّهَا بَدَل مِنْ الشَّجَرَة , فَقَالَ " زَيْتُونَة " . وَقَالَ اِبْن زَيْد : إِنَّهَا مِنْ شَجَر الشَّأْم ; فَإِنَّ شَجَر الشَّأْم لَا شَرْقِيّ وَلَا غَرْبِيّ , وَشَجَر الشَّأْم هُوَ أَفْضَل الشَّجَر , وَهِيَ الْأَرْض الْمُبَارَكَة , وَ " شَرْقِيَّة " نَعْت " لِزَيْتُونَةٍ " وَ " لَا " لَيْسَتْ تَحُول بَيْن النَّعْت وَالْمَنْعُوت , " وَلَا غَرْبِيَّة " عَطْف عَلَيْهِ .


مُبَالَغَة فِي حُسْنه وَصَفَائِهِ وَجَوْدَته .



أَيْ اِجْتَمَعَ فِي الْمِشْكَاة ضَوْء الْمِصْبَاح إِلَى ضَوْء الزُّجَاجَة وَإِلَى ضَوْء الزَّيْت فَصَارَ لِذَلِكَ نُور عَلَى نُور . وَاعْتَقَلَتْ هَذِهِ الْأَنْوَار فِي الْمِشْكَاة فَصَارَتْ كَأَنْوَرِ مَا يَكُون فَكَذَلِكَ بَرَاهِين اللَّه تَعَالَى وَاضِحَة , وَهِيَ بُرْهَان بَعْد بُرْهَان , وَتَنْبِيه بَعْد تَنْبِيه ; كَإِرْسَالِهِ الرُّسُل وَإِنْزَاله الْكُتُب , وَمَوَاعِظ تَتَكَرَّر فِيهَا لِمَنْ لَهُ عَقْل مُعْتَبَر . ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى هُدَاهُ لِنُورِهِ مَنْ شَاءَ وَأَسْعَدَ مِنْ عِبَاده , وَذَكَرَ تَفَضُّله لِلْعِبَادِ فِي ضَرْب الْأَمْثَال لِتَقَع لَهُمْ الْعِبْرَة وَالنَّظَر الْمُؤَدِّي إِلَى الْإِيمَان . وَقَرَأَ عَبْد اللَّه بْن عَيَّاش بْن أَبِي رَبِيعَة وَأَبُو عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمِيّ " اللَّه نَوَّرَ " بِفَتْحِ النُّون وَالْوَاو الْمُشَدَّدَة. وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَوِّلُونَ فِي عَوْد الضَّمِير فِي " نُوره " عَلَى مَنْ يَعُود ; فَقَالَ كَعْب الْأَحْبَار وَابْن جُبَيْر : هُوَ عَائِد عَلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; أَيْ مَثَل نُور مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ : " اللَّه نُور السَّمَوَات وَالْأَرْض " وَقْف حَسَن , ثُمَّ تَبْتَدِئ " مَثَل نُوره كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاح " عَلَى مَعْنَى نُور مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ أُبَيّ بْن كَعْب وَابْن جُبَيْر أَيْضًا وَالضَّحَّاك : هُوَ عَائِد عَلَى الْمُؤْمِنِينَ . وَفِي قِرَاءَة أُبَيّ " مَثَل نُور الْمُؤْمِنِينَ " . وَرُوِيَ أَنَّ فِي قِرَاءَته " مَثَل نُور الْمُؤْمِن " . وَرُوِيَ أَنَّ فِيهَا " مَثَل نُور مَنْ آمَنَ بِهِ " . وَقَالَ الْحَسَن : هُوَ عَائِد عَلَى الْقُرْآن وَالْإِيمَان. قَالَ مَكِّيّ : وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَال يُوقَف عَلَى قَوْله : " وَالْأَرْض " . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذِهِ الْأَقْوَال فِيهَا عَوْد الضَّمِير عَلَى مَنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْر , وَفِيهَا مُقَابَلَة جُزْء مِنْ الْمِثَال بِجُزْءٍ مِنْ الْمُمَثَّل ; فَعَلَى مَنْ قَالَ : الْمُمَثَّل بِهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَهُوَ قَوْل كَعْب الْحِبْر ; فَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمِشْكَاة أَوْ صَدْره , وَالْمِصْبَاح هُوَ النُّبُوَّة وَمَا يَتَّصِل بِهَا مِنْ عَمَله وَهُدَاهُ , وَالزُّجَاجَة قَلْبه , وَالشَّجَرَة الْمُبَارَكَة هِيَ الْوَحْي , وَالْمَلَائِكَة رُسُل اللَّه إِلَيْهِ وَسَبَبه الْمُتَّصِل بِهِ , وَالزَّيْت هُوَ الْحُجَج وَالْبَرَاهِين وَالْآيَات الَّتِي تَضَمَّنَهَا الْوَحْي . وَمَنْ قَالَ : الْمُمَثَّل بِهِ الْمُؤْمِن , وَهُوَ قَوْل أُبَيّ ; فَالْمِشْكَاة صَدْره , وَالْمِصْبَاح الْإِيمَان وَالْعِلْم , وَالزُّجَاجَة قَلْبه , وَزَيْتهَا هُوَ الْحُجَج وَالْحِكْمَة الَّتِي تَضَمَّنَهَا . قَالَ أُبَيّ : فَهُوَ عَلَى أَحْسَن الْحَال يَمْشِي فِي النَّاس كَالرَّجُلِ الْحَيّ يَمْشِي فِي قُبُور الْأَمْوَات . وَمَنْ قَالَ : إِنَّ الْمُمَثَّل بِهِ هُوَ الْقُرْآن وَالْإِيمَان ; فَتَقْدِير الْكَلَام : مَثَل نُوره الَّذِي هُوَ الْإِيمَان فِي صَدْر الْمُؤْمِن فِي قَلْبه كَمِشْكَاةٍ ; أَيْ كَهَذِهِ الْجُمْلَة. وَهَذَا الْقَوْل لَيْسَ فِي مُقَابَلَة التَّشْبِيه كَالْأَوَّلَيْنِ ; لِأَنَّ الْمِشْكَاة لَيْسَتْ تُقَابِل الْإِيمَان . وَقَالَتْ طَائِفَة : الضَّمِير فِي " نُوره " عَائِد عَلَى اللَّه تَعَالَى . وَهَذَا قَوْل اِبْن عَبَّاس فِيمَا ذَكَرَ الثَّعْلَبِيّ وَالْمَاوَرْدِيّ وَالْمَهْدَوِيّ , وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ . وَلَا يُوقَف عَلَى هَذَا الْقَوْل عَلَى " الْأَرْض " . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : الْهَاء لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ; وَالتَّقْدِير : اللَّه هَادِي أَهْل السَّمَوَات وَالْأَرْض , مَثَل هُدَاهُ فِي قُلُوب الْمُؤْمِنِينَ كَمِشْكَاةٍ ; وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ اِبْن عَبَّاس. وَكَذَلِكَ قَالَ زَيْد بْن أَسْلَم , وَالْحَسَن : إِنَّ الْهَاء لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . وَكَانَ أُبَيّ وَابْن مَسْعُود يَقْرَآنِهَا " مَثَل نُوره فِي قَلْب الْمُؤْمِن كَمِشْكَاةٍ " . قَالَ مُحَمَّد بْن عَلِيّ التِّرْمِذِيّ : فَأَمَّا غَيْرهمَا فَلَمْ يَقْرَأهَا فِي التَّنْزِيل هَكَذَا , وَقَدْ وَافَقَهُمَا فِي التَّأْوِيل أَنَّ ذَلِكَ نُوره قَلْب الْمُؤْمِن , وَتَصْدِيقه فِي آيَة أُخْرَى يَقُول : " أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّه صَدْره لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُور مِنْ رَبّه " [ الزُّمَر : 22 ] . وَاعْتَلَّ الْأَوَّلُونَ بِأَنْ قَالُوا : لَا يَجُوز أَنْ يَكُون الْهَاء لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ; لِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَا حَدّ لِنُورِهِ . وَأَمَالَ الْكِسَائِيّ فِيمَا رَوَى عَنْهُ أَبُو عُمَر الدُّورِيّ الْأَلِف مِنْ " مِشْكَاة " وَكَسْر الْكَاف الَّتِي قَبْلهَا . وَقَرَأَ نَصْر بْن عَاصِم " زَجَاجَة " بِفَتْحِ الزَّاي وَ " الزُّجَاجَة " كَذَلِكَ , وَهِيَ لُغَة . وَقَرَأَ اِبْن عَامِر وَحَفْص عَنْ عَاصِم " دُرِّيّ " بِضَمِّ الدَّال وَشَدّ الْيَاء , وَلِهَذِهِ الْقِرَاءَة وَجْهَانِ : إِمَّا أَنْ يُنْسَب الْكَوْكَب إِلَى الدُّرّ لِبَيَاضِهِ وَصَفَائِهِ , وَإِمَّا أَنْ يَكُون أَصْله دُرِّيء مَهْمُوز , فُعِّيل مِنْ الدَّرْء وَهُوَ الدَّفْع , وَخُفِّفَتْ الْهَمْزَة . وَيُقَال لِلنُّجُومِ الْعِظَام الَّتِي لَا تُعْرَف أَسْمَاؤُهَا : الدَّرَارِيّ , بِغَيْرِ هَمْز ; فَلَعَلَّهُمْ خَفَّفُوا الْهَمْزَة , وَالْأَصْل مِنْ الدَّرْء الَّذِي هُوَ الدَّفْع. وَقَرَأَ حَمْزَة وَأَبُو بَكْر عَنْ عَاصِم " دُرِّيء " بِالْهَمْزِ وَالْمَدّ , وَهُوَ فُعِّيل مِنْ الدَّرْء ; بِمَعْنَى أَنَّهَا يَدْفَع بَعْضهَا بَعْضًا . وَقَرَأَ الْكِسَائِيّ وَأَبُو عَمْرو " دِرِّيء " بِكَسْرِ الدَّال وَالْهَمْز مِنْ الدَّرْء وَالدَّفْع ; مِثْل السِّكِّير وَالْفِسِّيق . قَالَ سِيبَوَيْهِ : أَيْ يَدْفَع بَعْض ضَوْئِهِ بَعْضًا مِنْ لَمَعَانه. قَالَ النَّحَّاس : وَضَعَّفَ أَبُو عُبَيْد قِرَاءَة أَبِي عَمْرو وَالْكِسَائِيّ تَضْعِيفًا شَدِيدًا , لِأَنَّهُ تَأَوَّلَهَا مِنْ دَرَأْت أَيْ دَفَعْت ; أَيْ كَوْكَب يَجْرِي مِنْ الْأُفُق إِلَى الْأُفُق . وَإِذَا كَانَ التَّأْوِيل عَلَى مَا تَأَوَّلَهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَام فَائِدَة , وَلَا كَانَ لِهَذَا الْكَوْكَب مَزِيَّة عَلَى أَكْثَر الْكَوَاكِب ; أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقَال جَاءَنِي إِنْسَان مِنْ بَنِي آدَم . وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَأَوَّل لِمِثْلِ أَبِي عَمْرو وَالْكِسَائِيّ مَعَ عِلْمهمَا وَجَلَالَتهمَا هَذَا التَّأْوِيل الْبَعِيد , وَلَكِنَّ التَّأْوِيل لَهُمَا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّد بْن يَزِيد أَنَّ مَعْنَاهُمَا فِي ذَلِكَ : كَوْكَب مُنْدَفِع بِالنُّورِ ; كَمَا يُقَال : اِنْدَرَأَ الْحَرِيق إِنْ اِنْدَفَعَ . وَهَذَا تَأْوِيل صَحِيح لِهَذِهِ الْقِرَاءَة . وَحَكَى سَعِيد بْن مَسْعَدَة أَنَّهُ يُقَال : دَرَأَ الْكَوْكَب بِضَوْئِهِ إِذَا اِمْتَدَّ ضَوْءُهُ وَعَلَا . وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ فِي الصِّحَاح : وَدَرَأَ عَلَيْنَا فُلَان يَدْرُأ دُرُوءًا أَيْ طَلَعَ مُفَاجَأَة . وَمِنْهُ كَوْكَب دِرِّيء , عَلَى فِعِّيل ; مِثْل سِكِّير وَخِمِّير ; لِشِدَّةِ تَوَقُّده وَتَلَأْلُئِهِ . وَقَدْ دَرَأَ الْكَوْكَب دُرُوءًا. قَالَ أَبُو عَمْرو بْن الْعَلَاء : سَأَلْت رَجُلًا مِنْ سَعْد بْن بَكْر مِنْ أَهْل ذَات عِرْق فَقُلْت : هَذَا الْكَوْكَب الضَّخْم مَا تُسَمُّونَهُ ؟ قَالَ : الدِّرِّيء , وَكَانَ مِنْ أَفْصَح النَّاس . قَالَ النَّحَّاس : فَأَمَّا قِرَاءَة حَمْزَة فَأَهْل اللُّغَة جَمِيعًا قَالُوا : هِيَ لَحْن لَا تَجُوز , لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب اِسْم عَلَى فِعِّيل. وَقَدْ اِعْتَرَضَ أَبُو عُبَيْد فِي هَذَا فَاحْتَجَّ لِحَمْزَةَ فَقَالَ : لَيْسَ هُوَ فُعِّيل وَإِنَّمَا هُوَ فُعُّول , مِثْل سُبُّوح , أُبْدِلَ مِنْ الْوَاو يَاء ; كَمَا قَالُوا : عُتِيّ . قَالَ أَبُو جَعْفَر النَّحَّاس : وَهَذَا الِاعْتِرَاض وَالِاحْتِجَاج مِنْ أَعْظَم الْغَلَط وَأَشَدّه ; لِأَنَّ هَذَا لَا يَجُوز الْبَتَّة , وَلَوْ جَازَ مَا قَالَ لَقِيلَ فِي سُبُّوح سُبِّيح , وَهَذَا لَا يَقُولهُ أَحَد , وَلَيْسَ عُتِيّ مِنْ هَذَا , وَالْفَرْق بَيْنهمَا وَاضِح بَيِّن ; لِأَنَّهُ لَيْسَ يَخْلُو عُتِيّ مِنْ إِحْدَى جِهَتَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُون جَمْع عَاتٍ فَيَكُون الْبَدَل فِيهِ لَازِمًا , لِأَنَّ الْجَمْع بَاب تَغْيِير , وَالْوَاو لَا تَكُون طَرَفًا فِي الْأَسْمَاء وَقَبْلهَا ضَمَّة , فَلَمَّا كَانَ قَبْل هَذِهِ سَاكِن وَقَبْل السَّاكِن ضَمَّة وَالسَّاكِن لَيْسَ بِحَاجِزٍ حَصِين أُبْدِلَ مِنْ الضَّمَّة كَسْرَة فَقُلِبَتْ الْوَاو يَاء . وَإِنْ كَانَ عُتِيّ وَاحِدًا كَانَ بِالْوَاوِ أَوْلَى , وَجَازَ قَلْبهَا لِأَنَّهَا طَرَف , وَالْوَاو فِي فُعُّول لَيْسَتْ طَرَفًا فَلَا يَجُوز قَلْبهَا . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : قَالَ أَبُو عُبَيْد إِنْ ضَمَمْت الدَّال قُلْت دُرِّيّ , يَكُون مَنْسُوبًا إِلَى الدُّرّ , عَلَى فُعْلِيّ وَلَمْ تَهْمِزهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب فُعِّيل . وَمَنْ هَمَزَهُ مِنْ الْقُرَّاء فَإِنَّمَا أَرَادَ فُعُّولًا مِثْل سُبُّوح فَاسْتُثْقِلَ فَرُدَّ بَعْضه إِلَى الْكَسْر . وَحَكَى الْأَخْفَش عَنْ بَعْضهمْ " دَرِّيء " مِنْ دَرَأْته , وَهَمَزَهَا وَجَعَلَهَا عَلَى فَعِّيل مَفْتُوحَة الْأَوَّل. قَالَ : وَذَلِكَ مِنْ تَلَأْلُئِهِ . قَالَ الثَّعْلَبِيّ : وَقَرَأَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَأَبُو رَجَاء " دَرِّيء " بِفَتْحِ الدَّال مَهْمُوزًا . قَالَ أَبُو حَاتِم : هَذَا خَطَأ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَام فَعِّيل ; فَإِنْ صَحَّ عَنْهُمَا فَهُمَا حُجَّة . " يُوقَد " قَرَأَ شَيْبَة وَنَافِع وَأَيُّوب وَسَلَّام وَابْن عَامِر وَأَهْل الشَّام وَحَفْص " يُوقَد " بِيَاءٍ مَضْمُومَة وَتَخْفِيف الْقَاف وَضَمّ الدَّال. وَقَرَأَ الْحَسَن وَالسُّلَمِيّ وَأَبُو جَعْفَر وَأَبُو عَمْرو بْن الْعَلَاء الْبَصْرِيّ " تَوَقَّدَ " مَفْتُوحَة الْحُرُوف كُلّهَا مُشَدَّدَة الْقَاف , وَاخْتَارَهَا أَبُو حَاتِم وَأَبُو عُبَيْد . قَالَ النَّحَّاس : وَهَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ مُتَقَارِبَتَانِ ; لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا لِلْمِصْبَاحِ , وَهُوَ أَشْبَه بِهَذَا الْوَصْف ; لِأَنَّهُ الَّذِي يُنِير وَيُضِيء , وَإِنَّمَا الزُّجَاجَة وِعَاء لَهُ . وَ " تَوَقَّدَ " فِعْل مَاضٍ مِنْ تَوَقَّدَ يَتَوَقَّد , وَيُوقَد فِعْل مُسْتَقْبَل مِنْ أَوْقَدَ يُوقِد. وَقَرَأَ نَصْر بْن عَاصِم " تُوقَد " وَالْأَصْل عَلَى قِرَاءَته تَتَوَقَّد حَذْف إِحْدَى التَّاءَيْنِ لِأَنَّ الْأُخْرَى تَدُلّ عَلَيْهَا . وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ " تُوقَد " بِالتَّاءِ يَعْنُونَ الزُّجَاجَة . فَهَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ عَلَى تَأْنِيث الزُّجَاجَة . " مِنْ شَجَرَة مُبَارَكَة زَيْتُونَة لَا شَرْقِيَّة وَلَا غَرْبِيَّة " تَقَدَّمَ الْقَوْل فِيهِ . " يَكَاد زَيْتهَا يُضِيء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَار نُور عَلَى نُور " عَلَى تَأْنِيث النَّار . وَزَعَمَ أَبُو عُبَيْد أَنَّهُ لَا يُعْرَف إِلَّا هَذِهِ الْقِرَاءَة . وَحَكَى أَبُو حَاتِم أَنَّ السُّدِّيّ رَوَى عَنْ أَبِي مَالِك عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَرَأَ " وَلَوْ لَمْ يَمْسَسْهُ نَار " بِالْيَاءِ. قَالَ مُحَمَّد بْن يَزِيد : التَّذْكِير عَلَى أَنَّهُ تَأْنِيث غَيْر حَقِيقِيّ , وَكَذَا سَبِيل الْمُؤَنَّث عِنْده . وَقَالَ اِبْن عُمَر : الْمِشْكَاة جَوْف مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَالزُّجَاجَة قَلْبه , وَالْمِصْبَاح النُّور الَّذِي جَعَلَهُ اللَّه تَعَالَى فِي قَلْبه يُوقِد شَجَرَة مُبَارَكَة ; أَيْ أَنَّ أَصْله مِنْ إِبْرَاهِيم وَهُوَ شَجَرَته ; فَأَوْقَدَ اللَّه تَعَالَى فِي قَلْب مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النُّور كَمَا جَعَلَهُ فِي قَلْب إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام . وَقَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب : الْمِشْكَاة إِبْرَاهِيم , وَالزُّجَاجَة إِسْمَاعِيل , وَالْمِصْبَاح مُحَمَّد صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ ; سَمَّاهُ اللَّه تَعَالَى مِصْبَاحًا كَمَا سَمَّاهُ سِرَاجًا فَقَالَ : " وَدَاعِيًا إِلَى اللَّه بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا " [ الْأَحْزَاب : 46 ] يُوقَد مِنْ شَجَرَة مُبَارَكَة وَهِيَ آدَم عَلَيْهِ السَّلَام , بُورِكَ فِي نَسْله وَكَثُرَ مِنْهُ الْأَنْبِيَاء وَالْأَوْلِيَاء. وَقِيلَ : هِيَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام , سَمَّاهُ اللَّه تَعَالَى مُبَارَكًا لِأَنَّ أَكْثَر الْأَنْبِيَاء كَانُوا مِنْ صُلْبه. " لَا شَرْقِيَّة وَلَا غَرْبِيَّة " أَيْ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَإِنَّمَا كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْيَهُود تُصَلِّي قِبَل الْمَغْرِب وَالنَّصَارَى تُصَلِّي قِبَل الْمَشْرِق . " يَكَاد زَيْتهَا يُضِيء " أَيْ يَكَاد مَحَاسِن مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَظْهَر لِلنَّاسِ قَبْل أَنْ أَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ . " نُور عَلَى نُور " نَبِيّ مِنْ نَسْل نَبِيّ . وَقَالَ الضَّحَّاك : شَبَّهَ عَبْد الْمَطْلَب بِالْمِشْكَاةِ وَعَبْد اللَّه بِالزُّجَاجَةِ وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمِصْبَاحِ كَانَ فِي قَلْبهمَا , فَوَرِثَ النُّبُوَّة مِنْ إِبْرَاهِيم. " مِنْ شَجَرَة " أَيْ شَجَرَة التُّقَى وَالرِّضْوَان وَعَشِيرَة الْهُدَى وَالْإِيمَان , شَجَرَة أَصْلهَا نُبُوَّة , وَفَرْعهَا مُرُوءَة , وَأَغْصَانهَا تَنْزِيل , وَوَرَقهَا تَأْوِيل , وَخَدَمهَا جِبْرِيل وَمِيكَائِيل. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ : وَمِنْ غَرِيب الْأَمْر أَنَّ بَعْض الْفُقَهَاء قَالَ إِنَّ هَذَا مَثَل ضَرَبَهُ اللَّه تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّد وَلِعَبْدِ الْمُطَّلِب وَابْنه عَبْد اللَّه ; فَالْمِشْكَاة هِيَ الْكُوَّة بِلُغَةِ الْحَبَشَة , فَشُبِّهَ عَبْد الْمُطَّلِب بِالْمِشْكَاةِ فِيهَا الْقِنْدِيل وَهُوَ الزُّجَاجَة , وَشُبِّهَ عَبْد اللَّه بِالْقِنْدِيلِ وَهُوَ الزُّجَاجَة ; وَمُحَمَّد كَالْمِصْبَاحِ يَعْنِي مِنْ أَصْلَابهمَا , وَكَأَنَّهُ كَوْكَب دُرِّيّ وَهُوَ الْمُشْتَرِي " يُوقَد مِنْ شَجَرَة مُبَارَكَة " يَعْنِي إِرْث النُّبُوَّة مِنْ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام هُوَ الشَّجَرَة الْمُبَارَكَة , يَعْنِي حَنِيفِيَّة لَا شَرْقِيَّة وَلَا غَرْبِيَّة , لَا يَهُودِيَّة وَلَا نَصْرَانِيَّة. " يَكَاد زَيْتهَا يُضِيء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَار " يَقُول : يَكَاد إِبْرَاهِيم يَتَكَلَّم بِالْوَحْيِ مِنْ قَبْل أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ . " نُور عَلَى نُور " إِبْرَاهِيم ثُمَّ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ الْقَاضِي : وَهَذَا كُلّه عُدُول عَنْ الظَّاهِر , وَلَيْسَ يَمْتَنِع فِي التَّمْثِيل أَنْ يَتَوَسَّع الْمَرْء فِيهِ .

قُلْت : وَكَذَلِكَ فِي جَمِيع الْأَقْوَال لِعَدَمِ اِرْتِبَاطه بِالْآيَةِ مَا عَدَا الْقَوْل الْأَوَّل , وَأَنَّ هَذَا مَثَل ضَرَبَهُ اللَّه تَعَالَى لِنُورِهِ , وَلَا يُمْكِن أَنْ يُضْرَب لِنُورِهِ الْمُعَظَّم مَثَلًا تَنْبِيهًا لِخَلْقِهِ إِلَّا بِبَعْضِ خَلْقه لِأَنَّ الْخَلْق لِقُصُورِهِمْ لَا يَفْهَمُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمِنْ أَنْفُسهمْ , وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا عَرَفَ اللَّه إِلَّا اللَّه وَحْده , قَالَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : هَذَا مَثَل نُور اللَّه وَهُدَاهُ فِي قَلْب الْمُؤْمِن كَمَا يَكَاد الزَّيْت الصَّافِي يُضِيء قَبْل أَنْ تَمَسّهُ النَّار , فَإِنْ مَسَّتْهُ النَّار زَادَ ضَوْءُهُ , كَذَلِكَ قَلْب الْمُؤْمِن يَكَاد يَعْمَل بِالْهُدَى قَبْل أَنْ يَأْتِيه الْعِلْم , فَإِذَا جَاءَهُ الْعِلْم زَادَهُ هُدًى عَلَى هُدًى وَنُورًا عَلَى نُور ; كَقَوْلِ إِبْرَاهِيم مِنْ قَبْل أَنْ تَجِيئهُ الْمَعْرِفَة : " هَذَا رَبِّي " , مِنْ قَبْل أَنْ يُخْبِرهُ أَحَد أَنَّ لَهُ رَبًّا ; فَلَمَّا أَخْبَرَهُ اللَّه أَنَّهُ رَبّه زَادَ هُدًى , فَقَالَ لَهُ رَبّه : " أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْت لِرَبِّ الْعَالَمِينَ " [ الْبَقَرَة : 131 ] . وَمَنْ قَالَ إِنَّ هَذَا مَثَل لِلْقُرْآنِ فِي قَلْب الْمُؤْمِن قَالَ : كَمَا أَنَّ هَذَا الْمِصْبَاح يُسْتَضَاء بِهِ وَلَا يَنْقُص فَكَذَلِكَ الْقُرْآن يُهْتَدَى بِهِ وَلَا يَنْقُص ; فَالْمِصْبَاح الْقُرْآن وَالزُّجَاجَة قَلْب الْمُؤْمِن وَالْمِشْكَاة لِسَانه وَفَهْمه , وَالشَّجَرَة الْمُبَارَكَة شَجَرَة الْوَحْي . " يَكَاد زَيْتهَا يُضِيء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَار " تَكَاد حُجَج الْقُرْآن تَتَّضِح وَلَوْ لَمْ يُقْرَأ. " نُور عَلَى نُور " يَعْنِي أَنَّ الْقُرْآن نُور مِنْ اللَّه تَعَالَى لِخَلْقِهِ , مَعَ مَا أَقَامَ لَهُمْ مِنْ الدَّلَائِل وَالْإِعْلَام قَبْل نُزُول الْقُرْآن , فَازْدَادُوا بِذَلِكَ نُورًا عَلَى نُور .



ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا النُّور الْمَذْكُور عَزِيز وَأَنَّهُ لَا يَنَالهُ إِلَّا مَنْ أَرَادَ اللَّه هُدَاهُ فَقَالَ : " يَهْدِي اللَّه لِنُورِهِ مَنْ يَشَاء وَيَضْرِب اللَّه الْأَمْثَال لِلنَّاسِ " أَيْ يُبَيِّن الْأَشْبَاه تَقْرِيبًا إِلَى الْأَفْهَام.



أَيْ بِالْمَهْدِيّ وَالضَّالّ . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ الْيَهُود قَالُوا : يَا مُحَمَّد , كَيْفَ يَخْلُص نُور اللَّه تَعَالَى مِنْ دُون السَّمَاء ; فَضَرَبَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ مَثَلًا لِنُورِهِ.
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِسورة النور الآية رقم 36
فِيهِ اِثْنَتَيْ عَشْرَة مَسْأَلَة : الْأُولَى : الْبَاء فِي " بُيُوت " تُضَمّ وَتُكْسَر ; وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَاخْتُلِفَ فِي الْفَاء مِنْ قَوْله " فِي " فَقِيلَ : هِيَ مُتَعَلِّقَة بِ " مِصْبَاح " . وَقِيلَ : بِ " يُسَبِّح لَهُ " ; فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيل يُوقَف عَلَى " عَلِيم " . قَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ : سَمِعْت أَبَا الْعَبَّاس يَقُول هُوَ حَال لِلْمِصْبَاحِ وَالزُّجَاجَة وَالْكَوْكَب ; كَأَنَّهُ قَالَ وَهِيَ فِي بُيُوت. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم مُحَمَّد بْن عَلِيّ : " فِي بُيُوت " مُنْفَصِل , كَأَنَّهُ يَقُول : اللَّه فِي بُيُوت أَذِنَ اللَّه أَنْ تُرْفَع ; وَبِذَلِكَ جَاءَتْ الْأَخْبَار أَنَّهُ ( مَنْ جَلَسَ فِي الْمَسْجِد فَإِنَّهُ يُجَالِس رَبّه ) . وَكَذَا مَا جَاءَ فِي الْخَبَر فِيمَا يُحْكَى عَنْ التَّوْرَاة ( أَنَّ الْمُؤْمِن إِذَا مَشَى إِلَى الْمَسْجِد قَالَ اللَّه تَبَارَكَ اِسْمه عَبْدِي زَارَنِي وَعَلَيَّ قِرَاهُ وَلَنْ أَرْضَى لَهُ قِرًى دُون الْجَنَّة ) . قَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ : إِنْ جُعِلَتْ " فِي " مُتَعَلِّقَة بِ " يُسَبِّح " أَوْ رَافِعَة لِلرِّجَالِ حَسُنَ الْوَقْف عَلَى قَوْله " وَاَللَّه بِكُلِّ شَيْء عَلِيم " [ الْبَقَرَة : 282 ] . وَقَالَ الرُّمَّانِيّ : هِيَ مُتَعَلِّقَة بِ " يُوقَد " وَعَلَيْهِ فَلَا يُوقَف عَلَى " عَلِيم " . فَإِنْ قِيلَ : فَمَا الْوَجْه إِذَا كَانَ الْبُيُوت مُتَعَلِّقَة بِ " يُوقَد " فِي تَوْحِيد الْمِصْبَاح وَالْمِشْكَاة وَجَمْع الْبُيُوت , وَلَا يَكُون مِشْكَاة وَاحِدَة إِلَّا فِي بَيْت وَاحِد . قِيلَ : هَذَا مِنْ الْخِطَاب الْمُتَلَوِّن الَّذِي يُفْتَح بِالتَّوْحِيدِ وَيُخْتَم بِالْجَمْعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " يَا أَيّهَا النَّبِيّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاء " [ الطَّلَاق : 1 ] وَنَحْوه . وَقِيلَ : رَجَعَ إِلَى كُلّ وَاحِد مِنْ الْبُيُوت . وَقِيلَ : هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَجَعَلَ الْقَمَر فِيهِنَّ نُورًا " [ نُوح : 16 ] وَإِنَّمَا هُوَ فِي وَاحِدَة مِنْهَا . وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي الْبُيُوت هُنَا عَلَى خَمْسَة أَقْوَال : الْأَوَّل - أَنَّهَا الْمَسَاجِد الْمَخْصُوصَة لِلَّهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ , وَأَنَّهَا تُضِيء لِأَهْلِ السَّمَاء كَمَا تُضِيء النُّجُوم لِأَهْلِ الْأَرْض ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَالْحَسَن . الثَّانِي : هِيَ بُيُوت بَيْت الْمَقْدِس ; عَنْ الْحَسَن أَيْضًا. الثَّالِث : بُيُوت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; عَنْ مُجَاهِد أَيْضًا . الرَّابِع : هِيَ الْبُيُوت كُلّهَا ; قَالَهُ عِكْرِمَة . وَقَوْله : " يُسَبِّح لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال " يُقَوِّي أَنَّهَا الْمَسَاجِد . وَقَوْل خَامِس : أَنَّهَا الْمَسَاجِد الْأَرْبَعَة الَّتِي لَمْ يَبْنِهَا إِلَّا نَبِيّ : الْكَعْبَة وَبَيْت أَرِيحَا وَمَسْجِد الْمَدِينَة وَمَسْجِد قُبَاء ; قَالَهُ اِبْن بُرَيْدَة . وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي " التَّوْبَة " .

قُلْت : الْأَظْهَر الْقَوْل الْأَوَّل ; لِمَا رَوَاهُ أَنَس بْن مَالِك عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ أَحَبَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَلْيُحِبَّنِي وَمَنْ أَحَبَّنِي فَلْيُحِبَّ أَصْحَابِي وَمَنْ أَحَبَّ أَصْحَابِي فَلْيُحِبَّ الْقُرْآن وَمَنْ أَحَبَّ الْقُرْآن فَلْيُحِبَّ الْمَسَاجِد فَإِنَّهَا أَفْنِيَة اللَّه أَبْنِيَته أَذِنَ اللَّه فِي رَفْعهَا وَبَارَكَ فِيهَا مَيْمُونَة مَيْمُون أَهْلهَا مَحْفُوظَة مَحْفُوظ أَهْلهَا هُمْ فِي صَلَاتهمْ وَاَللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي حَوَائِجهمْ هُمْ فِي مَسَاجِدهمْ وَاَللَّه مِنْ وَرَائِهِمْ ) .

الثَّانِيَة : " أَذِنَ اللَّه أَنْ تُرْفَع " " أَذِنَ " مَعْنَاهُ أَمَرَ وَقَضَى . وَحَقِيقَة الْإِذْن الْعِلْم وَالتَّمْكِين دُون حَظْر ; فَإِنْ اِقْتَرَنَ بِذَلِكَ أَمْر وَإِنْقَاذ كَانَ أَقْوَى . وَ " تُرْفَع " قِيلَ : مَعْنَاهُ تُبْنَى وَتُعْلَى ; قَالَهُ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَإِذْ يَرْفَع إِبْرَاهِيم الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت " [ الْبَقَرَة : 127 ] وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ بَنَى مَسْجِدًا مِنْ مَاله بَنَى اللَّه لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّة ) . وَفِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيث كَثِيرَة تَحُضّ عَلَى بُنْيَان الْمَسَاجِد . وَقَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَغَيْره : مَعْنَى " تُرْفَع " تُعَظَّم , وَيُرْفَع شَأْنهَا , وَتُطَهَّر مِنْ الْأَنْجَاس وَالْأَقْذَار ; فَفِي الْحَدِيث ( أَنَّ الْمَسْجِد لَيَنْزَوِي مِنْ النَّجَاسَة كَمَا يَنْزَوِي الْجِلْد مِنْ النَّار ) . وَرَوَى اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه : ( مَنْ أَخْرَجَ أَذًى مِنْ الْمَسْجِد بَنَى اللَّه لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّة ) . وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : أَمَرَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَتَّخِذ الْمَسَاجِد فِي الدُّور وَأَنْ تُطَهَّر وَتُطَيَّب .

الثَّالِثَة : إِذَا قُلْنَا : إِنَّ الْمُرَاد بُنْيَانهَا فَهَلْ تُزَيَّن وَتُنْقَش ؟ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ ; فَكَرِهَهُ قَوْم وَأَبَاحَهُ آخَرُونَ . فَرَوَى حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ أَيُّوب عَنْ أَبِي قِلَابَة عَنْ أَنَس وَقَتَادَة عَنْ أَنَس أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا تَقُوم السَّاعَة حَتَّى تَتَبَاهَى النَّاس فِي الْمَسَاجِد ). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد . وَفِي الْبُخَارِيّ - وَقَالَ أَنَس : ( يَتَبَاهَوْنَ بِهَا ثُمَّ لَا يَعْمُرُونَهَا إِلَّا قَلِيلًا ) . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى. وَرَوَى التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم أَبُو عَبْد اللَّه فِي نَوَادِر الْأُصُول مِنْ حَدِيث أَبِي الدَّرْدَاء قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا زَخْرَفْتُمْ مَسَاجِدكُمْ وَحَلَّيْتُمْ مَصَاحِفكُمْ فَالدَّبَار عَلَيْكُمْ ) . اِحْتَجَّ مَنْ أَبَاحَ ذَلِكَ بِأَنَّ فِيهِ تَعْظِيم الْمَسَاجِد وَاَللَّه تَعَالَى أَمَرَ بِتَعْظِيمِهَا فِي قَوْله : " فِي بُيُوت أَذِنَ اللَّه أَنْ تُرْفَع " يَعْنِي تُعَظَّم . وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَان أَنَّهُ بَنَى مَسْجِد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّاجِ وَحَسَّنَهُ . قَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَا بَأْس بِنَقْشِ الْمَسَاجِد بِمَاءِ الذَّهَب . وَرُوِيَ عَنْ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز أَنَّهُ نَقَشَ مَسْجِد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَالَغَ فِي عِمَارَته وَتَزْيِينه , وَذَلِكَ فِي زَمَن وِلَايَته قَبْل خِلَافَته , وَلَمْ يُنْكِر عَلَيْهِ أَحَد ذَلِكَ. وَذُكِرَ أَنَّ الْوَلِيد بْن عَبْد الْمَلِك أَنْفَقَ فِي عِمَارَة مَسْجِد دِمَشْق وَفِي تَزْيِينه مِثْل خَرَاج الشَّام ثَلَاث مَرَّات . وَرُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَان بْن دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَام بَنَى مَسْجِد بَيْت الْمَقْدِس وَبَالَغَ فِي تَزْيِينه.

الرَّابِعَة : وَمِمَّا تُصَان عَنْهُ الْمَسَاجِد وَتُنَزَّه عَنْهُ الرَّوَائِح الْكَرِيهَة وَالْأَقْوَال السَّيِّئَة وَغَيْر ذَلِكَ عَلَى مَا نُبَيِّنهُ ; وَذَلِكَ مِنْ تَعْظِيمهَا . وَقَدْ صَحَّ مِنْ حَدِيث اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي غَزْوَة تَبُوك : ( مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَة - يَعْنِي الثُّوم - فَلَا يَأْتِيَنَّ الْمَسَاجِد ). وَفِي حَدِيث جَابِر بْن عَبْد اللَّه عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ سَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَة الثُّوم ) وَقَالَ مَرَّة : ( مَنْ أَكَلَ الْبَصَل وَالثُّوم وَالْكُرَّاث فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدنَا فَإِنَّ الْمَلَائِكَة تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَم ) . وَقَالَ عُمَر بْن الْخِطَاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي خُطْبَته : ( ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيّهَا النَّاس تَأْكُلُونَ شَجَرَتَيْنِ وَلَا أَرَاهُمَا إِلَّا خَبِيثَتَيْنِ , هَذَا الْبَصَل وَالثُّوم , لَقَدْ رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا وَجَدَ رِيحهمَا مِنْ رَجُل فِي الْمَسْجِد أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى الْبَقِيع , فَمَنْ أَكَلَهُمَا فَلْيُمِتْهُمَا طَبْخًا ) . خَرَّجَهُ مُسْلِم فِي صَحِيحه . قَالَ الْعُلَمَاء : وَإِذَا كَانَتْ الْعِلَّة فِي إِخْرَاجه مِنْ الْمَسْجِد أَنَّهُ يَتَأَذَّى بِهِ فَفِي الْقِيَاس أَنَّ كُلّ مَنْ تَأَذَّى بِهِ جِيرَانه فِي الْمَسْجِد بِأَنْ يَكُون ذَرِب اللِّسَان سَفِيهًا عَلَيْهِمْ , أَوْ كَانَ ذَا رَائِحَة قَبِيحَة لَا تَرِيمهُ لِسُوءِ صِنَاعَته , أَوْ عَاهَة مُؤْذِيَة كَالْجُذَامِ وَشَبَهه . وَكُلّ مَا يَتَأَذَّى بِهِ النَّاس كَانَ لَهُمْ إِخْرَاجه مَا كَانَتْ الْعِلَّة مَوْجُودَة حَتَّى تَزُول. وَكَذَلِكَ يَجْتَنِب مُجْتَمَع النَّاس حَيْثُ كَانَ لِصَلَاةٍ أَوْ غَيْرهَا كَمَجَالِس الْعِلْم وَالْوَلَائِم وَمَا أَشْبَهَهَا , مَنْ أَكَلَ الثُّوم وَمَا فِي مَعْنَاهُ , مِمَّا لَهُ رَائِحَة كَرِيهَة تُؤْذِي النَّاس . وَلِذَلِكَ جَمَعَ بَيْن الْبَصَل وَالثُّوم وَالْكُرَّاث , وَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُتَأَذَّى بِهِ . قَالَ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ : وَقَدْ شَاهَدْت شَيْخنَا أَبَا عُمَر أَحْمَد بْن عَبْد الْمَلِك بْن هِشَام رَحِمَهُ اللَّه أَفْتَى فِي رَجُل شَكَاهُ جِيرَانه وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ يُؤْذِيهِمْ فِي الْمَسْجِد بِلِسَانِهِ وَيَده فَشُووِرَ فِيهِ ; فَأَفْتَى بِإِخْرَاجِهِ مِنْ الْمَسْجِد وَإِبْعَاده عَنْهُ , وَأَلَّا يُشَاهِد مَعَهُمْ الصَّلَاة ; إِذْ لَا سَبِيل مَعَ جُنُونه وَاسْتِطَالَته إِلَى السَّلَامَة مِنْهُ , فَذَاكَرْته يَوْمًا أَمْره وَطَالَبْته بِالدَّلِيلِ فِيمَا أَفْتَى بِهِ مِنْ ذَلِكَ وَرَاجَعْته فِيهِ الْقَوْل ; فَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ الثُّوم , وَقَالَ : هُوَ عِنْدِي أَكْثَر أَذًى مِنْ أَكْل الثُّوم , وَصَاحِبه يَمْنَع مِنْ شُهُود الْجَمَاعَة فِي الْمَسْجِد .

قُلْت : وَفِي الْآثَار الْمُرْسَلَة " إِنَّ الرَّجُل لَيَكْذِب الْكِذْبَة فَيَتَبَاعَد عَنْهُ الْمَلَك مِنْ نَتْن رِيحه " .فَعَلَى هَذَا يُخْرَج مَنْ عُرِفَ مِنْهُ الْكَذِب وَالتَّقَوُّل بِالْبَاطِلِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤْذِي .

الْخَامِسَة : أَكْثَر الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْمَسَاجِد كُلّهَا سَوَاء ; لِحَدِيثِ اِبْن عُمَر . وَقَالَ بَعْضهمْ : إِنَّمَا خَرَجَ النَّهْي عَلَى مَسْجِد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَجْل جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَنُزُوله فِيهِ ; وَلِقَوْلِهِ فِي حَدِيث جَابِر : ( فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدنَا ) .وَالْأَوَّل أَصَحّ , لِأَنَّهُ ذَكَرَ الصِّفَة فِي الْحُكْم وَهِيَ الْمَسْجِدِيَّة , وَذِكْر الصِّفَة فِي الْحُكْم تَعْلِيل .وَقَدْ رَوَى الثَّعْلَبِيّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَأْتِي اللَّه يَوْم الْقِيَامَة بِمَسَاجِدِ الدُّنْيَا كَأَنَّهَا نَجَائِب بِيض قِوَائِهَا مِنْ الْعَنْبَر وَأَعْنَاقهَا مِنْ الزَّعْفَرَان وَرُءُوسهَا مِنْ الْمِسْك وَأَزِمَّتهَا مِنْ الزَّبَرْجَد الْأَخْضَر وَقِوَامهَا وَالْمُؤَذِّنُونَ فِيهَا يَقُودُونَهَا وَأَئِمَّتهَا يَسُوقُونَهَا وَعُمَّارهَا مُتَعَلِّقُونَ بِهَا فَتَجُوز عَرَصَات الْقِيَامَة كَالْبَرْقِ الْخَاطِف فَيَقُول أَهْل الْمَوْقِف هَؤُلَاءِ مَلَائِكَة مُقَرَّبُونَ وَأَنْبِيَاء مُرْسَلُونَ فَيُنَادَى مَا هَؤُلَاءِ بِمَلَائِكَةٍ وَلَا أَنْبِيَاء وَلَكِنَّهُمْ أَهْل الْمَسَاجِد وَالْمُحَافِظُونَ عَلَى الصَّلَوَات مِنْ أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) وَفِي التَّنْزِيل : " إِنَّمَا يَعْمُر مَسَاجِد اللَّه مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ " [ التَّوْبَة : 18 ] .وَهَذَا عَامّ فِي كُلّ مَسْجِد. وَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُل يَعْتَاد الْمَسْجِد فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ ) إِنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول : " إِنَّمَا يَعْمُر مَسَاجِد اللَّه مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر " ) [ التَّوْبَة : 18 ] . وَقَدْ تَقَدَّمَ .

السَّادِسَة : وَتُصَان الْمَسَاجِد أَيْضًا عَنْ الْبَيْع وَالشِّرَاء وَجَمِيع الِاشْتِغَال ; لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرَّجُلِ الَّذِي دَعَا إِلَى الْجَمَل الْأَحْمَر : ( لَا وَجَدْت إِنَّمَا بُنِيَتْ الْمَسَاجِد لِمَا بُنِيَتْ لَهُ ) . أَخْرَجَهُ مُسْلِم مِنْ حَدِيث سُلَيْمَان بْن بُرَيْدَة عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَلَّى قَامَ رَجُل فَقَالَ : مَنْ دَعَا إِلَى الْجَمَل الْأَحْمَر ؟ فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا وَجَدْت إِنَّمَا بُنِيَتْ الْمَسَاجِد لِمَا بُنِيَتْ لَهُ ) .وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْأَصْل أَلَّا يُعْمَل فِي الْمَسْجِد غَيْر الصَّلَوَات وَالْأَذْكَار وَقِرَاءَة الْقُرْآن .وَكَذَا جَاءَ مُفَسَّرًا مِنْ حَدِيث أَنَس قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِد مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيّ فَقَامَ يَبُول فِي الْمَسْجِد , فَقَالَ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَهْ مَهْ ; فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تَزْرِمُوهُ دَعُوهُ ) .فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ , ثُمَّ إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ : ( إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِد لَا تَصْلُح لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْل وَلَا الْقَذَر إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّه وَالصَّلَاة وَقِرَاءَة الْقُرْآن ) .أَوْ كَمَا قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .قَالَ : فَأَمَرَ رَجُلًا مِنْ الْقَوْم فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاء فَشَنَّهُ عَلَيْهِ . خَرَّجَهُ مُسْلِم . وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى هَذَا مِنْ الْكِتَاب قَوْله الْحَقّ : " وَيُذْكَر فِيهَا اِسْمه " . وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاوِيَةَ بْن الْحَكَم السُّلَمِيّ : ( إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِد لَا يَصْلُح فِيهَا شَيْء مِنْ كَلَام النَّاس إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيح وَالتَّكْبِير وَقِرَاءَة الْقُرْآن ) . أَوْ كَمَا قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الْحَدِيث بِطُولِهِ خَرَّجَهُ مُسْلِم فِي صَحِيحه , وَحَسْبك ! وَسَمِعَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ صَوْت رَجُل فِي الْمَسْجِد فَقَالَ : مَا هَذَا الصَّوْت ؟ أَتَدْرِي أَيْنَ أَنْتَ ! وَكَانَ خَلَف بْن أَيُّوب جَالِسًا فِي مَسْجِده فَأَتَاهُ غُلَامه يَسْأَلهُ عَنْ شَيْء فَقَامَ وَخَرَجَ مِنْ الْمَسْجِد وَأَجَابَهُ ; فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : مَا تَكَلَّمْت فِي الْمَسْجِد بِكَلَامِ الدُّنْيَا مُنْذُ كَذَا وَكَذَا , فَكَرِهْت أَنْ أَتَكَلَّم الْيَوْم .

السَّابِعَة : رَوَى التِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ تَنَاشُد الْأَشْعَار فِي الْمَسْجِد , وَعَنْ الْبَيْع وَالشِّرَاء فِيهِ , وَأَنْ يَتَحَلَّق النَّاس يَوْم الْجُمْعَة قَبْل الصَّلَاة .قَالَ : وَفِي الْبَاب عَنْ بُرَيْدَة وَجَابِر وَأَنَس حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو حَدِيث حَسَن . قَالَ مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل : رَأَيْت مُحَمَّدًا وَإِسْحَاق وَذَكَرَ غَيْرهمَا يَحْتَجُّونَ بِحَدِيثِ عَمْرو بْن شُعَيْب . وَقَدْ كَرِهَ قَوْم مِنْ أَهْل الْعِلْم الْبَيْع وَالشِّرَاء فِي الْمَسْجِد ; وَبِهِ يَقُول أَحْمَد وَإِسْحَاق . وَرُوِيَ أَنَّ عِيسَى اِبْن مَرْيَم عَلَيْهِمَا السَّلَام أَتَى عَلَى قَوْم يَتَبَايَعُونَ فِي الْمَسْجِد فَجَعَلَ رِدَاءَهُ مِخْرَاقًا , ثُمَّ جَعَلَ يَسْعَى عَلَيْهِمْ ضَرْبًا وَيَقُول : يَا أَبْنَاء الْأَفَاعِي , اِتَّخَذْتُمْ مَسَاجِد اللَّه أَسْوَاقًا ! هَذَا سُوق الْآخِرَة .

قُلْت : وَقَدْ كَرِهَ بَعْض أَصْحَابنَا تَعْلِيم الصِّبْيَان فِي الْمَسَاجِد , وَرَأَى أَنَّهُ مِنْ بَاب الْبَيْع .وَهَذَا إِذَا كَانَ بِأُجْرَةٍ , فَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ أُجْرَة لَمُنِعَ أَيْضًا مِنْ وَجْه آخَر , وَهُوَ أَنَّ الصِّبْيَان لَا يَتَحَرَّزُونَ عَنْ الْأَقْذَار وَالْوَسَخ ; فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى عَدَم تَنْظِيف الْمَسَاجِد , وَقَدْ أَمَرَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَنْظِيفِهَا وَتَطْيِيبهَا فَقَالَ : ( جَنِّبُوا مَسَاجِدكُمْ صِبْيَانكُمْ وَمَجَانِينكُمْ وَسَلّ سُيُوفكُمْ وَإِقَامَة حُدُودكُمْ وَرَفْع أَصْوَاتكُمْ وَخُصُومَاتكُمْ وَأَجْمِرُوهَا فِي الْجُمَع وَاجْعَلُوا عَلَى أَبْوَابهَا الْمَطَاهِر ) .فِي إِسْنَاده الْعَلَاء بْن كَثِير الدِّمَشْقِيّ مَوْلَى بَنِي أُمَيَّة , وَهُوَ ضَعِيف عِنْدهمْ ; ذَكَرَهُ أَبُو أَحْمَد بْن عَدِيّ الْجُرْجَانِيّ الْحَافِظ. وَذَكَر أَبُو أَحْمَد أَيْضًا مِنْ حَدِيث عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : صَلَّيْت الْعَصْر مَعَ عُثْمَان أَمِير الْمُومِنِينَ فَرَأَى خَيَّاطًا فِي نَاحِيَة الْمَسْجِد فَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ ; فَقِيلَ لَهُ : يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ , إِنَّهُ يَكْنِس الْمَسْجِد وَيُغْلِق الْأَبْوَاب وَيَرُشّ أَحْيَانًا. فَقَالَ عُثْمَان : إِنِّي سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( جَنِّبُوا صُنَّاعكُمْ مِنْ مَسَاجِدكُمْ ) .هَذَا حَدِيث غَيْر مَحْفُوظ , فِي إِسْنَاده مُحَمَّد بْن مُجِيب الثَّقَفِيّ , وَهُوَ ذَاهِب الْحَدِيث .

قُلْت : مَا وَرَدَ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ طَرِيقه لَيِّنًا فَهُوَ صَحِيح مَعْنًى ; يَدُلّ عَلَى صِحَّته مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْل .قَالَ التِّرْمِذِيّ : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْض أَهْل الْعِلْم مِنْ التَّابِعِينَ رُخْصَة فِي الْبَيْع وَالشِّرَاء فِي الْمَسْجِد . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْر حَدِيث رُخْصَة فِي إِنْشَاد الشِّعْر فِي الْمَسْجِد .

قُلْت : أَمَّا تَنَاشُد الْأَشْعَار فَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ , فَمِنْ مَانِع مُطْلَقًا , وَمِنْ مُجِيز مُطْلَقًا . وَالْأَوْلَى التَّفْصِيل , وَهُوَ أَنْ يُنْظَر إِلَى الشِّعْر فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَقْتَضِي الثَّنَاء عَلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَوْ عَلَى رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ الذَّبّ عَنْهُمَا كَمَا كَانَ شِعْر حَسَّان , أَوْ يَتَضَمَّن الْحَضّ عَلَى الْخَيْر وَالْوَعْظ وَالزُّهْد فِي الدُّنْيَا وَالتَّقَلُّل مِنْهَا , فَهُوَ حَسَن فِي الْمَسَاجِد وَغَيْرهَا ; كَقَوْلِ الْقَائِل : طَوِّفِي يَا نَفْس كَيْ أَقْصِد فَرْدًا صَمَدًا وَذَرِينِي لَسْت أَبْغِي غَيْر رَبِّي أَحَدَا فَهُوَ أُنْسِي وَجَلِيسِي وَدَعِي النَّاس فَمَا إِنْ تَجِدِي مِنْ دُونه مُلْتَحَدَا وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ ; لِأَنَّ الشِّعْر فِي الْغَالِب لَا يَخْلُو عَنْ الْفَوَاحِش وَالْكَذِب وَالتَّزَيُّن بِالْبَاطِلِ , وَلَوْ سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ فَأَقَلّ مَا فِيهِ اللَّغْو وَالْهَذَر , وَالْمَسَاجِد مُنَزَّهَة عَنْ ذَلِكَ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فِي بُيُوت أَذِنَ اللَّه أَنْ تُرْفَع " . وَقَدْ يَجُوز إِنْشَاده فِي الْمَسْجِد ; كَقَوْلِ الْقَائِل : كَفَحْلِ الْعَدَاب الْفَرْد يَضْرِبهُ النَّدَى تَعَلَّى النَّدَى فِي مَتْنه وَتَحَدَّرَا وَقَوْل الْآخَر : إِذَا سَقَطَ السَّمَاء بِأَرْضِ قَوْم رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا فَهَذَا النَّوْع وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَمْد وَلَا ثَنَاء يَجُوز ; لِأَنَّهُ خَالٍ عَنْ الْفَوَاحِش وَالْكَذِب وَسَيَأْتِي ذِكْر الْأَشْعَار الْجَائِزَة وَغَيْرهَا بِمَا فِيهِ كِفَايَة فِي " الشُّعَرَاء " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيث هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : ذُكِرَ الشُّعَرَاء عِنْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( هُوَ كَلَام حَسَنه حَسَن وَقَبِيحه قَبِيح ) . وَفِي الْبَاب عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاص وَأَبِي هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ذَكَرَهُ فِي السُّنَن .

قُلْت : وَأَصْحَاب الشَّافِعِيّ يَأْثُرُونَ هَذَا الْكَلَام عَنْ الشَّافِعِيّ وَأَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّم بِهِ غَيْره ; وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَقِفُوا عَلَى الْأَحَادِيث فِي ذَلِكَ . وَاَللَّه أَعْلَم .

الثَّامِنَة : وَأَمَّا رَفْع الصَّوْت فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَقْتَضِي مَصْلَحَة لِلرَّافِعِ صَوْته دُعِيَ عَلَيْهِ بِنَقِيضِ قَصْده ; لِحَدِيثِ بَرِيرَة الْمُتَقَدِّم , وَحَدِيث أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُد ضَالَّة فِي الْمَسْجِد فَلْيَقُلْ لَا رَدَّهَا اللَّه عَلَيْك فَإِنَّ الْمَسَاجِد لَمْ تُبْنَ لِهَذَا ). وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مَالِك وَجَمَاعَة , حَتَّى كَرِهُوا رَفْع الصَّوْت فِي الْمَسْجِد فِي الْعِلْم وَغَيْره .وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَمُحَمَّد بْن مَسْلَمَة مِنْ أَصْحَابنَا رَفْع الصَّوْت فِي الْخُصُومَة وَالْعِلْم ; قَالُوا : لِأَنَّهُمْ لَا بُدّ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ .وَهَذَا مُخَالِف لِظَاهِرِ الْحَدِيث , وَقَوْلهمْ : لَا بُدّ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ , مَمْنُوع , بَلْ لَهُمْ بُدّ مِنْ ذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا : بِمُلَازَمَةِ الْوَقَار وَالْحُرْمَة , وَبِإِحْضَارِ ذَلِكَ بِالْبَالِ وَالتَّحَرُّز مِنْ نَقِيضه . وَالثَّانِي : أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَمَكَّن مِنْ ذَلِكَ فَلْيَتَّخِذْ لِذَلِكَ مَوْضِعًا يَخُصّهُ , كَمَا فَعَلَ عُمَر حَيْثُ بَنَى رَحْبَة تُسَمَّى الْبُطَيّحَاء , وَقَالَ : مَنْ أَرَادَ أَنْ يَلْغَط أَوْ يُنْشِد شِعْرًا - يَعْنِي فِي مَسْجِد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلْيَخْرُجْ إِلَى هَذِهِ الرَّحْبَة .وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ عُمَر كَانَ يَكْرَه إِنْشَاد الشِّعْر فِي الْمَسْجِد , وَلِذَلِكَ بَنَى الْبُطَيّحَاء خَارِجَهُ .

التَّاسِعَة : وَأَمَّا النَّوْم فِي الْمَسْجِد لِمَنْ اِحْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ مِنْ رَجُل أَوْ اِمْرَأَة مِنْ الْغُرَبَاء وَمَنْ لَا بَيْت لَهُ فَجَائِز ; لِأَنَّ فِي الْبُخَارِيّ - وَقَالَ أَبُو قِلَابَة عَنْ أَنَس : قَدِمَ رَهْط مِنْ عُكْل عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانُوا فِي الصُّفَّة , وَقَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي بَكْر : كَانَ أَصْحَاب الصُّفَّة فُقَرَاء .وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّهُ كَانَ يَنَام وَهُوَ شَابّ أَعْزَب لَا أَهْل لَهُ فِي مَسْجِد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .لَفْظ الْبُخَارِيّ : وَتَرْجَمَ ( بَاب نَوْم الْمَرْأَة فِي الْمَسْجِد ) وَأَدْخَلَ حَدِيث عَائِشَة فِي قِصَّة السَّوْدَاء الَّتِي اِتَّهَمَهَا أَهْلهَا بِالْوِشَاحِ , قَالَتْ عَائِشَة : وَكَانَ لَهَا خِبَاء فِي الْمَسْجِد أَوْ خِفْش ... الْحَدِيث. وَيُقَال : كَانَ مَبِيت عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح فِي الْمَسْجِد أَرْبَعِينَ سَنَة.

الْعَاشِرَة : رَوَى مُسْلِم عَنْ أَحْمَد أَوْ عَنْ أَبِي أَسِيد قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا دَخَلَ أَحَدكُمْ الْمَسْجِد فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ اِفْتَحْ لِي أَبْوَاب رَحْمَتك وَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلك مِنْ فَضْلك ) . خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد كَذَلِكَ ; إِلَّا أَنَّهُ زَادَ بَعْد قَوْله : ( إِذَا دَخَلَ أَحَدكُمْ الْمَسْجِد : فَلْيُسَلِّمْ وَلْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لْيَقُلْ اللَّهُمَّ اِفْتَحْ لِي... ) الْحَدِيث . وَرَوَى اِبْن مَاجَهْ عَنْ فَاطِمَة بِنْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِد قَالَ : ( بِاسْمِ اللَّه وَالسَّلَام عَلَى رَسُول اللَّه اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَاب رَحْمَتك وَإِذَا خَرَجَ قَالَ بِاسْمِ اللَّه وَالصَّلَاة عَلَى رَسُول اللَّه اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَاب رَحْمَتك وَفَضْلك " .وَرَوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِذَا دَخَلَ أَحَدكُمْ الْمَسْجِد فَلْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ اِفْتَحْ لِي أَبْوَاب رَحْمَتك وَإِذَا خَرَجَ فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ اِعْصِمْنِي مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيم ) . وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُد عَنْ حَيْوَة بْن شُرَيْح قَالَ : لَقِيت عُقْبَة بْن مُسْلِم فَقُلْت لَهُ بَلَغَنِي أَنَّك حَدَّثْت عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاصِ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِد قَالَ : ( أَعُوذ بِاَللَّهِ الْعَظِيم وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيم وَسُلْطَانه الْقَدِيم مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيم ) قَالَ نَعَمْ .قَالَ : فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ قَالَ الشَّيْطَان حُفِظَ مِنِّي سَائِر الْيَوْم .

الْحَادِيَة عَشْرَة : رَوَى مُسْلِم عَنْ أَبِي قَتَادَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِذَا دَخَلَ أَحَدكُمْ الْمَسْجِد فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْل أَنْ يَجْلِس ) وَعَنْهُ قَالَ : دَخَلْت الْمَسْجِد وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِس بَيْن ظَهْرَانَيْ النَّاس , قَالَ فَجَلَسْت فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا مَنَعَك أَنْ تَرْكَع رَكْعَتَيْنِ قَبْل أَنْ تَجْلِس ) ؟ فَقُلْت : يَا رَسُول اللَّه , رَأَيْتُك جَالِسًا وَالنَّاس جُلُوس. قَالَ : ( فَإِذَا دَخَلَ أَحَدكُمْ الْمَسْجِد فَلَا يَجْلِس حَتَّى يَرْكَع رَكْعَتَيْنِ ) .قَالَ الْعُلَمَاء : فَجَعَلَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمَسْجِدِ مَزِيَّة يَتَمَيَّز بِهَا عَنْ سَائِر الْبُيُوت , وَهُوَ أَلَّا يَجْلِس حَتَّى يَرْكَع .وَعَامَّة الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْأَمْر بِالرُّكُوعِ عَلَى النَّدْب وَالتَّرْغِيب .وَقَدْ ذَهَبَ دَاوُد وَأَصْحَابه إِلَى أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوب ; وَهَذَا بَاطِل , وَلَوْ كَانَ الْأَمْر عَلَى مَا قَالُوهُ لَحَرُمَ دُخُول الْمَسْجِد عَلَى الْمُحْدِث الْحَدَث الْأَصْغَر حَتَّى يَتَوَضَّأ , وَلَا قَائِل بِهِ فِيمَا أَعْلَم , وَاَللَّه أَعْلَم. فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى إِبْرَاهِيم بْن يَزِيد عَنْ الْأَوْزَاعِيّ عَنْ يَحْيَى بْن أَبِي كَثِير عَنْ أَبِي سَلَمَة عَنْ عَبْد الرَّحْمَن عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا دَخَلَ أَحَدكُمْ الْمَسْجِد فَلَا يَجْلِس حَتَّى يَرْكَع رَكْعَتَيْنِ وَإِذَا دَخَلَ أَحَدكُمْ بَيْته فَلَا يَجْلِس حَتَّى يَرْكَع رَكْعَتَيْنِ فَإِنَّ اللَّه جَاعِل مِنْ رَكْعَتَيْهِ فِي بَيْته خَيْرًا ) , وَهَذَا يَقْتَضِي التَّسْوِيَة بَيْن الْمَسْجِد وَالْبَيْت .قِيلَ : هَذِهِ الزِّيَادَة فِي الرُّكُوع عِنْد دُخُول الْبَيْت لَا أَصْل لَهَا ; قَالَ ذَلِكَ الْبُخَارِيّ . وَإِنَّمَا يَصِحّ فِي هَذَا حَدِيث أَبِي قَتَادَة الَّذِي تَقَدَّمَ لِمُسْلِمٍ , وَإِبْرَاهِيم هَذَا لَا أَعْلَم رَوَى عَنْهُ إِلَّا سَعْد بْن عَبْد الْحَمِيد , وَلَا أَعْلَم لَهُ إِلَّا هَذَا الْحَدِيث الْوَاحِد ; قَالَهُ أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْحَقّ.

الثَّانِيَة عَشْرَة : رَوَى سَعِيد بْن زَبَّان حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه عَنْ أَبِي هِنْد رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : حَمَلَ تَمِيم - يَعْنِي الدَّارِيّ - مِنْ الشَّام إِلَى الْمَدِينَة قَنَادِيل وَزَيْتًا وَمُقُطًا , فَلَمَّا اِنْتَهَى إِلَى الْمَدِينَة وَافَقَ ذَلِكَ لَيْلَة الْجُمْعَة فَأَمَرَ غُلَامًا يُقَال لَهُ أَبُو الْبَزَاد فَقَامَ فَنَشَطَ الْمُقُط وَعَلَّقَ الْقَنَادِيل وَصَبَّ فِيهَا الْمَاء وَالزَّيْت وَجَعَلَ فِيهَا الْفَتِيل ; فَلَمَّا غَرَبَتْ الشَّمْس أَمَرَ أَبَا الْبَزَاد فَأَسْرَجَهَا , وَخَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِد فَإِذَا هُوَ بِهَا تُزْهِر ; فَقَالَ : ( مَنْ فَعَلَ هَذَا ) ؟ قَالُوا : تَمِيم الدَّارِيّ يَا رَسُول اللَّه ; فَقَالَ : ( نَوَّرْت الْإِسْلَام نَوَّرَ اللَّه عَلَيْك فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة أَمَا إِنَّهُ لَوْ كَانَتْ لِي اِبْنَة لَزَوَّجْتُكهَا ) .قَالَ نَوْفَل بْن الْحَارِث : لِي اِبْنَة يَا رَسُول اللَّه تُسَمَّى الْمُغِيرَة بِنْت نَوْفَل فَافْعَلْ بِهَا مَا أَرَدْت ; فَأَنْكَحَهُ إِيَّاهَا . زَبَّان ( بِفَتْحِ الزَّاي وَالْبَاء وَتَشْدِيدهَا بِنُقْطَةٍ وَاحِدَة مِنْ تَحْتهَا ) يَنْفَرِد بِالتَّسَمِّي بِهِ سَعِيد وَحْده , فَهُوَ أَبُو عُثْمَان سَعِيد بْن زَبَّان بْن قَائِد بْن زَبَّان بْن أَبِي هِنْد , وَأَبُو هِنْد هَذَا مَوْلَى اِبْن بَيَاضَة حَجَّام النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْمُقُط : جَمْع الْمِقَاط , وَهُوَ الْحَبْل , فَكَأَنَّهُ مَقْلُوب الْقِمَاط . وَاَللَّه أَعْلَم. وَرَوَى اِبْن مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : أَوَّل مَنْ أَسْرَجَ فِي الْمَسَاجِد تَمِيم الدَّارِيّ .وَرُوِيَ عَنْ أَنَس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ أَسْرَجَ فِي مَسْجِد سِرَاجًا لَمْ تَزَلْ الْمَلَائِكَة وَحَمَلَة الْعَرْش يُصَلُّونَ عَلَيْهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ مَا دَامَ ذَلِكَ الضَّوْء فِيهِ وَإِنْ كَنَسَ غُبَار الْمَسْجِد نَقَدَ الْحُور الْعَيْن ) . قَالَ الْعُلَمَاء : وَيُسْتَحَبّ أَنْ يُنَوَّر الْبَيْت الَّذِي يُقْرَأ فِيهِ الْقُرْآن بِتَعْلِيقِ الْقَنَادِيل وَنَصْب الشُّمُوع فِيهِ , وَيُزَاد فِي شَهْر رَمَضَان فِي أَنْوَار الْمَسَاجِد.



فِيهَا ثَلَاث مَسَائِل : الْأُولَى : اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي وَصْف اللَّه تَعَالَى الْمُسَبِّحِينَ ; فَقِيلَ : هُمْ الْمُرَاقِبُونَ أَمْر اللَّه , الطَّالِبُونَ رِضَاءَهُ , الَّذِينَ لَا يَشْغَلهُمْ عَنْ الصَّلَاة وَذِكْر اللَّه شَيْء مِنْ أُمُور الدُّنْيَا .وَقَالَ كَثِير مِنْ الصَّحَابَة : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي أَهْل الْأَسْوَاق الَّذِينَ إِذَا سَمِعُوا النِّدَاء بِالصَّلَاةِ تَرَكُوا كُلّ شُغْل وَبَادَرُوا. وَرَأَى سَالِم بْن عَبْد اللَّه أَهْل الْأَسْوَاق وَهُمْ مُقْبِلُونَ إِلَى الصَّلَاة فَقَالَ : هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَرَادَ اللَّه بِقَوْلِهِ : " لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَة وَلَا بَيْع عَنْ ذِكْر اللَّه " .وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ اِبْن مَسْعُود . وَقَرَأَ عَبْد اللَّه بْن عَامِر وَعَاصِم فِي رِوَايَة أَبِي بَكْر عَنْهُ وَالْحَسَن " يُسَبَّح لَهُ فِيهَا " بِفَتْحِ الْبَاء عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله . وَكَانَ نَافِع وَابْن عُمَر وَأَبُو عَمْرو وَحَمْزَة يَقْرَءُونَ " يُسَبِّح " بِكَسْرِ الْبَاء ; وَكَذَلِكَ رَوَى أَبُو عَمْرو عَنْ عَاصِم. فَمَنْ قَرَأَ " يُسَبَّح " بِفَتْحِ الْبَاء كَانَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ : أَحَدهمَا أَنْ يَرْتَفِع " رِجَال " بِفِعْلٍ مُضْمَر دَلَّ عَلَيْهِ الظَّاهِر ; بِمَعْنَى يُسَبِّحهُ رِجَال ; فَيُوقَف عَلَى هَذَا عَلَى " الْآصَال " . وَقَدْ ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ مِثْل هَذَا . وَأَنْشَدَ : لِيُبْكَ يَزِيد ضَارِع لِخُصُومَةٍ وَمُخْتَبِط مِمَّا تُطِيح الطَّوَائِح الْمَعْنَى : يُبْكِيه ضَارِع . وَعَلَى هَذَا تَقُول : ضَرَبَ زَيْد عَمْرو ; عَلَى مَعْنَى ضَرَبَهُ عَمْرو. وَالْوَجْه الْآخَر : أَنْ يَرْتَفِع " رِجَال " بِالِابْتِدَاءِ , وَالْخَبَر " فِي بُيُوت " ; أَيْ فِي بُيُوت أَذِنَ اللَّه أَنْ تُرْفَع رِجَال . وَ " يُسَبِّح لَهُ فِيهَا " حَال مِنْ الضَّمِير فِي " تُرْفَع " ; كَأَنَّهُ قَالَ : أَنْ تُرْفَع ; مُسَبِّحًا لَهُ فِيهَا , وَلَا يُوقَف عَلَى " الْآصَال " عَلَى هَذَا التَّقْدِير .وَمَنْ قَرَأَ " يُسَبِّح " بِكَسْرِ الْبَاء لَمْ يَقِف عَلَى " الْآصَال " ; لِأَنَّ " يُسَبِّح " فِعْل لِلرِّجَالِ , وَالْفِعْل مُضْطَرّ إِلَى فَاعِله وَلَا إِضْمَار فِيهِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْل فِي " الْغُدُوّ وَالْآصَال " فِي آخِر " الْأَعْرَاف " وَالْحَمْد لِلَّهِ وَحْده .

الثَّانِيَة : " يُسَبِّح لَهُ فِيهَا " قِيلَ : مَعْنَاهُ يُصَلِّي. وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : كُلّ تَسْبِيح فِي الْقُرْآن صَلَاة ; وَيَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله : " بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال " , أَيْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ. وَقَالَ أَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ : أَرَادَ الصَّلَاة الْمَفْرُوضَة ; فَالْغُدُوّ صَلَاة الصُّبْح , وَالْآصَال صَلَاة الظُّهْر وَالْعَصْر وَالْعِشَائَيْنِ ; لِأَنَّ اِسْم الْآصَال يَجْمَعهَا.

الثَّالِثَة : رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي أُمَامَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْته مُتَطَهِّرًا إِلَى صَلَاة مَكْتُوبَة فَأَجْره كَأَجْرِ الْحَاجّ الْمُحْرِم وَمَنْ خَرَجَ إِلَى تَسْبِيح الضُّحَا لَا يَنْصِبهُ إِلَّا إِيَّاهُ فَأَجْره كَأَجْرِ الْمُعْتَمِر وَصَلَاة عَلَى إِثْر صَلَاة لَا لَغْو بَيْنهمَا كِتَاب فِي عِلِّيِّينَ ) . وَخَرَّجَ عَنْ بُرَيْدَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( بَشِّرْ الْمَشَّائِينَ فِي الظَّلَم إِلَى الْمَسَاجِد بِالنُّورِ التَّامّ يَوْم الْقِيَامَة ) . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِد أَوْ رَاحَ أَعَدَّ اللَّه لَهُ نُزُلًا فِي الْجَنَّة كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ ). فِي غَيْر الصَّحِيح مِنْ الزِّيَادَة ( كَمَا أَنَّ أَحَدكُمْ لَوْ زَارَ مَنْ يُحِبّ زِيَارَته لَاجْتَهَدَ فِي كَرَامَته ) ; ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ . وَخَرَّجَ مُسْلِم مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْته ثُمَّ مَشَى إِلَى بَيْت مِنْ بُيُوت اللَّه لِيَقْضِيَ فَرِيضَة مِنْ فَرَائِض اللَّه كَانَتْ خُطْوَتَاهُ إِحْدَاهُمَا تَحُطّ خَطِيئَة وَالْأُخْرَى تَرْفَع دَرَجَة ) . وَعَنْهُ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( صَلَاة الرَّجُل فِي جَمَاعَة تَزِيد عَلَى صَلَاته فِي بَيْته وَصَلَاته فِي سُوقه بِضْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَة وَذَلِكَ أَنَّ أَحَدهمْ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوء ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِد لَا يَنْهَزهُ إِلَّا الصَّلَاة لَا يُرِيد إِلَّا الصَّلَاة فَلَمْ يَخْطُ خُطْوَة إِلَّا رُفِعَ لَهُ بِهَا دَرَجَة وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَة حَتَّى يَدْخُل الْمَسْجِد فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِد كَانَ فِي الصَّلَاة مَا كَانَتْ الصَّلَاة هِيَ تَحْبِسهُ وَالْمَلَائِكَة يُصَلُّونَ عَلَى أَحَدكُمْ مَا دَامَ فِي مَجْلِسه الَّذِي صَلَّى فِيهِ يَقُولُونَ اللَّهُمَّ اِرْحَمْهُ اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ مَا لَمْ يُحْدِث فِيهِ ) . فِي رِوَايَة : مَا يُحْدِث ؟ قَالَ : ( يَفْسُو أَوْ يَضْرِط ) . وَقَالَ حَكِيم بْن زُرَيْق : قِيلَ لِسَعِيدِ بْن الْمُسَيِّب أَحُضُور الْجِنَازَة أَحَبّ إِلَيْك أَمْ الْجُلُوس فِي الْمَسْجِد ؟ فَقَالَ : مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَة فَلَهُ قِيرَاط , وَمَنْ شَهِدَ دَفْنهَا فَلَهُ قِيرَاطَانِ ; وَالْجُلُوس فِي الْمَسْجِد أَحَبّ إِلَيَّ , لِأَنَّ الْمَلَائِكَة تَقُول : اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ اِرْحَمْهُ اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ . وَرُوِيَ عَنْ الْحَكَم بْن عُمَيْر صَاحِب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كُونُوا فِي الدُّنْيَا أَضْيَافًا وَاِتَّخِذُوا الْمَسَاجِد بُيُوتًا وَعَوِّدُوا قُلُوبكُمْ الرِّقَّة وَأَكْثِرُوا التَّفَكُّر وَالْبُكَاء وَلَا تَخْتَلِف بِكُمْ الْأَهْوَاء . تَبْنُونَ مَا لَا تَسْكُنُونَ وَتَجْمَعُونَ مَا لَا تَأْكُلُونَ وَتُؤَمِّلُونَ مَا لَا تُدْرِكُونَ ). وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاء لِابْنِهِ : لِيَكُنْ الْمَسْجِد بَيْتك فَإِنِّي سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( إِنَّ الْمَسَاجِد بُيُوت الْمُتَّقِينَ . وَمَنْ كَانَتْ الْمَسَاجِد بَيْته ضَمِنَ اللَّه تَعَالَى لَهُ الرَّوْح وَالرَّاحَة وَالْجَوَاز عَلَى الصِّرَاط ) . وَكَتَبَ أَبُو صَادِق الْأَزْدِيّ إِلَى شُعَيْب بْن الْحَبْحَاب : أَنَّ عَلَيْك بِالْمَسَاجِدِ فَالْزَمْهَا ; فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّهَا كَانَتْ مَجَالِس الْأَنْبِيَاء . وَقَالَ أَبُو إِدْرِيس الْخَوْلَانِيّ : الْمَسَاجِد مَجَالِس الْكِرَام مِنْ النَّاس . وَقَالَ مَالِك بْن دِينَار : بَلَغَنِي أَنَّ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُول : ( إِنِّي أَهُمّ بِعَذَابِ عِبَادِي فَأَنْظُر إِلَى عُمَّار الْمَسَاجِد وَجُلَسَاء الْقُرْآن وَوِلْدَان الْإِسْلَام فَيَسْكُن غَضَبِي ) . وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَنَّهُ قَالَ : ( سَيَكُونُ فِي آخِر الزَّمَان رِجَال يَأْتُونَ الْمَسَاجِد فَيَقْعُدُونَ فِيهَا حِلَقًا حِلَقًا ذِكْرهمْ الدُّنْيَا وَحُبّهَا فَلَا تُجَالِسُوهُمْ فَلَيْسَ لِلَّهِ بِهِمْ حَاجَة ) . وَقَالَ اِبْن الْمُسَيِّب : مَنْ جَلَسَ فِي مَسْجِد فَإِنَّمَا يُجَالِس رَبّه , فَمَا حَقّه أَنْ يَقُول إِلَّا خَيْرًا . وَقَدْ مَضَى مِنْ تَعْظِيم الْمَسَاجِد وَحُرْمَتهَا مَا فِيهِ كِفَايَة . وَقَدْ جَمَعَ بَعْض الْعُلَمَاء فِي ذَلِكَ خَمْس عَشْرَة خَصْلَة , فَقَالَ : مِنْ حُرْمَة الْمَسْجِد أَنْ يُسَلِّم وَقْت الدُّخُول إِنْ كَانَ الْقَوْم جُلُوسًا , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِد أَحَد قَالَ : السَّلَام عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَاد اللَّه الصَّالِحِينَ , وَأَنْ يَرْكَع رَكْعَتَيْنِ قَبْل أَنْ يَجْلِس , وَأَلَّا يَشْتَرِي فِيهِ وَلَا يَبِيع , وَلَا يَسُلّ فِيهِ سَهْمًا وَلَا سَيْفًا , وَلَا يَطْلُب فِيهِ ضَالَّة , وَلَا يَرْفَع فِيهِ صَوْتًا بِغَيْرِ ذِكْر اللَّه تَعَالَى , وَلَا يَتَكَلَّم فِيهِ بِأَحَادِيثِ الدُّنْيَا , وَلَا يَتَخَطَّى رِقَاب النَّاس , وَلَا يُنَازِع فِي الْمَكَان , وَلَا يُضَيِّق عَلَى أَحَد فِي الصَّفّ , وَلَا يَمُرّ بَيْن يَدَيْ مُصَلٍّ , وَلَا يَبْصُق , وَلَا يَتَنَخَّم , وَلَا يَتَمَخَّط فِيهِ , وَلَا يُفَرْقِع أَصَابِعه , وَلَا يَعْبَث بِشَيْءٍ مِنْ جَسَده , وَأَنْ يُنَزَّه عَنْ النَّجَاسَات وَالصِّبْيَان وَالْمَجَانِين , وَإِقَامَة الْحُدُود , وَأَنْ يُكْثِر ذِكْر اللَّه تَعَالَى وَلَا يَغْفُل عَنْهُ . فَإِذَا فَعَلَ هَذِهِ الْخِصَال فَقَدْ أَدَّى حَقّ الْمَسْجِد , وَكَانَ الْمَسْجِد حِرْزًا لَهُ وَحِصْنًا مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيم. وَفِي الْخَبَر ( أَنَّ مَسْجِدًا اِرْتَفَعَ بِأَهْلِهِ إِلَى السَّمَاء يَشْكُوهُمْ إِلَى اللَّه لِمَا يَتَحَدَّثُونَ فِيهِ مِنْ أَحَادِيث الدُّنْيَا ) . وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عَامِر الشَّعْبِيّ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مِنْ اِقْتِرَاب السَّاعَة أَنْ يُرَى الْهِلَال قَبَلًا فَيُقَال لِلَيْلَتَيْنِ وَأَنْ تُتَّخَذ الْمَسَاجِد طُرُقًا وَأَنْ يَظْهَر مَوْت الْفَجْأَة ) . هَذَا يَرْوِيه عَبْد الْكَبِير بْن الْمُعَافَى عَنْ شَرِيك عَنْ الْعَبَّاس بْن ذَرِيح عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ أَنَس . وَغَيْره يَرْوِيه عَنْ الشَّعْبِيّ مُرْسَلًا , وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَالَ أَبُو حَاتِم : عَبْد الْكَبِير بْن مُعَافَى ثِقَة كَانَ يُعَدّ مِنْ الْأَبْدَال. وَفِي الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ مَرَّ فِي شَيْء مِنْ مَسَاجِدنَا أَوْ أَسْوَاقنَا بِنَبْلٍ فَلْيَأْخُذْ عَلَى نِصَالهَا لَا يَعْقِر بِكَفِّهِ مُسْلِمًا ) . وَخَرَّجَ مُسْلِم عَنْ أَنَس قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْبُزَاق فِي الْمَسْجِد خَطِيئَة وَكَفَّارَتهَا دَفْنهَا ) . وَعَنْ أَبِي ذَرّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( عُرِضَتْ عَلَيَّ أَعْمَال أُمَّتِي حَسَنهَا وَسَيِّئُهَا فَوَجَدْت فِي مَحَاسِن أَعْمَالهَا الْأَذَى يُمَاط عَنْ الطَّرِيق وَوَجَدْت فِي مُسَاوِي أَعْمَالهَا النُّخَاعَة تَكُون فِي الْمَسْجِد لَا تُدْفَن ) . وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُد عَنْ الْفَرَج بْن فَضَالَة عَنْ أَبِي سَعْد الْحِمْيَرِيّ قَالَ : رَأَيْت وَاثِلَة بْن الْأَسْقَع فِي مَسْجِد دِمَشْق بَصَقَ عَلَى الْحَصِير ثُمَّ مَسَحَهُ بِرِجْلِهِ ; فَقِيلَ لَهُ : لِمَ فَعَلْت هَذَا ؟ قَالَ : لِأَنِّي رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلهُ . فَرَج بْن فَضَالَة ضَعِيف , وَأَيْضًا فَلَمْ يَكُنْ فِي مَسْجِد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُصْر . وَالصَّحِيح أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا بَصَقَ عَلَى الْأَرْض وَدَلَكَهُ بِنَعْلِهِ الْيُسْرَى , وَلَعَلَّ وَاثِلَة إِنَّمَا أَرَادَ هَذَا فَحَمَلَ الْحَصِير عَلَيْهِ .
رِجَالٌ لّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُسورة النور الآية رقم 37
وَخَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ دَلَّ عَلَى أَنَّ النِّسَاء لَا حَظّ لَهُنَّ فِي الْمَسَاجِد ; إِذْ لَا جُمْعَة عَلَيْهِنَّ وَلَا جَمَاعَة , وَأَنَّ صَلَاتهنَّ فِي بُيُوتهنَّ أَفْضَل . رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ عَبْد اللَّه رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( صَلَاة الْمَرْأَة فِي بَيْتهَا أَفْضَل مِنْ صَلَاتهَا فِي حُجْرَتهَا وَصَلَاتهَا فِي مَخْدَعهَا أَفْضَل مِنْ صَلَاتهَا فِي بَيْتهَا ).


أَيْ لَا تَشْغَلهُمْ .



خَصَّ التِّجَارَة بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَعْظَم مَا يَشْتَغِل بِهَا الْإِنْسَان عَنْ الصَّلَاة . فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ كُرِّرَ ذِكْر الْبَيْع وَالتِّجَارَة تَشْمَلهُ. قِيلَ لَهُ : أَرَادَ بِالتِّجَارَةِ الشِّرَاء لِقَوْلِهِ : " وَلَا بَيْع " . نَظِيره قَوْله تَعَالَى : " وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَة أَوْ لَهْوًا اِنْفَضُّوا إِلَيْهَا " [ الْجُمْعَة : 11 ] قَالَهُ الْوَاقِدِيّ. وَقَالَ الْكَلْبِيّ : التُّجَّار هُمْ الْجُلَّاب الْمُسَافِرُونَ , وَالْبَاعَة هُمْ الْمُقِيمُونَ . " عَنْ ذِكْر اللَّه " اُخْتُلِفَ فِي تَأْوِيله ; فَقَالَ عَطَاء : يَعْنِي حُضُور الصَّلَاة ; وَقَالَهُ اِبْن عَبَّاس , وَقَالَ : الْمَكْتُوبَة. وَقِيلَ عَنْ الْأَذَان ; ذَكَرَهُ يَحْيَى بْن سَلَّام . وَقِيلَ : عَنْ ذِكْره بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى ; أَيْ يُوَحِّدُونَهُ وَيُمَجِّدُونَهُ . وَالْآيَة نَزَلَتْ فِي أَهْل الْأَسْوَاق ; قَالَهُ اِبْن عُمَر. قَالَ سَالِم : جَازَ عَبْد اللَّه بْن عُمَر بِالسُّوقِ وَقَدْ أَغْلَقُوا حَوَانِيتهمْ وَقَامُوا لِيُصَلُّوا فِي جَمَاعَة فَقَالَ : فِيهِمْ نَزَلَتْ : " رِجَال لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَة وَلَا بَيْع " الْآيَة . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هُمْ الَّذِينَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْض يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْل اللَّه. وَقِيلَ : إِنَّ رَجُلَيْنِ كَانَا فِي عَهْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَحَدهمَا بَيَّاعًا فَإِذَا سَمِعَ النِّدَاء بِالصَّلَاةِ فَإِنْ كَانَ الْمِيزَان بِيَدِهِ طَرَحَهُ وَلَا يَضَعهُ وَضْعًا , وَإِنْ كَانَ بِالْأَرْضِ لَمْ يَرْفَعهُ . وَكَانَ الْآخَر قَيْنًا يَعْمَل السُّيُوف لِلتِّجَارَةِ , فَكَانَ إِذَا كَانَتْ مِطْرَقَته عَلَى السِّنْدَان أَبْقَاهَا مَوْضُوعَة , وَإِنْ كَانَ قَدْ رَفَعَهَا أَلْقَاهَا مِنْ وَرَاء ظَهْره إِذَا سَمِعَ الْأَذَان ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذَا ثَنَاء عَلَيْهِمَا وَعَلَى كُلّ مَنْ اِقْتَدَى بِهِمَا .



هَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ " عَنْ ذِكْر اللَّه " غَيْر الصَّلَاة ; لِأَنَّهُ يَكُون تَكْرَارًا . يُقَال : أَقَامَ الصَّلَاة إِقَامَة , وَالْأَصْل إِقْوَامًا فَقُلِبَتْ حَرَكَة الْوَاو عَلَى الْقَاف فَانْقَلَبَتْ الْوَاو أَلِفًا وَبَعْدهَا أَلِف سَاكِنَة فَحُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا , وَأُثْبِتَتْ الْهَاء لِئَلَّا تَحْذِفهَا فَتُجْحِف , فَلَمَّا أُضِيفَتْ قَامَ الْمُضَاف مَقَام الْهَاء فَجَازَ حَذْفهَا , وَإِنْ لَمْ تُضَفْ لَمْ يَجُزْ حَذْفهَا ; أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُول : وَعَدَ عِدَة , وَوَزَنَ زِنَة , فَلَا يَجُوز حَذْف الْهَاء , لِأَنَّك قَدْ حَذَفْت وَاوًا ; لِأَنَّ الْأَصْل وَعَدَ وِعْدَة , وَوَزَنَ وِزْنَة , فَإِنْ أَضَفْت حُذِفَتْ الْهَاء , وَأَنْشَدَ الْفَرَّاء : إِنَّ الْخَلِيط أَجَدُّوا الْبَيْن فَانْجَرَدُوا وَأَخْلَفُوك عِدَ الْأَمْر الَّذِي وَعَدُوا يُرِيد عِدَة , فَحَذَفَ الْهَاء لَمَّا أَضَافَ . وَرُوِيَ مِنْ حَدِيث أَنَس قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَأْتِي اللَّه يَوْم الْقِيَامَة بِمَسَاجِدِ الدُّنْيَا كَأَنَّهَا نُجُب بِيض قَوَائِمهَا مِنْ الْعَنْبَر وَأَعْنَاقهَا مِنْ الزَّعْفَرَان وَرُءُوسهَا مِنْ الْمِسْك وَأَزِمَّتهَا مِنْ الزَّبَرْجَد الْأَخْضَر وَقِوَامهَا وَالْمُؤَذِّنُونَ فِيهَا يَقُودُونَهَا وَأَئِمَّتهَا يَسُوقُونَهَا وَعُمَّارهَا مُتَعَلِّقُونَ بِهَا فَتَجُوز عَرَصَات الْقِيَامَة كَالْبَرْقِ الْخَاطِف فَيَقُول أَهْل الْمَوْقِف هَؤُلَاءِ مَلَائِكَة مُقَرَّبُونَ أَوْ أَنْبِيَاء مُرْسَلُونَ فَيُنَادَى مَا هَؤُلَاءِ بِمَلَائِكَةٍ وَلَا أَنْبِيَاء وَلَكِنَّهُمْ أَهْل الْمَسَاجِد وَالْمُحَافِظُونَ عَلَى الصَّلَوَات مِنْ أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) . وَعَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : ( يَأْتِي عَلَى النَّاس زَمَان لَا يَبْقَى مِنْ الْإِسْلَام إِلَّا اِسْمه , وَلَا مِنْ الْقُرْآن إِلَّا رَسْمه , يُعَمِّرُونَ مَسَاجِدهمْ وَهِيَ مِنْ ذِكْر اللَّه خَرَاب , شَرّ أَهْل ذَلِكَ الزَّمَن عُلَمَاؤُهُمْ , مِنْهُمْ تَخْرُج الْفِتْنَة وَإِلَيْهِمْ تَعُود ) يَعْنِي أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ وَلَا يَعْمَلُونَ بِوَاجِبَاتِ مَا عَلِمُوا .


قِيلَ : الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة ; قَالَهُ الْحَسَن . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : الزَّكَاة هُنَا طَاعَة اللَّه تَعَالَى وَالْإِخْلَاص ; إِذْ لَيْسَ لِكُلِّ مُؤْمِن مَال .


يَعْنِي يَوْم الْقِيَامَة .


يَعْنِي مِنْ هَوْله وَحَذَر الْهَلَاك . وَالتَّقَلُّب التَّحَوُّل , وَالْمُرَاد قُلُوب الْكُفَّار وَأَبْصَارهمْ . فَتَقَلُّب الْقُلُوب اِنْتِزَاعهَا مِنْ أَمَاكِنهَا إِلَى الْحَنَاجِر , فَلَا هِيَ تَرْجِع إِلَى أَمَاكِنهَا وَلَا هِيَ تَخْرُج . وَأَمَّا تَقَلُّب الْأَبْصَار فَالزَّرَق بَعْد الْكَحَل وَالْعَمَى بَعْد الْبَصَر . وَقِيلَ : تَتَقَلَّب الْقُلُوب بَيْن الطَّمَع فِي النَّجَاة وَالْخَوْف مِنْ الْهَلَاك , وَالْأَبْصَار تَنْظُر مِنْ أَيّ نَاحِيَة يُعْطَوْنَ كُتُبهمْ , وَإِلَى أَيّ نَاحِيَة يُؤْخَذ بِهِمْ . وَقِيلَ : إِنَّ قُلُوب الشَّاكِّينَ تَتَحَوَّل عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ الشَّكّ , وَكَذَلِكَ أَبْصَارهمْ لِرُؤْيَتِهِمْ الْيَقِين ; وَذَلِكَ مِثْل قَوْله تَعَالَى : " فَكَشَفْنَا عَنْك غِطَاءَك فَبَصَرك الْيَوْم حَدِيد " [ ق : 22 ] فَمَا كَانَ يَرَاهُ فِي الدُّنْيَا غَيًّا يَرَاهُ رَشَدًا ; إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفَعهُمْ فِي الْآخِرَة . وَقِيلَ : تُقَلَّب عَلَى جَمْر جَهَنَّم , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " يَوْم تُقَلَّب وُجُوههمْ فِي النَّار " [ الْأَحْزَاب : 66 ] , " وَنُقَلِّب أَفْئِدَتهمْ وَأَبْصَارهمْ " [ الْأَنْعَام : 110 ] . فِي قَوْل مَنْ جَعَلَ الْمَعْنَى تَقَلُّبهَا عَلَى لَهَب النَّار. وَقِيلَ : تُقَلَّب بِأَنْ تَلْفَحهَا النَّار مَرَّة وَتُنْضِجهَا مَرَّة . وَقِيلَ إِنَّ تَقَلُّب الْقُلُوب وَجَيْبهَا , وَتَقَلُّب الْأَبْصَار النَّظَر بِهَا إِلَى نَوَاحِي الْأَهْوَال .
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍسورة النور الآية رقم 38
فَذَكَرَ الْجَزَاء عَلَى الْحَسَنَات , وَلَمْ يَذْكُر الْجَزَاء عَلَى السَّيِّئَات وَإِنْ كَانَ يُجَازِي عَلَيْهَا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدهمَا : أَنَّهُ تَرْغِيب , فَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْر الرَّغْبَة . الثَّانِي : أَنَّهُ فِي صِفَة قَوْم لَا تَكُون مِنْهُمْ الْكَبَائِر ; فَكَانَتْ صَغَائِرهمْ مَغْفُورَة .



يَحْتَمِل وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا : مَا يُضَاعِفهُ مِنْ الْحَسَنَة بِعَشْرِ أَمْثَالهَا . الثَّانِي : مَا يَتَفَضَّل بِهِ مِنْ غَيْر جَزَاء .


أَيْ مِنْ غَيْر أَنْ يُحَاسِبهُ عَلَى مَا أَعْطَاهُ ; إِذْ لَا نِهَايَة لِعَطَائِهِ . وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة أَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبِنَاءِ مَسْجِد قُبَاء , فَحَضَرَ عَبْد اللَّه بْن رَوَاحَة فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , قَدْ أَفْلَحَ مَنْ بَنَى الْمَسَاجِد ؟ قَالَ : ( نَعَمْ يَا بْن رَوَاحَة ) قَالَ : وَصَلَّى فِيهَا قَائِمًا وَقَاعِدًا ؟ قَالَ : ( نَعَمْ يَا بْن رَوَاحَة ) قَالَ : وَلَمْ يَبِتْ لِلَّهِ إِلَّا سَاجِدًا ؟ قَالَ : ( نَعَمْ يَا بْن رَوَاحَة كُفَّ عَنْ السَّجْع فَمَا أُعْطِيَ عَبْد شَرًّا مِنْ طَلَاقَة فِي لِسَانه ) ; ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِسورة النور الآية رقم 39
لَمَّا ضَرَبَ مَثَل الْمُؤْمِن ضَرَبَ مَثَل الْكَافِر . قَالَ مُقَاتِل : نَزَلَتْ فِي شَيْبَة بْن رَبِيعَة بْن عَبْد شَمْس , كَانَ يَتَرَهَّب مُتَلَمِّسًا لِلدِّينِ , فَلَمَّا خَرَجَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَرَ . أَبُو سَهْل : فِي أَهْل الْكِتَاب . الضَّحَّاك : فِي أَعْمَال الْخَيْر لِلْكَافِرِ ; كَصِلَةِ الرَّحِم وَنَفْع الْجِيرَان . وَالسَّرَاب : مَا يَرَى نِصْف النَّهَار فِي اِشْتِدَاد الْحَرّ , كَالْمَاءِ فِي الْمَفَاوِز يَلْتَصِق بِالْأَرْضِ . وَالْآلُ الَّذِي يَكُون ضُحًا كَالْمَاءِ إِلَّا أَنَّهُ يَرْتَفِع عَنْ الْأَرْض حَتَّى يَصِير كَأَنَّهُ بَيْن الْأَرْض وَالسَّمَاء . وَسُمِّيَ السَّرَاب سَرَابًا لِأَنَّهُ يَسْرُب أَيْ يَجْرِي كَالْمَاءِ . وَيُقَال : سَرَبَ الْفَحْل أَيْ مَضَى وَسَارَ فِي الْأَرْض . وَيُسَمَّى الْآلَ أَيْضًا , وَلَا يَكُون إِلَّا فِي الْبَرِّيَّة وَالْحَرّ فَيَغْتَرّ بِهِ الْعَطْشَان . قَالَ الشَّاعِر : فَكُنْت كَمُهْرِيقِ الَّذِي فِي سِقَائِهِ لِرَقْرَاقِ آلٍ فَوْق رَابِيَة صَلْد وَقَالَ آخَر : فَلَمَّا كَفَفْنَا الْحَرْب كَانَتْ عُهُودهمْ كَلَمْعِ سَرَاب بِالْفَلَا مُتَأَلِّق وَقَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : أَلَمْ أُنْضِ الْمَطِيّ بِكُلِّ خَرْق أَمَقّ الطُّول لَمَّاع السَّرَاب وَالْقِيعَة جَمْع الْقَاع ; مِثْل جِيرَة وَجَار ; قَالَهُ الْهَرَوِيّ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : قِيعَة وَقَاع وَاحِد ; حَكَاهُ النَّحَّاس . وَالْقَاع مَا اِنْبَسَطَ مِنْ الْأَرْض وَاتَّسَعَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ نَبْت , وَفِيهِ يَكُون السَّرَاب. وَأَصْل الْقَاع الْمَوْضِع الْمُنْخَفِض الَّذِي يَسْتَقِرّ فِيهِ الْمَاء , وَجَمْعه قِيعَان . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَالْقَاع الْمُسْتَوِي مِنْ الْأَرْض ; وَالْجَمْع أَقْوُع وَأَقْوَاع وَقِيعَان , صَارَتْ الْوَاو يَاء لِكَسْرِ مَا قَبْلهَا ; وَالْقِيعَة مِثْل الْقَاع , وَهُوَ أَيْضًا مِنْ الْوَاو . وَبَعْضهمْ يَقُول : هُوَ جَمْع. وَقُرِئَ " بِقِيعَاتٍ " . الْمَهْدَوِيّ : وَيَجُوز أَنْ تَكُون الْأَلِف مُشْبَعَة مِنْ فَتْحة الْعَيْن . وَيَجُوز أَنْ تَكُون مِثْل رَجُل عِزْةٍ وَعِزْهَاة , لِلَّذِي لَا يَقْرَب النِّسَاء . وَيَجُوز أَنْ يَكُون جَمْع قِيعَة , وَيَكُون عَلَى هَذَا بِالتَّاءِ فِي الْوَصْل وَالْوَقْف وَقَوْل : " وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا " اِبْتِدَاء " أَعْمَالهمْ " اِبْتِدَاء ثَانٍ . وَالْكَاف مِنْ " كَسَرَابٍ " الْخَبَر , وَالْجُمْلَة خَبَر عَنْ " الَّذِينَ " . وَيَجُوز أَنْ تَكُون " أَعْمَالهمْ " بَدَلًا مِنْ " الَّذِينَ كَفَرُوا " ; أَيْ وَأَعْمَال الَّذِينَ كَفَرُوا كَسَرَابٍ , فَحُذِفَ الْمُضَاف .




أَيْ الْعَطْشَان. وَرُوِيَ عَنْ نَافِع وَأَبِي جَعْفَر وَشَيْبَة " الظَّمْآن " بِغَيْرِ هَمْز , وَالْمَشْهُور عَنْهُمَا الْهَمْز ; يُقَال : ظَمِئَ يَظْمَأ ظَمَأ فَهُوَ ظَمْآن , وَإِنْ خَفَّفْت الْهَمْزَة قُلْت الظَّمَان


أَيْ يَحْسَب السَّرَاب مَاء .



مِمَّا قَدَّرَهُ وَوَجَدَ أَرْضًا لَا مَاء فِيهَا . وَهَذَا مَثَل ضَرَبَهُ اللَّه تَعَالَى لِلْكُفَّارِ , يُعَوِّلُونَ عَلَى ثَوَاب أَعْمَالهمْ فَإِذَا قَدِمُوا عَلَى اللَّه تَعَالَى وَجَدُوا ثَوَاب أَعْمَالهمْ مُحْبَطَة بِالْكُفْرِ ; أَيْ لَمْ يَجِدُوا شَيْئًا كَمَا لَمْ يَجِد صَاحِب السَّرَاب إِلَّا أَرْضًا لَا مَاء فِيهَا ; فَهُوَ يَهْلِك أَوْ يَمُوت.


أَيْ وَجَدَ اللَّه بِالْمِرْصَادِ .


أَيْ جَزَاء عَمَله . قَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : فَوَلَّى مُدْبِرًا يَهْوِي حَثِيثًا وَأَيْقَنَ أَنَّهُ لَاقَى الْحِسَابَا وَقِيلَ : وَجَدَ وَعَدَ اللَّه بِالْجَزَاءِ عَلَى عَمَله. وَقِيلَ : وَجَدَ أَمْر اللَّه عِنْد حَشْره ; وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب .
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍسورة النور الآية رقم 40
ضَرَبَ تَعَالَى مَثَلًا آخَر لِلْكُفَّارِ أَيْ أَعْمَالهمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ أَوْ كَظُلُمَاتٍ . قَالَ الزَّجَّاج : إِنْ شِئْت مَثِّلْ بِالسَّرَابِ وَإِنْ شِئْت مَثِّلْ بِالظُّلُمَاتِ فَ " أَوْ " لِلْإِبَاحَةِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْقَوْل فِي " أَوْ كَصَيِّبٍ " [ الْبَقَرَة : 19 ] . وَقَالَ الْجُرْجَانِيّ : الْآيَة الْأُولَى فِي ذِكْر أَعْمَال الْكُفَّار , وَالثَّانِيَة فِي ذِكْر كُفْرهمْ وَنُسِّقَ الْكُفْر عَلَى أَعْمَالهمْ لِأَنَّ الْكُفْر أَيْضًا مِنْ أَعْمَالهمْ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : " يُخْرِجهُمْ مِنْ الظُّلُمَات إِلَى النُّور " [ الْبَقَرَة : 257 ] أَيْ مِنْ الْكُفْر إِلَى الْإِيمَان وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : " أَوْ كَظُلُمَاتٍ " أَوْ كَذِي ظُلُمَات ; وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمُضَاف قَوْله تَعَالَى : " إِذَا أَخْرَجَ يَده " فَالْكِنَايَة تَعُود إِلَى الْمُضَاف الْمَحْذُوف. قَالَ الْقُشَيْرِيّ : فَعِنْد الزَّجَّاج التَّمْثِيل وَقَعَ لِأَعْمَالِ الْكُفَّار , وَعِنْد الْجُرْجَانِيّ لِكُفْرِ الْكَافِر , وَعِنْد أَبِي عَلِيّ لِلْكَافِرِ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس فِي رِوَايَة : هَذَا مِثْل قَلْب الْكَافِر . " فِي بَحْر لُجِّيّ " قِيلَ : هُوَ مَنْسُوب اللُّجَّة , وَهُوَ الَّذِي لَا يُدْرَك قَعْره . وَاللُّجَّة مُعْظَم الْمَاء , وَالْجَمْع لُجَج . وَالْتَجَّ الْبَحْر إِذَا تَلَاطَمَتْ أَمْوَاجه ; وَمِنْهُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ أَنَّهُ قَالَ : ( مَنْ رَكِبَ الْبَحْر إِذَا اِلْتَجَّ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّة ) . وَالْتَجَّ الْأَمْر إِذَا عَظُمَ وَاخْتَلَطَ. وَقَوْله تَعَالَى : " حَسِبَتْهُ لُجَّة " [ النَّمْل : 44 ] أَيْ مَا لَهُ عُمْق. وَلَجَّجَتْ السَّفِينَة أَيْ خَاضَتْ اللُّجَّة ( بِضَمِّ اللَّام ) . فَأَمَّا اللَّجَّة ( بِفَتْحِ اللَّام ) فَأَصْوَات النَّاس يَقُول : سَمِعْت لَجَّة النَّاس ; أَيْ أَصْوَاتهمْ وَصَخَبهمْ . قَالَ أَبُو النَّجْم : فِي لَجَّة أَمْسِكْ فُلَانًا عَنْ فُلِ وَالْتَجَّتْ الْأَصْوَات أَيْ اِخْتَلَطَتْ وَعَظُمَتْ .



أَيْ يَعْلُو ذَلِكَ الْبَحْر اللُّجِّيّ مَوْج . " مِنْ فَوْقه مَوْج " أَيْ مِنْ فَوْق الْمَوْج مَوْج , وَمِنْ فَوْق هَذَا الْمَوْج الثَّانِي سَحَاب ; فَيَجْتَمِع خَوْف الْمَوْج وَخَوْف الرِّيح وَخَوْف السَّحَاب . وَقِيلَ : الْمَعْنَى يَغْشَاهُ مَوْج مِنْ بَعْده مَوْج ; فَيَكُون الْمَعْنَى : الْمَوْج يَتْبَع بَعْضه بَعْضًا حَتَّى كَأَنَّ بَعْضه فَوْق بَعْض , وَهُوَ أَخْوَف مَا يَكُون إِذَا تَوَالَى مَوْجه وَتَقَارَبَ , وَمِنْ فَوْق هَذَا الْمَوْج سَحَاب. وَهُوَ أَعْظَم لِلْخَوْفِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا : أَنَّهُ قَدْ غَطَّى النُّجُوم الَّتِي يُهْتَدَى بِهَا . الثَّانِي : الرِّيح الَّتِي تَنْشَأ مَعَ السَّحَاب وَالْمَطَر الَّذِي يَنْزِل مِنْهُ .



قَرَأَ اِبْن مُحَيْصِن وَالْبَزِّيّ عَنْ اِبْن كَثِير " سَحَاب ظُلُمَات " بِالْإِضَافَةِ وَالْخَفْض . قُنْبُل " سَحَاب " مُنَوَّنًا " ظُلُمَات " بِالْجَرِّ وَالتَّنْوِين . الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِين . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : مَنْ قَرَأَ " مِنْ فَوْقه سَحَاب ظُلُمَات " بِالْإِضَافَةِ فَلِأَنَّ السَّحَاب يَرْتَفِع وَقْت هَذِهِ الظُّلُمَات فَأُضِيفَ إِلَيْهَا ; كَمَا يُقَال : سَحَاب رَحْمَة , إِذَا اِرْتَفَعَ فِي وَقْت الْمَطَر . وَمَنْ قَرَأَ " سَحَاب ظُلُمَات " جَرَّ " ظُلُمَات " عَلَى التَّأْكِيد لِ " ظُلُمَات " الْأُولَى أَوْ الْبَدَل مِنْهَا . وَ " سَحَاب " اِبْتِدَاء وَ " مِنْ فَوْقه " الْخَبَر . وَمَنْ قَرَأَ " سَحَاب ظُلُمَات " فَظُلُمَات خَبَر اِبْتِدَاء مَحْذُوف ; التَّقْدِير : هِيَ ظُلُمَات أَوْ هَذِهِ ظُلُمَات . قَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ : " مِنْ فَوْقه مَوْج " غَيْر تَامّ ; لِأَنَّ قَوْله " مِنْ فَوْقه سَحَاب " صِلَة لِلْمَوْجِ , وَالْوَقْف عَلَى قَوْله " مِنْ فَوْقه سَحَاب " حَسَن ثُمَّ تَبْتَدِئ " ظُلُمَات بَعْضهَا فَوْق بَعْض " عَلَى مَعْنَى هِيَ ظُلُمَات بَعْضهَا فَوْق بَعْض . وَرُوِيَ عَنْ أَهْل مَكَّة أَنَّهُمْ قَرَءُوا " ظُلُمَات " عَلَى مَعْنَى أَوْ كَظُلُمَاتِ ظُلُمَات بَعْضهَا فَوْق بَعْض ; فَعَلَى هَذَا الْمَذْهَب لَا يَحْسُن الْوَقْف عَلَى السَّحَاب. ثُمَّ قِيلَ : الْمُرَاد بِهَذِهِ الظُّلُمَات ظُلْمَة السَّحَاب وَظُلْمَة الْمَوْج وَظُلْمَة اللَّيْل وَظُلْمَة الْبَحْر ; فَلَا يُبْصِر مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ الظُّلُمَات شَيْئًا وَلَا كَوْكَبًا . وَقِيلَ : الْمُرَاد بِالظُّلُمَاتِ الشَّدَائِد ; أَيْ شَدَائِد بَعْضهَا فَوْق بَعْض. وَقِيلَ : أَرَادَ بِالظُّلُمَاتِ أَعْمَال الْكَافِر , وَبِالْبَحْرِ اللُّجِّيّ قَلْبه , وَبِالْمَوْجِ فَوْق الْمَوْج مَا يَغْشَى قَلْبه مِنْ الْجَهْل وَالشَّكّ وَالْحَيْرَة , وَبِالسَّحَابِ الرَّيْن وَالْخَتْم وَالطَّبْع عَلَى قَلْبه . رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره ; أَيْ لَا يُبْصِر بِقَلْبِهِ نُور الْإِيمَان , كَمَا أَنَّ صَاحِب الظُّلُمَات فِي الْبَحْر إِذَا أَخْرَجَ يَده لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا . وَقَالَ أُبَيّ بْن كَعْب : الْكَافِر يَتَقَلَّب فِي خَمْس مِنْ الظُّلُمَات : كَلَامه ظُلْمَة , وَعَمَله ظُلْمَة , وَمُدْخَله ظُلْمَة , وَمَخْرَجه ظُلْمَة , وَمَصِيره يَوْم الْقِيَامَة إِلَى الظُّلُمَات فِي النَّار وَبِئْسَ الْمَصِير.


يَعْنِي النَّاظِر .



أَيْ مِنْ شِدَّة الظُّلُمَات . قَالَ الزَّجَّاج وَأَبُو عُبَيْدَة : الْمَعْنَى لَمْ يَرَهَا وَلَمْ يَكَدْ ; وَهُوَ مَعْنَى قَوْل الْحَسَن . وَمَعْنَى " لَمْ يَكَدْ " لَمْ يَطْمَع أَنْ يَرَاهَا. وَقَالَ الْفَرَّاء : كَادَ صِلَة , أَيْ لَمْ يَرَهَا ; كَمَا تَقُول : مَا كِدْت أَعْرِفهُ . وَقَالَ الْمُبَرِّد : يَعْنِي لَمْ يَرَهَا إِلَّا مِنْ بَعْد الْجَهْد ; كَمَا تَقُول : مَا كِدْت أَرَاك مِنْ الظُّلْمَة , وَقَدْ رَآهُ بَعْد يَأْس وَشِدَّة . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ قَرُبَ مِنْ الرُّؤْيَة وَلَمْ يَرَ كَمَا يُقَال : كَادَ الْعَرُوس يَكُون أَمِيرًا وَكَادَ النَّعَام يَطِير , وَكَادَ الْمُنْتَعِل يَكُون رَاكِبًا . النَّحَّاس : وَأَصَحّ الْأَقْوَال فِي هَذَا أَنَّ الْمَعْنَى لَمْ يُقَارِب رُؤْيَتهَا , فَإِذَا لَمْ يُقَارِب رُؤْيَتهَا فَلَمْ يَرَهَا رُؤْيَة بَعِيدَة وَلَا قَرِيبَة .



نُورًا يَهْتَدِي بِهِ حِين أَظْلَمَتْ عَلَيْهِ الْأُمُور . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : أَيْ مَنْ لَمْ يَجْعَل اللَّه لَهُ دِينًا فَمَا لَهُ مِنْ دِين , وَمَنْ لَمْ يَجْعَل اللَّه لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ يَوْم الْقِيَامَة لَمْ يَهْتَدِ إِلَى الْجَنَّة ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَيَجْعَل لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ " [ الْحَدِيد : 28 ]. وَقَالَ الزَّجَّاج : ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْمَعْنَى : مَنْ لَمْ يَهْدِهِ اللَّه لَمْ يَهْتَدِ . وَقَالَ مُقَاتِل بْن سُلَيْمَان : نَزَلَتْ فِي عُتْبَة بْن رَبِيعَة , كَانَ يَلْتَمِس الدِّين فِي الْجَاهِلِيَّة , وَلَبِسَ الْمُسُوح , ثُمَّ كَفَرَ فِي الْإِسْلَام . الْمَاوَرْدِيّ : فِي شَيْبَة بْن رَبِيعَة , وَكَانَ يَتَرَهَّب فِي الْجَاهِلِيَّة وَيَلْبَس الصُّوف وَيَطْلُب الدِّين , فَكَفَرَ فِي الْإِسْلَام . قُلْت : وَكِلَاهُمَا مَاتَ كَافِرًا , فَلَا يَبْعُد أَنْ يَكُونَا هُمَا الْمُرَاد بِالْآيَةِ وَغَيْرهمَا . وَقَدْ قِيلَ : نَزَلَتْ فِي عَبْد اللَّه بْن جَحْش , وَكَانَ أَسْلَمَ وَهَاجَرَ إِلَى أَرْض الْحَبَشَة ثُمَّ تَنَصَّرَ بَعْد إِسْلَامه . وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيّ : وَقَالَ أَنَس قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّه تَعَالَى خَلَقَنِي مِنْ نُور وَخَلَقَ أَبَا بَكْر مِنْ نُورِي وَخَلَقَ عُمَر وَعَائِشَة مِنْ نُور أَبِي بَكْر وَخَلَقَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أُمَّتِي مِنْ نُور عُمَر وَخَلَقَ الْمُؤْمِنَات مِنْ أُمَّتِي مِنْ نُور عَائِشَة فَمَنْ لَمْ يُحِبَّنِي وَيُحِبّ أَبَا بَكْر وَعُمَر وَعَائِشَة فَمَا لَهُ مِنْ نُور ) . فَنَزَلَتْ " وَمَنْ لَمْ يَجْعَل اللَّه لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُور " .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَسورة النور الآية رقم 41
لَمَّا ذَكَرَ وُضُوح الْآيَات زَادَ فِي الْحُجَّة وَالْبَيِّنَات , وَبَيَّنَ أَنَّ مَصْنُوعَاته تَدُلّ بِتَغْيِيرِهَا عَلَى أَنَّ لَهَا صَانِعًا قَادِرًا عَلَى الْكَمَال ; فَلَهُ بَعْثَة الرُّسُل , وَقَدْ بَعَثَهُمْ وَأَيَّدَهُمْ بِالْمُعْجِزَاتِ , وَأَخْبَرُوا بِالْجَنَّةِ وَالنَّار . وَالْخِطَاب فِي " أَلَمْ تَرَ " لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَمَعْنَاهُ : أَلَمْ تَعْلَم ; وَالْمُرَاد الْكُلّ .


مِنْ الْمَلَائِكَة .


مِنْ الْجِنّ وَالْإِنْس .



قَالَ مُجَاهِد وَغَيْره : الصَّلَاة لِلْإِنْسَانِ وَالتَّسْبِيح لِمَا سِوَاهُ مِنْ الْخَلْق . وَقَالَ سُفْيَان : لِلطَّيْرِ صَلَاة لَيْسَ فِيهَا رُكُوع وَلَا سُجُود . وَقِيلَ : إِنَّ ضَرْبهَا بِأَجْنِحَتِهَا صَلَاة , وَإِنَّ أَصْوَاتهَا تَسْبِيح ; حَكَاهُ النَّقَّاش . وَقِيلَ : التَّسْبِيح هَاهُنَا مَا يُرَى فِي الْمَخْلُوق مِنْ أَثَر الصَّنْعَة . وَمَعْنَى " صَافَّات " مُصْطَفَّات الْأَجْنِحَة فِي الْهَوَاء. وَقَرَأَ الْجَمَاعَة " وَالطَّيْر " بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى " مَنْ " . وَقَالَ الزَّجَّاج : وَيَجُوز " وَالطَّيْر " بِمَعْنَى مَعَ الطَّيْر . قَالَ النَّحَّاس : وَسَمِعْته يُخْبِر - قُمْت وَزَيْدًا - بِمَعْنَى مَعَ زَيْد. قَالَ : وَهُوَ أَجْوَد مِنْ الرَّفْع . قَالَ : فَإِنْ قُلْت قُمْت أَنَا وَزَيْد , كَانَ الْأَجْوَد الرَّفْع , وَيَجُوز النَّصْب .


يَجُوز أَنْ يَكُون الْمَعْنَى : كُلّ قَدْ عَلِمَ اللَّه صَلَاته وَتَسْبِيحه ; أَيْ عَلِمَ صَلَاة الْمُصَلِّي وَتَسْبِيح الْمُسَبِّح . وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَة يَجُوز نَصْب " كُلّ " عِنْد الْبَصْرِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ بِإِضْمَارِ فِعْل يُفَسِّرهُ مَا بَعْده . وَقَدْ قِيلَ : الْمَعْنَى قَدْ عَلِمَ كُلّ مُصَلٍّ وَمُسَبِّح صَلَاة نَفْسه وَتَسْبِيحه الَّذِي كُلِّفَهُ . وَقَرَأَ بَعْض النَّاس " كُلّ قَدْ عَلِمَ صَلَاته وَتَسْبِيحه " غَيْر مُسَمَّى الْفَاعِل. وَذَكَرَ بَعْض النَّحْوِيِّينَ أَنَّ بَعْضهمْ قَرَأَ " كُلّ قَدْ عُلِّمَ صَلَاته وَتَسْبِيحه " ; فَيَجُوز أَنْ يَكُون تَقْدِيره : كُلّ قَدْ عَلَّمَهُ اللَّه صَلَاته وَتَسْبِيحه . وَيَجُوز أَنْ يَكُون الْمَعْنَى : كُلّ قَدْ عَلَّمَ غَيْره صَلَاته وَتَسْبِيحه أَيْ صَلَاة نَفْسه ; فَيَكُون التَّعْلِيم الَّذِي هُوَ الْإِفْهَام وَالْمُرَاد الْخُصُوص ; لِأَنَّ مِنْ النَّاس مَنْ لَمْ يَعْلَم . وَيَجُوز أَنْ يَكُون الْمَعْنَى كُلّ قَدْ اِسْتَدَلَّ مِنْهُ الْمُسْتَدِلّ , فَعَبَّرَ عَنْ الِاسْتِدْلَال بِالتَّعْلِيمِ قَالَهُ الْمَهْدَوِيّ . وَالصَّلَاة هُنَا بِمَعْنَى التَّسْبِيح , وَكُرِّرَ تَأْكِيدًا ; كَقَوْلِهِ " يَعْلَم السِّرّ وَالنَّجْوَى " . وَالصَّلَاة قَدْ تُسَمَّى تَسْبِيحًا ; قَالَهُ الْقُشَيْرِيّ .


أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ طَاعَتهمْ وَلَا تَسْبِيحهمْ .
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُسورة النور الآية رقم 42
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِسورة النور الآية رقم 43
ذَكَرَ مِنْ حُجَجه شَيْئًا آخَر ; أَيْ أَلَمْ تَرَ بِعَيْنَيْ قَلْبك .


أَيْ يَسُوق إِلَى حَيْثُ يَشَاء . وَالرِّيح تُزْجِي السَّحَاب , وَالْبَقَرَة تُزْجِي وَلَدهَا أَيْ تَسُوقهُ. وَمِنْهُ زَجَا الْخَرَاج يَزْجُو زَجَاء - مَمْدُودًا - إِذَا تَيَسَّرَتْ جِبَايَته. وَقَالَ النَّابِغَة : إِنِّي أَتَيْتُك مِنْ أَهْلِي وَمِنْ وَطَنِي أُزْجِي حُشَاشَة نَفْس مَا بِهَا رَمَق وَقَالَ أَيْضًا : أَسْرَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْجَوْزَاء سَارِيَة تُزْجِي الشَّمَال عَلَيْهِ جَامِد الْبَرَد



أَيْ يَجْمَعهُ عِنْد اِنْتِشَائِهِ ; لِيَقْوَى وَيَتَّصِل وَيَكْثُف . وَالْأَصْل فِي التَّأْلِيف الْهَمْز , تَقُول : تَأَلَّفَ . وَقُرِئَ " يُوَلِّف " بِالْوَاوِ تَخْفِيفًا . وَالسَّحَاب وَاحِد فِي اللَّفْظ , وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ جَمْع ; وَلِهَذَا قَالَ : " وَيُنْشِئ السَّحَاب " [ الرَّعْد : 12 ] . وَ " بَيْن " لَا يَقَع إِلَّا لِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا , فَكَيْفَ جَازَ بَيْنه ؟ فَالْجَوَاب أَنَّ " بَيْنه " هُنَا لِجَمَاعَةِ السَّحَاب ; كَمَا تَقُول : الشَّجَر قَدْ جَلَسْت بَيْنه لِأَنَّهُ جَمْع , وَذَكَرَ الْكِنَايَة عَلَى اللَّفْظ ; قَالَ مَعْنَاهُ الْفَرَّاء . وَجَوَاب آخَر : وَهُوَ أَنْ يَكُون السَّحَاب وَاحِدًا فَجَازَ أَنْ يُقَال بَيْنه لِأَنَّهُ مُشْتَمِل عَلَى قِطَع كَثِيرَة , كَمَا قَالَ : . .. بَيْن الدَّخُول فَحَوْمَل فَأُوقِعَ " بَيْن " عَلَى الدَّخُول , وَهُوَ وَاحِد لِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَوَاضِع . وَكَمَا تَقُول : مَا زِلْت أَدُور بَيْن الْكُوفَة لِأَنَّ الْكُوفَة أَمَاكِن كَثِيرَة ; قَالَهُ الزَّجَّاج وَغَيْره . وَزَعَمَ الْأَصْمَعِيّ أَنَّ هَذَا لَا يَجُوز , وَكَانَ يُرْوَى : . .. بَيْن الدَّخُول وَحَوْمَل


أَيْ مُجْتَمِعًا , يَرْكَب بَعْضه بَعْضًا ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنْ السَّمَاء سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَاب مَرْكُوم " [ الطُّور : 44 ] . وَالرَّكْم جَمْع الشَّيْء ; يُقَال مِنْهُ : رَكَمَ الشَّيْء يَرْكُمهُ رَكْمًا إِذَا جَمَعَهُ وَأَلْقَى بَعْضه عَلَى بَعْض . وَارْتَكَمَ الشَّيْء وَتَرَاكَمَ إِذَا اِجْتَمَعَ . وَالرُّكْمَة الطِّين الْمَجْمُوع . وَالرُّكَام : الرَّمَل الْمُتَرَاكِم . وَكَذَلِكَ السَّحَاب وَمَا أَشْبَهَهُ . وَمُرْتَكَم الطَّرِيق - ( بِفَتْحِ الْكَاف ) - جَادَّته .



فِي " الْوَدْق " قَوْلَانِ : أَحَدهمَا : أَنَّهُ الْبَرْق ; قَالَهُ أَبُو الْأَشْهَب الْعُقَيْلِيّ . وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : أَثَرْنَا عَجَاجَة وَخَرَجْنَ مِنْهَا خُرُوج الْوَدْق مِنْ خَلَل السَّحَاب الثَّانِي : أَنَّهُ الْمَطَر ; قَالَهُ الْجُمْهُور . وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : فَلَا مُزْنَة وَدَقَتْ وَدْقهَا وَلَا أَرْض أَبْقَلَ إِبْقَالهَا وَقَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : فَدَمْعهمَا وَدْق وَسَحّ وَدِيمَة وَسَكْب وَتَوْكَاف وَتَنْهَمِلَانِ يُقَال : وَدَقَتْ السَّحَابَة فَهِيَ وَادِقَة . وَوَدَقَ الْمَطَر يَدِق وَدْقًا ; أَيْ قَطَرَ . وَوَدَقْت إِلَيْهِ دَنَوْت مِنْهُ . وَفِي الْمَثَل : وَدَقَ الْعَيْر إِلَى الْمَاء ; أَيْ دَنَا مِنْهُ . يُضْرَب لِمَنْ خَضَعَ لِلشَّيْءِ لِحِرْصِهِ عَلَيْهِ . وَالْمَوْضِع مَوْدِق . وَوَدَقْت [ بِهِ ] وَدْقًا اِسْتَأْنَسْت بِهِ . وَيُقَال لِذَاتِ الْحَافِر إِذَا أَرَادَتْ الْفَحْل : وَدَقَتْ تَدِق وَدْقًا , وَأَوْدَقَتْ وَاسْتَوْدَقَتْ . وَأَتَان وَدُوق وَفَرَس وَدُوق , وَوَدِيق أَيْضًا , وَبِهَا وِدَاق . وَالْوَدِيقَة : شِدَّة الْحَرّ . وَخِلَال جَمْع خَلَل ; مِثْل الْجَبَل وَالْجِبَال , وَهِيَ فُرَجه وَمَخَارِج الْقَطْر مِنْهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي [ الْبَقَرَة ] أَنَّ كَعْبًا قَالَ : إِنَّ السَّحَاب غِرْبَال الْمَطَر ; لَوْلَا السَّحَاب حِين يَنْزِل الْمَاء مِنْ السَّمَاء لَأَفْسَدَ مَا يَقَع عَلَيْهِ مِنْ الْأَرْض . وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك وَأَبُو الْعَالِيَة " مِنْ خَلَله " عَلَى التَّوْحِيد . وَتَقُول : كُنْت فِي خِلَال الْقَوْم ; أَيْ وَسَطهمْ .


قِيلَ : خَلَقَ اللَّه فِي السَّمَاء جِبَالًا مِنْ بَرَد , فَهُوَ يُنْزِل مِنْهَا بَرَدًا ; وَفِيهِ إِضْمَار , أَيْ يُنْزِل مِنْ جِبَال الْبَرَد بَرَدًا , فَالْمَفْعُول مَحْذُوف . وَنَحْو هَذَا قَوْل الْفَرَّاء ; لِأَنَّ التَّقْدِير عِنْده : مِنْ جِبَال بَرَد ; فَالْجِبَال عِنْده هِيَ الْبَرَد . وَ " بَرَد " فِي مَوْضِع خَفْض ; وَيَجِب أَنْ يَكُون عَلَى قَوْله الْمَعْنَى : مِنْ جِبَال بَرَد فِيهَا , بِتَنْوِينِ جِبَال . وَقِيلَ : إِنَّ اللَّه تَعَالَى خَلَقَ فِي السَّمَاء جِبَالًا فِيهَا بَرَد ; فَيَكُون التَّقْدِير : وَيُنَزِّل مِنْ السَّمَاء مِنْ جِبَال فِيهَا بَرَد . وَ " مِنْ " صِلَة . وَقِيلَ : الْمَعْنَى وَيُنَزِّل مِنْ السَّمَاء قَدْر جِبَال , أَوْ مِثْل جِبَال مِنْ بَرَد إِلَى الْأَرْض ; فَ " مِنْ " الْأُولَى لِلْغَايَةِ لِأَنَّ اِبْتِدَاء الْإِنْزَال مِنْ السَّمَاء , وَالثَّانِيَة لِلتَّبْعِيضِ لِأَنَّ الْبَرَد بَعْض الْجِبَال , وَالثَّالِثَة لِتَبْيِينِ الْجِنْس لِأَنَّ جِنْس تِلْكَ الْجِبَال مِنْ الْبَرَد . وَقَالَ الْأَخْفَش : إِنَّ " مِنْ " فِي " الْجِبَال " وَ " بَرَد " زَائِدَة فِي الْمَوْضِعَيْنِ , وَالْجِبَال وَالْبَرَد فِي مَوْضِع نَصْب ; أَيْ يُنَزِّل مِنْ السَّمَاء بَرَدًا يَكُون كَالْجِبَالِ . وَاَللَّه أَعْلَم.


فَيَكُون إِصَابَته نِقْمَة وَصَرْفه نِعْمَة . وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة " . وَ " الرَّعْد " أَنَّ مَنْ قَالَ حِين يَسْمَع الرَّعْد : سُبْحَان مَنْ يُسَبِّح الرَّعْد بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَة مِنْ خِيفَته ثَلَاثًا عُوفِيَ مِمَّا يَكُون فِي ذَلِكَ الرَّعْد .


أَيْ ضَوْء ذَلِكَ الْبَرْق الَّذِي فِي السَّحَاب



مِنْ شِدَّة بِرِيقِهِ وَضَوْئِهِ. قَالَ الشَّمَّاخ : وَمَا كَادَتْ إِذَا رَفَعَتْ سَنَاهَا لِيُبْصِر ضَوْءَهَا إِلَّا الْبَصِير وَقَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : يُضِيء سَنَاهُ أَوْ مَصَابِيح رَاهِب أَهَانَ السَّلِيط فِي الذُّبَال الْمُفَتَّل فَالسَّنَا - مَقْصُور - ضَوْء الْبَرْق. وَالسَّنَا أَيْضًا نَبْت يُتَدَاوَى بِهِ . وَالسَّنَاء مِنْ الرِّفْعَة مَمْدُود. وَكَذَلِكَ قَرَأَ طَلْحَة بْن مُصَرِّف " سَنَاء " بِالْمَدِّ عَلَى الْمُبَالَغَة مِنْ شِدَّة الضَّوْء وَالصَّفَاء ; فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ اِسْم الشَّرَف. قَالَ الْمُبَرِّد : السَّنَا - مَقْصُور - وَهُوَ اللَّمْع ; فَإِذَا كَانَ مِنْ الشَّرَف وَالْحَسَب فَهُوَ مَمْدُود وَأَصْلهمَا وَاحِد وَهُوَ الِالْتِمَاع . وَقَرَأَ طَلْحَة بْن مُصَرِّف " سَنَاء بُرَقه " قَالَ أَحْمَد بْن يَحْيَى : وَهُوَ جَمْع بُرْقَة . قَالَ النَّحَّاس : الْبُرْقَة الْمِقْدَار مِنْ الْبَرْق , وَالْبُرْقَة الْمَرَّة الْوَاحِدَة . وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيّ وَابْن الْقَعْقَاع " يُذْهِب بِالْأَبْصَارِ " بِضَمِّ الْيَاء وَكَسْر الْهَاء ; مِنْ الْإِذْهَاب , وَتَكُون الْبَاء فِي " بِالْأَبْصَارِ " صِلَة زَائِدَة. الْبَاقُونَ " يَذْهَب بِالْأَبْصَارِ " بِفَتْحِ الْيَاء وَالْهَاء , وَالْبَاء لِلْإِلْصَاقِ. وَالْبَرْق دَلِيل عَلَى تَكَاثُف السَّحَاب , وَبَشِير بِقُوَّةِ الْمَطَر , وَمُحَذِّر مِنْ نُزُول الصَّوَاعِق .
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الأَبْصَارِسورة النور الآية رقم 44
قِيلَ : تَقْلِيبهمَا أَنْ يَأْتِي بِأَحَدِهِمَا بَعْد الْآخَر . وَقِيلَ : تَقْلِيبهمَا نَقْصهمَا وَزِيَادَتهمَا. وَقِيلَ : هُوَ تَغْيِير النَّهَار بِظُلْمَةِ السَّحَاب مَرَّة وَبِضَوْءِ الشَّمْس أُخْرَى ; وَكَذَا اللَّيْل مَرَّة بِظُلْمَةِ السَّحَاب وَمَرَّة بِضَوْءِ الْقَمَر ; قَالَهُ النَّقَّاش . وَقِيلَ : تَقْلِيبهمَا بِاخْتِلَافِ مَا تَقْدِر فِيهِمَا مِنْ خَيْر وَشَرّ وَنَفْع وَضُرّ .


أَيْ فِي الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَقَلُّب اللَّيْل وَالنَّهَار , وَأَحْوَال الْمَطَر وَالصَّيْف وَالشِّتَاء


أَيْ اِعْتِبَارًا


أَيْ لِأَهْلِ الْبَصَائِر مِنْ خَلْقِي .
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌسورة النور الآية رقم 45
قَرَأَ يَحْيَى بْن وَثَّاب وَالْأَعْمَش وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " وَاَللَّه خَالِق كُلّ " بِالْإِضَافَةِ . الْبَاقُونَ " خَلَقَ " عَلَى الْفِعْل . قِيلَ : إِنَّ الْمَعْنَيَيْنِ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ صَحِيحَانِ . أَخْبَرَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِخَبَرَيْنِ , وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَال فِي هَذَا : إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ أَصَحّ مِنْ الْأُخْرَى. وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ " خَلَقَ " لِشَيْءٍ مَخْصُوص , وَإِنَّمَا يُقَال خَالِق عَلَى الْعُمُوم ; كَمَا قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " الْخَالِق الْبَارِئ " [ الْحَشْر : 24 ] . وَفِي الْخُصُوص " الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض " [ الْأَنْعَام : 1 ] وَكَذَا : " هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْس وَاحِدَة " [ الْأَعْرَاف : 189 ] . فَكَذَا يَجِب أَنْ يَكُون " وَاَللَّه خَلَقَ كُلّ دَابَّة مِنْ مَاء " . وَالدَّابَّة كُلّ مَا دَبَّ عَلَى وَجْه الْأَرْض مِنْ الْحَيَوَان ; يُقَال : دَبَّ يَدِبّ فَهُوَ دَابّ ; وَالْهَاء لِلْمُبَالَغَةِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " . " مِنْ مَاء " لَمْ يَدْخُل فِي هَذَا الْجِنّ وَالْمَلَائِكَة ; لِأَنَّا لَمْ نُشَاهِدهُمْ , وَلَمْ يَثْبُت أَنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ مَاء , بَلْ فِي الصَّحِيح ( إِنَّ الْمَلَائِكَة خُلِقُوا مِنْ نُور وَالْجِنّ مِنْ نَار ) . وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ : " مِنْ مَاء " أَيْ مِنْ نُطْفَة . قَالَ النَّقَّاش : أَرَادَ أَمْنِيَة الذُّكُور . وَقَالَ جُمْهُور النَّظَرَة : أَرَادَ أَنَّ خِلْقَة كُلّ حَيَوَان فِيهَا مَاء كَمَا خُلِقَ آدَم مِنْ الْمَاء وَالطِّين ; وَعَلَى هَذَا يَتَخَرَّج قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلشَّيْخِ الَّذِي سَأَلَهُ فِي غَزَاة بَدْر : مِمَّنْ أَنْتُمَا ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( نَحْنُ مِنْ مَاء ). الْحَدِيث . وَقَالَ قَوْم : لَا يُسْتَثْنَى الْجِنّ وَالْمَلَائِكَة , بَلْ كُلّ حَيَوَان خُلِقَ مِنْ الْمَاء ; وَخُلِقَ النَّار مِنْ الْمَاء , وَخُلِقَ الرِّيح مِنْ الْمَاء ; إِذْ أَوَّل مَا خَلَقَ اللَّه تَعَالَى مِنْ الْعَالَم الْمَاء , ثُمَّ خَلَقَ مِنْهُ كُلّ شَيْء . قُلْت : وَيَدُلّ عَلَى صِحَّة هَذَا قَوْله تَعَالَى



الْمَشْي عَلَى الْبَطْن لِلْحَيَّاتِ وَالْحُوت , وَنَحْوه مِنْ الدُّود وَغَيْره . وَعَلَى الرِّجْلَيْنِ لِلْإِنْسَانِ وَالطَّيْر إِذَا مَشَى . وَالْأَرْبَع لِسَائِرِ الْحَيَوَان. وَفِي مُصْحَف أُبَيّ " وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَكْثَر " ; فَعَمَّ بِهَذِهِ الزِّيَادَة جَمِيع الْحَيَوَان كَالسَّرَطَانِ وَالْخِشَاش ; وَلَكِنَّهُ قُرْآن لَمْ يُثْبِتهُ إِجْمَاع ; لَكِنْ قَالَ النَّقَّاش : إِنَّمَا اِكْتَفَى فِي الْقَوْل بِذِكْرِ مَا يَمْشِي عَلَى أَرْبَع عَنْ ذِكْر مَا يَمْشِي عَلَى أَكْثَر ; لِأَنَّ جَمِيع الْحَيَوَان إِنَّمَا اِعْتِمَاده عَلَى أَرْبَع , وَهِيَ قِوَام مَشْيه , وَكَثْرَة الْأَرْجُل فِي بَعْضه زِيَادَة فِي خِلْقَته , لَا يَحْتَاج ذَلِكَ الْحَيَوَان فِي مَشْيه إِلَى جَمِيعهَا . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَالظَّاهِر أَنَّ تِلْكَ الْأَرْجُل الْكَثِيرَة لَيْسَتْ بَاطِلًا بَلْ هِيَ مُحْتَاج إِلَيْهَا فِي تَنَقُّل الْحَيَوَان , وَهِيَ كُلّهَا تَتَحَرَّك فِي تَصَرُّفه. وَقَالَ بَعْضهمْ : لَيْسَ فِي الْكِتَاب مَا يَمْنَع مِنْ الْمَشْي عَلَى أَكْثَر مِنْ أَرْبَع ; إِذْ لَمْ يَقُلْ لَيْسَ مِنْهَا مَا يَمْشِي عَلَى أَكْثَر مِنْ أَرْبَع. وَقِيلَ فِيهِ إِضْمَار : وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَكْثَر مِنْ أَرْبَع ; كَمَا وَقَعَ فِي مُصْحَف أُبَيّ . وَاَللَّه أَعْلَم . وَ " دَابَّة " تَشْمَل مَنْ يَعْقِل وَمَا لَا يَعْقِل ; فَغُلِّبَ مَنْ يَعْقِل لَمَّا اِجْتَمَعَ مَعَ مَنْ لَا يَعْقِل ; لِأَنَّهُ الْمُخَاطَب وَالْمُتَعَبَّد ; وَلِذَلِكَ قَالَ " فَمِنْهُمْ " . وَقَالَ : " مَنْ يَمْشِي " فَأَشَارَ بِالِاخْتِلَافِ إِلَى ثُبُوت الصَّانِع ; أَيْ لَوْلَا أَنَّ لِلْجَمِيعِ صَانِعًا مُخْتَارًا لَمَا اِخْتَلَفُوا , بَلْ كَانُوا مِنْ جِنْس وَاحِد ; وَهُوَ كَقَوْلِهِ : " يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِد وَنُفَضِّل بَعْضهَا عَلَى بَعْض فِي الْأُكُل إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَات " . [ الرَّعْد : 4 ].


" إِنَّ اللَّه عَلَى كُلّ شَيْء " مِمَّا يُرِيد خَلْقه " قَدِير " .
لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍسورة النور الآية رقم 46
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَسورة النور الآية رقم 47
يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ , يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالرَّسُولِ مِنْ غَيْر يَقِين وَلَا إِخْلَاص .


أَيْ وَيَقُولُونَ " وَأَطَعْنَا " وَكَذَّبُوا . " ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيق مِنْهُمْ مِنْ بَعْد ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ " .
وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَسورة النور الآية رقم 48
قَالَ الطَّبَرِيّ وَغَيْره : إِنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ اِسْمه بِشْر كَانَتْ بَيْنه وَبَيْن رَجُل مِنْ الْيَهُود خُصُومَة فِي أَرْض , فَدَعَاهُ الْيَهُودِيّ إِلَى التَّحَاكُم عِنْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَكَانَ الْمُنَافِق مُبْطِلًا , فَأَبَى مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ : إِنَّ مُحَمَّدًا يَحِيف عَلَيْنَا ; فَلْنُحَكِّمْ كَعْب بْن الْأَشْرَف ; فَنَزَلَتْ الْآيَة فِيهِ . وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي الْمُغِيرَة بْن وَائِل مِنْ بَنِي أُمَيَّة , كَانَ بَيْنه وَبَيْن عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ خُصُومَة فِي مَاء وَأَرْض فَامْتَنَعَ الْمُغِيرَة أَنْ يُحَاكِم عَلِيًّا إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَقَالَ : إِنَّهُ يُبْغِضنِي ; فَنَزَلَتْ الْآيَة , ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ . وَقَالَ : " لِيَحْكُم " وَلَمْ يَقُلْ لِيَحْكُمَا لِأَنَّ الْمَعْنِيّ بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَإِنَّمَا بَدَأَ بِذِكْرِ اللَّه إِعْظَامًا لِلَّهِ وَاسْتِفْتَاح كَلَام .

الْقَضَاء يَكُون لِلْمُسْلِمِينَ إِذَا كَانَ الْحُكْم بَيْن الْمُعَاهَد وَالْمُسْلِم وَلَا حَقّ لِأَهْلِ الذِّمَّة فِيهِ . وَإِذَا كَانَ بَيْن ذِمِّيَّيْنِ فَذَلِكَ إِلَيْهِمَا . فَإِنْ جَاءَا قَاضِي الْإِسْلَام فَإِنْ شَاءَ حَكَمَ وَإِنْ شَاءَ أَعْرَضَ ; كَمَا تَقَدَّمَ فِي [ الْمَائِدَة ]
وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَسورة النور الآية رقم 49
أَيْ طَائِعِينَ مُنْقَادِينَ ; لِعِلْمِهِمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام يَحْكُم بِالْحَقِّ . يُقَال : أَذْعَنَ فُلَان لِحُكْمِ فُلَان يُذْعِن إِذْعَانًا . وَقَالَ النَّقَّاش : " مُذْعِنِينَ " خَاضِعِينَ , مُجَاهِد : مُسْرِعِينَ. الْأَخْفَش وَابْن الْأَعْرَابِيّ : مُقِرِّينَ.
أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَسورة النور الآية رقم 50
شَكّ وَرَيْب .

هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى وُجُوب إِجَابَة الدَّاعِي إِلَى الْحَاكِم لِأَنَّ اللَّه سُبْحَانه ذَمَّ مَنْ دُعِيَ إِلَى رَسُوله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمه بِأَقْبَحِ الذَّمّ فَقَالَ : " أَفِي قُلُوبهمْ مَرَض " الْآيَة . قَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : وَاجِب عَلَى كُلّ مَنْ دُعِيَ إِلَى مَجْلِس الْحَاكِم أَنْ يُجِيب , مَا لَمْ يَعْلَم أَنَّ الْحَاكِم فَاسِق أَوْ عَدَاوَة بَيْن الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ . وَأَسْنَدَ الزَّهْرَاوِيّ عَنْ الْحَسَن بْن أَبِي الْحَسَن أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ دَعَاهُ خَصْمه إِلَى حَاكِم مِنْ حُكَّام الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يُجِبْ فَهُوَ ظَالِم وَلَا حَقّ لَهُ ) . ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ أَيْضًا . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا حَدِيث بَاطِل : فَأَمَّا قَوْله ( فَهُوَ ظَالِم ) فَكَلَام صَحِيح , وَأَمَّا قَوْله : ( فَلَا حَقّ لَهُ ) فَلَا يَصِحّ , وَيَحْتَمِل أَنْ يُرِيد أَنَّهُ عَلَى غَيْر الْحَقّ .


أَمْ حَدَثَ لَهُمْ شَكّ فِي نُبُوَّته وَعَدْله.



أَيْ يَجُور فِي الْحُكْم وَالظُّلْم . وَأُتِيَ بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَام لِأَنَّهُ أَشَدّ فِي التَّوْبِيخ وَأَبْلَغ فِي الذَّمّ ; كَقَوْلِ جَرِير فِي الْمَدْح : أَلَسْتُمْ خَيْر مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُون رَاحِ


أَيْ الْمُعَانِدُونَ الْكَافِرُونَ ; لِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ حُكْم اللَّه تَعَالَى .
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَسورة النور الآية رقم 51
أَيْ إِلَى كِتَاب اللَّه وَحُكْم رَسُوله .



قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَخْبَرَ بِطَاعَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار , وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِيمَا يَكْرَهُونَ ; أَيْ هَذَا قَوْلهمْ , وَهَؤُلَاءِ لَوْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ لَكَانُوا يَقُولُونَ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا . فَالْقَوْل نُصِبَ عَلَى خَبَر كَانَ , وَاسْمهَا فِي قَوْله " أَنْ يَقُولُوا " نَحْو " وَمَا كَانَ قَوْلهمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبّنَا اِغْفِرْ لَنَا ذُنُوبنَا " [ آل عِمْرَان : 147 ] . وَقِيلَ : إِنَّمَا قَوْل الْمُؤْمِنِينَ , وَكَانَ صِلَة فِي الْكَلَام ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " كَيْفَ نُكَلِّم مَنْ كَانَ فِي الْمَهْد صَبِيًّا " . [ مَرْيَم : 29 ] . وَقَرَأَ اِبْن الْقَعْقَاع " لِيَحْكُمَ بَيْنهمْ " غَيْر مُسَمَّى الْفَاعِل . عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب " إِنَّمَا كَانَ قَوْل " بِالرَّفْعِ. قَوْله تَعَالَى : " وَمَنْ يُطِعْ اللَّه وَرَسُوله وَيَخْشَ اللَّه وَيَتَّقِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ "
وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَسورة النور الآية رقم 52
فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَحَكَمَ .



قَرَأَ حَفْص " وَيَتَّقْهِ " بِإِسْكَانِ الْقَاف عَلَى نِيَّة الْجَزْم ; قَالَ الشَّاعِر : وَمَنْ يَتَّقْ فَإِنَّ اللَّه مَعَهُ وَرِزْق اللَّه مُؤْتَاب وَغَادِي وَكَسَرَهَا الْبَاقُونَ , لِأَنَّ جَزْمه بِحَذْفِ آخِره . وَأَسْكَنَ الْهَاء أَبُو عَمْرو وَأَبُو بَكْر . وَاخْتَلَسَ الْكَسْرَة يَعْقُوب وَقَالُون عَنْ نَافِع وَالْبُسْتِيّ عَنْ أَبِي عَمْرو وَحَفْص . وَأَشْبَعَ كَسْرَة الْهَاء الْبَاقُونَ .


ذَكَرَ أَسْلَم أَنَّ عُمَر بَيْنَمَا هُوَ قَائِم فِي مَسْجِد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا رَجُل مِنْ دَهَاقِين الرُّوم قَائِم عَلَى رَأْسه وَهُوَ يَقُول : أَنَا أَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَشْهَد أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه . فَقَالَ لَهُ عُمَر : مَا شَأْنك ؟ قَالَ : أَسْلَمْت لِلَّهِ . قَالَ : هَلْ لِهَذَا سَبَب ؟ قَالَ : نَعَمْ إِنِّي قَرَأْت التَّوْرَاة وَالزَّبُور وَالْإِنْجِيل وَكَثِيرًا مِنْ كُتُب الْأَنْبِيَاء , فَسَمِعْت أَسِيرًا يَقْرَأ آيَة مِنْ الْقُرْآن جَمَعَ فِيهَا كُلّ مَا فِي الْكُتُب الْمُتَقَدِّمَة , فَعَلِمْت أَنَّهُ مِنْ عِنْد اللَّه فَأَسْلَمْت . قَالَ : مَا هَذِهِ الْآيَة ؟ قَالَ قَوْله تَعَالَى : " وَمَنْ يُطِعْ اللَّه " فِي الْفَرَائِض " وَرَسُوله " فِي السُّنَن " وَيَخْشَ اللَّه " فِيمَا مَضَى مِنْ عُمُره " وَيَتَّقِهِ " فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمُره : " فَأُولَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ " وَالْفَائِز مَنْ نَجَا مِنْ النَّار وَأُدْخِلَ الْجَنَّة . فَقَالَ عُمَر : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أُوتِيت جَوَامِع الْكَلِم ) .
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لّا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَسورة النور الآية رقم 53
عَادَ إِلَى ذِكْر الْمُنَافِقِينَ , فَإِنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ كَرَاهَتهمْ لِحُكْمِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَوْهُ فَقَالُوا : وَاَللَّه لَوْ أَمَرْتنَا أَنْ نَخْرُج مِنْ دِيَارنَا وَنِسَائِنَا وَأَمْوَالنَا فَخَرَجْنَا , وَلَوْ أَمَرْتنَا بِالْجِهَادِ لَجَاهَدْنَا ; فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة. أَيْ وَأَقْسَمُوا بِاَللَّهِ أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مَعَك فِي الْمُسْتَأْنَف وَيُطِيعُونَ. " جَهْد أَيْمَانهمْ " أَيْ طَاقَة مَا قَدَرُوا أَنْ يَحْلِفُوا . وَقَالَ مُقَاتِل : مَنْ حَلَفَ بِاَللَّهِ فَقَدْ أَجْهَدَ فِي الْيَمِين . وَقَدْ مَضَى فِي " الْأَنْعَام " بَيَان هَذَا . وَ " جَهْد " مَنْصُوب عَلَى مَذْهَب الْمَصْدَر تَقْدِيره : إِقْسَامًا بَلِيغًا . " قُلْ لَا تُقْسِمُوا " وَتَمَّ الْكَلَام .


أَوْلَى بِكُمْ مِنْ أَيْمَانكُمْ ; أَوْ لِيَكُنْ مِنْكُمْ طَاعَة مَعْرُوفَة , وَقَوْل مَعْرُوف بِإِخْلَاصِ الْقَلْب , وَلَا حَاجَة إِلَى الْيَمِين. وَقَالَ مُجَاهِد : الْمَعْنَى قَدْ عَرَفْت طَاعَتكُمْ وَهِيَ الْكَذِب وَالتَّكْذِيب ; أَيْ الْمَعْرُوف مِنْكُمْ الْكَذِب دُون الْإِخْلَاص .


مِنْ طَاعَتكُمْ بِالْقَوْلِ وَمُخَالَفَتكُمْ بِالْفِعْلِ .
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُسورة النور الآية رقم 54
بِإِخْلَاصِ الطَّاعَة وَتَرْك النِّفَاق .


أَيْ فَإِنْ تَتَوَلَّوْا , فَحُذِفَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ . وَدَلَّ عَلَى هَذَا أَنَّ بَعْده " وَعَلَيْكُمْ " وَلَمْ يَقُلْ وَعَلَيْهِمْ .



أَيْ مِنْ تَبْلِيغ الرِّسَالَة .


أَيْ مِنْ الطَّاعَة لَهُ ; عَنْ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره .


جَعَلَ الِاهْتِدَاء مَقْرُونًا بِطَاعَتِهِ .


أَيْ التَّبْلِيغ " الْمُبِين " .
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَسورة النور الآية رقم 55
نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْر وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا ; قَالَهُ مَالِك. وَقِيلَ : إِنَّ سَبَب هَذِهِ الْآيَة أَنَّ بَعْض أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَكَا جَهْد مُكَافَحَة الْعَدُوّ , وَمَا كَانُوا فِيهِ مِنْ الْخَوْف عَلَى أَنْفُسهمْ , وَأَنَّهُمْ لَا يَضَعُونَ أَسْلِحَتهمْ ; فَنَزَلَتْ الْآيَة . وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة : مَكَثَ رَسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ عَشْر سِنِينَ بَعْدَمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ خَائِفًا هُوَ وَأَصْحَابه , يَدْعُونَ إِلَى اللَّه سِرًّا وَجَهْرًا , ثُمَّ أَمَرَ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَة , وَكَانُوا فِيهَا خَائِفِينَ يُصْبِحُونَ وَيُمْسُونَ فِي السِّلَاح . فَقَالَ رَجُل : يَا رَسُول اللَّه , أَمَا يَأْتِي عَلَيْنَا يَوْم نَأْمَن فِيهِ وَنَضَع السِّلَاح ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا تَلْبَثُونَ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى يَجْلِس الرَّجُل مِنْكُمْ فِي الْمَلَأ الْعَظِيم مُحْتَبِيًا لَيْسَ عَلَيْهِ حَدِيدَة ) . وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة , وَأَظْهَرَ اللَّه نَبِيّه عَلَى جَزِيرَة الْعَرَب فَوَضَعُوا السِّلَاح وَأَمِنُوا . قَالَ النَّحَّاس : فَكَانَ فِي هَذِهِ الْآيَة دَلَالَة عَلَى نُبُوَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ أَنْجَزَ ذَلِكَ الْوَعْد . قَالَ الضَّحَّاك فِي كِتَاب النَّقَّاش : هَذِهِ تَتَضَمَّن خِلَافَة أَبِي بَكْر وَعُمَر وَعُثْمَان وَعَلِيّ ; لِأَنَّهُمْ أَهْل الْإِيمَان وَعَمِلُوا الصَّالِحَات . وَقَدْ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْخِلَافَة بَعْدِي ثَلَاثُونَ ). وَإِلَى هَذَا الْقَوْل ذَهَبَ اِبْن الْعَرَبِيّ فِي أَحْكَامه , وَاخْتَارَهُ وَقَالَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى خِلَافَة الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ , وَأَنَّ اللَّه اِسْتَخْلَفَهُمْ وَرَضِيَ أَمَانَتهمْ , وَكَانُوا عَلَى الدِّين الَّذِي اِرْتَضَى لَهُمْ , لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَقَدَّمهُمْ أَحَد فِي الْفَضِيلَة إِلَى يَوْمنَا هَذَا , فَاسْتَقَرَّ الْأَمْر لَهُمْ , وَقَامُوا بِسِيَاسَةِ الْمُسْلِمِينَ , وَذَبُّوا عَنْ حَوْزَة الدِّين ; فَنَفَذَ الْوَعْد فِيهِمْ , وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْوَعْد لَهُمْ نَجَزَ , وَفِيهِمْ نَفَذَ , وَعَلَيْهِمْ وَرَدَ , فَفِيمَنْ يَكُون إِذًا , وَلَيْسَ بَعْدهمْ مِثْلهمْ إِلَى يَوْمنَا هَذَا , وَلَا يَكُون فِيمَا بَعْده . رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ . وَحَكَى هَذَا الْقَوْل الْقُشَيْرِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ سَفِينَة مَوْلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( الْخِلَافَة بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَة ثُمَّ تَكُون مُلْكًا ) . قَالَ سَفِينَة : أَمْسِكْ [ عَلَيْك ] خِلَافَة أَبِي بَكْر سَنَتَيْنِ , وَخِلَافَة عُمَر عَشْرًا , وَخِلَافَة عُثْمَان ثِنْتَيْ عَشْرَة سَنَة , وَخِلَافَة عَلِيّ سِتًّا . وَقَالَ قَوْم : هَذَا وَعْد لِجَمِيعِ الْأُمَّة فِي مُلْك الْأَرْض كُلّهَا تَحْت كَلِمَة الْإِسْلَام ; كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام : ( زُوِيَتْ لِي الْأَرْض فَرَأَيْت مَشَارِقهَا وَمَغَارِبهَا وَسَيَبْلُغُ مُلْك أُمَّتِي مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا ) . وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْل اِبْن عَطِيَّة فِي تَفْسِيره حَيْثُ قَالَ : وَالصَّحِيح فِي الْآيَة أَنَّهَا فِي اِسْتِخْلَاف الْجُمْهُور , وَاسْتِخْلَافهمْ هُوَ أَنْ يُمَلِّكهُمْ الْبِلَاد وَيَجْعَلهُمْ أَهْلهَا ; كَاَلَّذِي جَرَى فِي الشَّام وَالْعِرَاق وَخُرَاسَان وَالْمَغْرِب . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : قُلْنَا لَهُمْ هَذَا وَعْد عَامّ فِي النُّبُوَّة وَالْخِلَافَة وَإِقَامَة الدَّعْوَة وَعُمُوم الشَّرِيعَة , فَنَفَذَ الْوَعْد فِي كُلّ أَحَد بِقَدْرِهِ وَعَلَى حَاله ; حَتَّى فِي الْمُفْتِينَ وَالْقُضَاة وَالْأَئِمَّة , وَلَيْسَ لِلْخِلَافَةِ مَحَلّ تَنْفُذ فِيهِ الْمَوْعِدَة الْكَرِيمَة إِلَّا مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ الْخُلَفَاء. ثُمَّ ذَكَرَ اِعْتِرَاضًا وَانْفِصَالًا مَعْنَاهُ : فَإِنْ قِيلَ هَذَا الْأَمْر لَا يَصِحّ إِلَّا فِي أَبِي بَكْر وَحْده , فَأَمَّا عُمَر وَعُثْمَان فَقُتِلَا غِيلَة , وَعَلِيّ قَدْ نُوزِعَ فِي الْخِلَافَة . قُلْنَا : لَيْسَ فِي ضِمْن الْأَمْن السَّلَامَة مِنْ الْمَوْت بِأَيِّ وَجْه كَانَ , وَأَمَّا عَلِيّ فَلَمْ يَكُنْ نِزَاله فِي الْحَرْب مَذْهَبًا لِلْأَمْنِ , وَلَيْسَ مِنْ شَرْط الْأَمْن رَفْع الْحَرْب إِنَّمَا شَرْطه مُلْك الْإِنْسَان لِنَفْسِهِ بِاخْتِيَارِهِ , لَا كَمَا كَانَ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ . ثُمَّ قَالَ فِي آخِر كَلَامه : وَحَقِيقَة الْحَال أَنَّهُمْ كَانُوا مَقْهُورِينَ فَصَارُوا قَاهِرِينَ , وَكَانُوا مَطْلُوبِينَ فَصَارُوا طَالِبِينَ ; فَهَذَا نِهَايَة الْأَمْن وَالْعِزّ .

قُلْت : هَذِهِ الْحَال لَمْ تَخْتَصّ بِالْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ حَتَّى يُخَصُّوا بِهَا مِنْ عُمُوم الْآيَة , بَلْ شَارَكَهُمْ فِي ذَلِكَ جَمِيع الْمُهَاجِرِينَ بَلْ وَغَيْرهمْ . أَلَا تَرَى إِلَى إِغْزَاء قُرَيْش الْمُسْلِمِينَ فِي أُحُد وَغَيْرهَا وَخَاصَّة الْخَنْدَق , حَتَّى أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْ جَمِيعهمْ فَقَالَ : " إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقكُمْ وَمِنْ أَسْفَل مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَار وَبَلَغَتْ الْقُلُوب الْحَنَاجِر وَتَظُنُّونَ بِاَللَّهِ الظُّنُونَا . هُنَالِكَ اُبْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا " [ الْأَحْزَاب : 10 - 11 ] . ثُمَّ إِنَّ اللَّه رَدَّ الْكَافِرِينَ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا , وَأَمَّنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَوْرَثَهُمْ أَرْضهمْ وَدِيَارهمْ وَأَمْوَالهمْ , وَهُوَ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ : " لَيَسْتَخْلِفَنّهم فِي الْأَرْض " . وَقَوْله : " كَمَا اِسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلهمْ " يَعْنِي بَنِي إِسْرَائِيل , إِذْ أَهْلَكَ اللَّه الْجَبَابِرَة بِمِصْرَ , وَأَوْرَثَهُمْ أَرْضهمْ وَدِيَارهمْ فَقَالَ : " وَأَوْرَثْنَا الْقَوْم الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِق الْأَرْض وَمَغَارِبهَا " [ الْأَعْرَاف : 137 ] . وَهَكَذَا كَانَ الصَّحَابَة مُسْتَضْعَفِينَ خَائِفِينَ , ثُمَّ إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَّنَهُمْ وَمَكَّنَهُمْ وَمَلَّكَهُمْ , فَصَحَّ أَنَّ الْآيَة عَامَّة لِأُمَّةِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْر مَخْصُوصَة ; إِذْ التَّخْصِيص لَا يَكُون إِلَّا بِخَبَرٍ مِمَّنْ يَجِب [ لَهُ ] التَّسْلِيم , وَمِنْ الْأَصْل الْمَعْلُوم التَّمَسُّك بِالْعُمُومِ . وَجَاءَ فِي مَعْنَى تَبْدِيل خَوْفهمْ بِالْأَمْنِ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ أَصْحَابه : أَمَا يَأْتِي عَلَيْنَا يَوْم نَأْمَن فِيهِ وَنَضَع السِّلَاح ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا تَلْبَثُونَ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى يَجْلِس الرَّجُل مِنْكُمْ فِي الْمَلَأ الْعَظِيم مُحْتَبِيًا لَيْسَ عَلَيْهِ حَدِيدَة ). وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَاَللَّه لَيُتِمَّنَّ اللَّه هَذَا الْأَمْر حَتَّى يَسِير الرَّاكِب مِنْ صَنْعَاء إِلَى حَضْرَمَوْت لَا يَخَاف إِلَّا اللَّه وَالذِّئْب عَلَى غَنَمه وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ ) . خَرَّجَهُ مُسْلِم فِي صَحِيحه ; فَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَالْآيَة مُعْجِزَة النُّبُوَّة ; لِأَنَّهَا إِخْبَار عَمَّا سَيَكُونُ فَكَانَ .


فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدهمَا : يَعْنِي أَرْض مَكَّة ; لِأَنَّ الْمُهَاجِرِينَ سَأَلُوا اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ فَوُعِدُوا كَمَا وُعِدَتْ بَنُو إِسْرَائِيل ; قَالَ مَعْنَاهُ النَّقَّاش . الثَّانِي : بِلَاد الْعَرَب وَالْعَجَم . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهُوَ الصَّحِيح ; لِأَنَّ أَرْض مَكَّة مُحَرَّمَة عَلَى الْمُهَاجِرِينَ , قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَكِنَّ الْبَائِس سَعْد بْن خَوْلَة ) . يَرْثِي لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ . وَقَالَ فِي الصَّحِيح أَيْضًا : ( يَمْكُث الْمُهَاجِر بِمَكَّةَ بَعْد قَضَاء نُسُكه ثَلَاثًا ) . وَاللَّام فِي " لَيَسْتَخْلِفَنّهم " جَوَاب قَسَم مُضْمَر ; لِأَنَّ الْوَعْد قَوْل , مَجَازهَا : قَالَ اللَّه لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات وَاَللَّه لَيَسْتَخْلِفَنّهم فِي الْأَرْض فَيَجْعَلهُمْ مُلُوكهَا وَسُكَّانهَا.


يَعْنِي بَنِي إِسْرَائِيل , أَهْلَكَ الْجَبَابِرَة بِمِصْرَ وَالشَّام وَأَوْرَثَهُمْ أَرْضهمْ وَدِيَارهمْ . وَقِرَاءَة الْعَامَّة " كَمَا اِسْتَخْلَفَ " بِفَتْحِ التَّاء وَاللَّام ; لِقَوْلِهِ : " وَعَدَ " . وَقَوْله : " لَيَسْتَخْلِفَنّهم " . وَقَرَأَ عِيسَى بْن عُمَر وَأَبُو بَكْر وَالْمُفَضَّل عَنْ عَاصِم " اُسْتُخْلِفَ " بِضَمِّ التَّاء وَكَسْر اللَّام عَلَى الْفِعْل الْمَجْهُول .


وَهُوَ الْإِسْلَام ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَرَضِيت لَكُمْ الْإِسْلَام دِينًا " [ الْمَائِدَة : 3 ] وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَرَوَى سُلَيْم بْن عَامِر عَنْ الْمِقْدَاد بْن الْأَسْوَد قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( مَا عَلَى ظَهْر الْأَرْض بَيْت حَجَر وَلَا مَدَر إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّه كَلِمَة الْإِسْلَام بِعِزِّ عَزِيز أَوْ ذُلّ ذَلِيل أَمَّا بِعِزِّهِمْ فَيَجْعَلهُمْ مِنْ أَهْلهَا وَأَمَّا بِذُلِّهِمْ فَيَدِينُونَ بِهَا ) . ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ حُجَّة لِمَنْ قَالَ : إِنَّ الْمُرَاد بِالْأَرْضِ بِلَاد الْعَرَب وَالْعَجَم ; وَهُوَ الْقَوْل الثَّانِي : عَلَى مَا تَقَدَّمَ آنِفًا.


قَرَأَ اِبْن مُحَيْصِن وَابْن كَثِير وَيَعْقُوب وَأَبُو بَكْر بِالتَّخْفِيفِ ; مِنْ أَبْدَلَ , وَهِيَ قِرَاءَة الْحَسَن , وَاخْتِيَار أَبِي حَاتِم . الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ ; مِنْ بَدَّلَ , وَهِيَ اِخْتِيَار أَبِي عُبَيْد ; لِأَنَّهَا أَكْثَر مَا فِي الْقُرْآن , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " لَا تَبْدِيل لِكَلِمَاتِ اللَّه " [ يُونُس : 64 ] . وَقَالَ : " وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَة " [ النَّحْل : 101 ] وَنَحْوه , وَهُمَا لُغَتَانِ . قَالَ النَّحَّاس : وَحَكَى مُحَمَّد بْن الْجَهْم عَنْ الْفَرَّاء قَالَ : قَرَأَ عَاصِم وَالْأَعْمَش " وَلَيُبَدِّلَنّهم " مُشَدَّدَة , وَهَذَا غَلَط عَلَى عَاصِم ; وَقَدْ ذَكَرَ بَعْده غَلَطًا أَشَدّ مِنْهُ , وَهُوَ أَنَّهُ حَكَى عَنْ سَائِر النَّاس التَّخْفِيف . قَالَ النَّحَّاس : وَزَعَمَ أَحْمَد بْن يَحْيَى أَنَّ بَيْن التَّثْقِيل وَالتَّخْفِيف فَرْقًا , وَأَنَّهُ يُقَال : بَدَّلْته أَيْ غَيَّرْته , وَأَبْدَلْته أَزَلْته وَجَعَلْت غَيْره . قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا الْقَوْل صَحِيح ; كَمَا تَقُول : أَبْدِلْ لِي هَذَا الدِّرْهَم , أَيْ أَزِلْهُ وَأَعْطِنِي غَيْره . وَتَقُول : قَدْ بَدَّلْت بَعْدنَا , أَيْ غَيَّرْت ; غَيْر أَنَّهُ قَدْ يُسْتَعْمَل أَحَدهمَا مَوْضِع الْآخَر ; وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ أَكْثَر . وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي " النِّسَاء " وَالْحَمْد لِلَّهِ , وَذَكَرْنَا فِي سُورَة " إِبْرَاهِيم " الدَّلِيل مِنْ السُّنَّة عَلَى أَنَّ بَدَّلَ مَعْنَاهُ إِزَالَة الْعَيْن ; فَتَأَمَّلْهُ هُنَاكَ . وَقُرِئَ " عَسَى رَبّنَا أَنْ يُبْدِلنَا " [ الْقَلَم : 32 ] مُخَفَّفًا وَمُثَقَّلًا .



هُوَ فِي مَوْضِع الْحَال ; أَيْ فِي حَال عِبَادَتهمْ اللَّه بِالْإِخْلَاصِ. وَيَجُوز أَنْ يَكُون اِسْتِئْنَافًا عَلَى طَرِيق الثَّنَاء عَلَيْهِمْ.


فِيهِ أَرْبَعَة أَقْوَال : [ أَحَدهَا ] لَا يَعْبُدُونَ إِلَهًا غَيْرِي ; حَكَاهُ النَّقَّاش. [ الثَّانِي ] لَا يُرَاءُونَ بِعِبَادَتِي أَحَدًا. [ الثَّالِث ] لَا يَخَافُونَ غَيْرِي ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس . [ الرَّابِع ] لَا يُحِبُّونَ غَيْرِي ; قَالَهُ مُجَاهِد .


أَيْ بِهَذِهِ النِّعَم . وَالْمُرَاد كُفْرَان النِّعْمَة لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى


وَالْكَافِر بِاَللَّهِ فَاسْقِ بَعْد هَذَا الْإِنْعَام وَقَبْله.
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَسورة النور الآية رقم 56
تَقَدَّمَ ; فَأَعَادَ الْأَمْر بِالْعِبَادَةِ تَأْكِيدًا .
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُسورة النور الآية رقم 57
هَذَا تَسْلِيَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَعْد بِالنُّصْرَةِ . وَقِرَاءَة الْعَامَّة " تَحْسَبَنَّ " بِالتَّاءِ خِطَابًا. وَقَرَأَ اِبْن عَامِر وَحَمْزَة وَأَبُو حَيْوَة " يَحْسَبَنَّ " بِالْيَاءِ , بِمَعْنَى لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْفُسهمْ مُعْجِزِينَ اللَّه فِي الْأَرْض , لِأَنَّ الْحُسْبَان يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ . وَهَذَا قَوْل الزَّجَّاج . وَقَالَ الْفَرَّاء وَأَبُو عَلِيّ : يَجُوز أَنْ يَكُون الْفِعْل لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; أَيْ لَا يَحْسَبَنَّ مُحَمَّد الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ الْأَرْض. فَ " الَّذِينَ " مَفْعُول أَوَّل , وَ " مُعْجِزِينَ " مَفْعُول ثَانٍ . وَعَلَى الْقَوْل الْأَوَّل " الَّذِينَ كَفَرُوا " فَاعِل " أَنْفُسهمْ " مَفْعُول أَوَّل , وَهُوَ مَحْذُوف مُرَاد " مُعْجِزِينَ " مَفْعُول ثَانٍ . قَالَ النَّحَّاس : وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ أَهْل الْعَرَبِيَّة بَصْرِيًّا وَلَا كُوفِيًّا إِلَّا وَهُوَ يُخَطِّئ قِرَاءَة حَمْزَة ; فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُول : هِيَ لَحْن ; لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ إِلَّا بِمَفْعُولٍ وَاحِد لِيَحْسَبَنَّ . وَمِمَّنْ قَالَ هَذَا أَبُو حَاتِم . وَقَالَ الْفَرَّاء : هُوَ ضَعِيف ; وَأَجَازَهُ عَلَى ضَعْفه , عَلَى أَنَّهُ يُحْذَف الْمَفْعُول الْأَوَّل , وَقَدْ بَيَّنَّاهُ . قَالَ النَّحَّاس : وَسَمِعْت عَلِيّ بْن سُلَيْمَان يَقُول فِي هَذِهِ الْقِرَاءَة : يَكُون " الَّذِينَ كَفَرُوا " فِي مَوْضِع نَصْب . قَالَ : وَيَكُون الْمَعْنَى وَلَا يَحْسَبَنَّ الْكَافِر الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْض.

قُلْت : وَهَذَا مُوَافِق لِمَا قَالَهُ الْفَرَّاء وَأَبُو عَلِيّ ; لِأَنَّ الْفَاعِل هُنَاكَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفِي هَذَا الْقَوْل الْكَافِر .



مَعْنَاهُ فَائِتِينَ . وَقَدْ تَقَدَّمَ .


أَيْ الْمَرْجِع.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاء ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌسورة النور الآية رقم 58
فِيهَا سَبْعَة مَسَائِل : الْأُولَى : قَالَ الْعُلَمَاء , هَذِهِ الْآيَة خَاصَّة وَاَلَّتِي قَبْلهَا عَامَّة ; لِأَنَّهُ قَالَ : " يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْر بُيُوتكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلهَا " [ النُّور : 27 ] ثُمَّ خَصَّ هُنَا فَقَالَ : " لِيَسْتَأْذِنكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانكُمْ " فَخَصَّ فِي هَذِهِ الْآيَة بَعْض الْمُسْتَأْذِنِينَ , وَكَذَلِكَ أَيْضًا يُتَأَوَّل الْقَوْل فِي الْأُولَى فِي جَمِيع الْأَوْقَات عُمُومًا . وَخُصَّ فِي هَذِهِ الْآيَة بَعْض الْأَوْقَات , فَلَا يَدْخُل فِيهَا عَبْد وَلَا أَمَة ; وَغْدًا كَانَ أَوْ ذَا مَنْظَر إِلَّا بَعْد الِاسْتِئْذَان . قَالَ مُقَاتِل : نَزَلَتْ فِي أَسْمَاء بِنْت مَرْثَد , دَخَلَ عَلَيْهَا غُلَام لَهَا كَبِير , فَاشْتَكَتْ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ الْآيَة . وَقِيلَ : سَبَب نُزُولهَا دُخُول مُدْلِج عَلَى عُمَر ; وَسَيَأْتِي .

الثَّانِيَة : اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمُرَاد بِقَوْلِهِ تَعَالَى " لِيَسْتَأْذِنْكُمْ " عَلَى سِتَّة أَقْوَال

[الْأَوَّل ] أَنَّهَا مَنْسُوخَة , قَالَهُ اِبْن الْمُسَيِّب وَابْن جُبَيْر .

[ الثَّانِي ] أَنَّهَا نَدْب غَيْر وَاجِبَة ; قَالَهُ أَبُو قِلَابَة , قَالَ : إِنَّمَا أُمِرُوا بِهَذَا نَظَرًا لَهُمْ .

[ الثَّالِث ] عَنَى بِهَا النِّسَاء ; قَالَهُ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمِيّ .

[ الرَّابِع ] وَقَالَ اِبْن عُمَر : هِيَ فِي الرِّجَال دُون النِّسَاء .

[الْخَامِس ] كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا , إِذْ كَانُوا لَا غَلْق لَهُمْ وَلَا أَبْوَاب , وَلَوْ عَادَ الْحَال لَعَادَ الْوُجُوب حَكَاهُ الْمَهْدَوِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس .

[ السَّادِس ] أَنَّهَا مُحْكَمَة وَاجِبَة ثَابِتَة عَلَى الرِّجَال وَالنِّسَاء ; وَهُوَ قَوْل أَكْثَر أَهْل الْعِلْم ; مِنْهُمْ الْقَاسِم وَجَابِر بْن زَيْد وَالشَّعْبِيّ . وَأَضْعَفهَا قَوْل السُّلَمِيّ لِأَنَّ " الَّذِينَ " لَا يَكُون لِلنِّسَاءِ فِي كَلَام الْعَرَب , إِنَّمَا يَكُون لِلنِّسَاءِ - اللَّاتِي وَاَللَّوَاتِي - وَقَوْل اِبْن عُمَر يَسْتَحْسِنهُ أَهْل النَّظَر , لِأَنَّ " الَّذِينَ " لِلرِّجَالِ فِي كَلَام الْعَرَب , وَإِنْ كَانَ يَجُوز أَنْ يَدْخُل مَعَهُمْ النِّسَاء فَإِنَّمَا يَقَع ذَلِكَ بِدَلِيلٍ , وَالْكَلَام عَلَى ظَاهِره , غَيْر أَنَّ فِي إِسْنَاده لَيْث بْن أَبِي سُلَيْم . وَأَمَّا قَوْل اِبْن عَبَّاس فَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن أَبِي يَزِيد سَمِعَ اِبْن عَبَّاس يَقُول : آيَة لَمْ يُؤْمَر بِهَا أَكْثَر النَّاس آيَة الِاسْتِئْذَان وَإِنِّي لَآمُر جَارِيَتِي هَذِهِ تَسْتَأْذِن عَلَيَّ . قَالَ أَبُو دَاوُد : وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَطَاء عَنْ اِبْن عَبَّاس " يَأْمُر بِهِ " . وَرَوَى عِكْرِمَة أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَهْل الْعِرَاق قَالُوا : يَا اِبْن عَبَّاس , كَيْفَ تَرَى فِي هَذِهِ الْآيَة الَّتِي أُمِرْنَا فِيهَا بِمَا أُمِرْنَا وَلَا يَعْمَل بِهَا [ أَحَد ] , قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانكُمْ وَاَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُم مِنْكُمْ ثَلَاث مَرَّات مِنْ قَبْل صَلَاة الْفَجْر وَحِين تَضَعُونَ ثِيَابكُمْ مِنْ الظَّهِيرَة وَمِنْ بَعْد صَلَاة الْعِشَاء ثَلَاث عَوْرَات لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاح بَعْدهنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ " . قَالَ أَبُو دَاوُد : قَرَأَ الْقَعْنَبِيّ إِلَى " عَلِيم حَكِيم " قَالَ اِبْن عَبَّاس : إِنَّ اللَّه حَلِيم رَحِيم بِالْمُؤْمِنِينَ يُحِبّ السَّتْر , وَكَانَ النَّاس لَيْسَ لِبُيُوتِهِمْ سُتُور وَلَا حِجَال , فَرُبَّمَا دَخَلَ الْخَادِم أَوْ الْوَلَد أَوْ يَتِيمَة الرَّجُل وَالرَّجُل عَلَى أَهْله , فَأَمَرَهُمْ اللَّه بِالِاسْتِئْذَانِ فِي تِلْكَ الْعَوْرَات , فَجَاءَهُمْ اللَّه بِالسُّتُورِ وَالْخَيْر , فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَعْمَل بِذَلِكَ [ بَعْد ] .

قُلْت : هَذَا مَتْن حَسَن , وَهُوَ يَرُدّ قَوْل سَعِيد وَابْن جُبَيْر ; فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ دَلِيل عَلَى نَسْخ الْآيَة , وَلَكِنْ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ عَلَى حَال ثُمَّ زَالَتْ , فَإِنْ كَانَ مِثْل ذَلِكَ الْحَال فَحُكْمهَا قَائِم كَمَا كَانَ , بَلْ حُكْمهَا لِلْيَوْمِ ثَابِت فِي كَثِير مِنْ مَسَاكِن الْمُسْلِمِينَ فِي الْبَوَادِي وَالصَّحَارِي وَنَحْوهَا . وَرَوَى وَكِيع عَنْ سُفْيَان عَنْ مُوسَى بْن أَبِي عَائِشَة عَنْ الشَّعْبِيّ " يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانكُمْ " قَالَ : لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ. قُلْت : إِنَّ النَّاس لَا يَعْمَلُونَ بِهَا ; قَالَ : اللَّه عَزَّ وَجَلَّ الْمُسْتَعَان.

الثَّالِثَة : قَالَ بَعْض أَهْل الْعِلْم : إِنَّ الِاسْتِئْذَان ثَلَاثًا مَأْخُوذ مِنْ قَوْل تَعَالَى : " يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانكُمْ وَاَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُم مِنْكُمْ ثَلَاث مَرَّات " قَالَ يَزِيد : ثَلَاث دَفَعَات . قَالَ : فَوَرَدَ الْقُرْآن فِي الْمَمَالِيك وَالصِّبْيَان , وَسُنَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَمِيع . قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : مَا قَالَهُ مِنْ هَذَا وَإِنْ كَانَ لَهُ وَجْه فَإِنَّهُ غَيْر مَعْرُوف عَنْ الْعُلَمَاء فِي تَفْسِير الْآيَة الَّتِي نَزَعَ بِهَا , وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورهمْ فِي قَوْله " ثَلَاث مَرَّات " أَيْ فِي ثَلَاث أَوْقَات . وَيَدُلّ عَلَى صِحَّة هَذَا الْقَوْل ذِكْره فِيهَا " مِنْ قَبْل صَلَاة الْفَجْر وَحِين تَضَعُونَ ثِيَابكُمْ مِنْ الظَّهِيرَة وَمِنْ بَعْد صَلَاة الْعِشَاء " .

الرَّابِعَة : أَدَّبَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عِبَاده فِي هَذِهِ الْآيَة بِأَنْ يَكُون الْعَبِيد إِذْ لَا بَال لَهُمْ , وَالْأَطْفَال الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُم إِلَّا أَنَّهُمْ عَقَلُوا مَعَانِي الْكَشْفَة وَنَحْوهَا , يَسْتَأْذِنُونَ عَلَى أَهْلِيهِمْ فِي هَذِهِ الْأَوْقَات الثَّلَاثَة , وَهِيَ الْأَوْقَات الَّتِي تَقْتَضِي عَادَة النَّاس الِانْكِشَاف فِيهَا وَمُلَازَمَة التَّعَرِّي . فَمَا قَبْل الْفَجْر وَقْت اِنْتِهَاء النَّوْم وَوَقْت الْخُرُوج مِنْ ثِيَاب النَّوْم وَلُبْس ثِيَاب النَّهَار . وَوَقْت الْقَائِلَة وَقْت التَّجَرُّد أَيْضًا وَهِيَ الظَّهِيرَة , لِأَنَّ النَّهَار يُظْهِر فِيهَا إِذَا عَلَا شُعَاعه وَاشْتَدَّ حَرّه . وَبَعْد صَلَاة الْعِشَاء وَقْت التَّعَرِّي لِلنَّوْمِ ; فَالتَّكَشُّف غَالِب فِي هَذِهِ الْأَوْقَات. يُرْوَى أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ غُلَامًا مِنْ الْأَنْصَار يُقَال لَهُ مُدْلِج إِلَى عُمَر بْن الْخَطَّاب ظَهِيرَة لِيَدْعُوَهُ , فَوَجَدَهُ نَائِمًا قَدْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ الْبَاب , فَدَقَّ عَلَيْهِ الْغُلَام الْبَاب فَنَادَاهُ , وَدَخَلَ , فَاسْتَيْقَظَ عُمَر وَجَلَسَ فَانْكَشَفَ مِنْهُ شَيْء , فَقَالَ عُمَر : وَدِدْت أَنَّ اللَّه نَهَى أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا وَخَدَمنَا عَنْ الدُّخُول عَلَيْنَا فِي هَذِهِ السَّاعَات إِلَّا بِإِذْنٍ ; ثُمَّ اِنْطَلَقَ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ هَذِهِ الْآيَة قَدْ أُنْزِلَتْ , فَخَرَّ سَاجِدًا شُكْرًا لِلَّهِ . وَهِيَ مَكِّيَّة .

الْخَامِسَة : " وَاَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُم مِنْكُمْ " أَيْ الَّذِينَ لَمْ يَحْتَلِمُوا مِنْ أَحْرَاركُمْ ; قَالَهُ مُجَاهِد. وَذَكَرَ إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق كَانَ يَقُول : لِيَسْتَأْذِنكُمْ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُم مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانكُمْ , عَلَى التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير , وَأَنَّ الْآيَة فِي الْإِمَاء . وَقَرَأَ الْجُمْهُور بِضَمِّ اللَّام , وَسَكَّنَهَا الْحَسَن بْن أَبِي الْحَسَن لِثِقَلِ الضَّمَّة , وَكَانَ أَبُو عَمْرو يَسْتَحْسِنهَا . وَ " ثَلَاث مَرَّات " نُصِبَ عَلَى الظَّرْف ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِالِاسْتِئْذَانِ ثَلَاثًا , إِنَّمَا أُمِرُوا بِالِاسْتِئْذَانِ فِي ثَلَاثَة مَوَاطِن , وَالظَّرْفِيَّة فِي " ثَلَاث " بَيِّنَة : مِنْ قَبْل صَلَاة الْفَجْر , وَحِين تَضَعُونَ ثِيَابكُمْ مِنْ الظَّهِيرَة , وَمِنْ بَعْد صَلَاة الْعِشَاء. وَقَدْ مَضَى مَعْنَاهُ . وَلَا يَجِب أَنْ يُسْتَأْذَن ثَلَاث مَرَّات فِي كُلّ وَقْت.

السَّادِسَة : " وَمِنْ بَعْد صَلَاة الْعِشَاء " يُرِيد الْعَتَمَة . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى يَقُول : ( لَا تَغْلِبَنَّكُمْ الْأَعْرَاب عَلَى اِسْم صَلَاتكُمْ أَلَا إِنَّهَا الْعِشَاء وَهُمْ يُعْتِمُونَ بِالْإِبِلِ ) . وَفِي رِوَايَة ( فَإِنَّهَا فِي كِتَاب اللَّه الْعِشَاء وَإِنَّهَا تُعْتِم بِحِلَابِ الْإِبِل ). وَفِي الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي بَرْزَة : كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤَخِّر الْعِشَاء. وَقَالَ أَنَس : أَخَّرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاء . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى الْعِشَاء الْأُولَى . وَفِي الصَّحِيح : فَصَلَّاهَا , يَعْنِي الْعَصْر بَيْن الْعِشَاءَيْنِ الْمَغْرِب وَالْعِشَاء . وَفِي الْمُوَطَّأ وَغَيْره : ( وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَة وَالصُّبْح لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا ) . وَفِي مُسْلِم عَنْ جَابِر بْن سَمُرَة قَالَ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الصَّلَوَات نَحْوًا مِنْ صَلَاتكُمْ , وَكَانَ يُؤَخِّر الْعَتَمَة بَعْد صَلَاتكُمْ شَيْئًا , وَكَانَ يَخِفّ الصَّلَاة . وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ : وَهَذِهِ أَخْبَار مُتَعَارِضَة , لَا يُعْلَم مِنْهَا الْأَوَّل مِنْ الْآخِر بِالتَّارِيخِ , وَنَهْيه عَلَيْهِ السَّلَام عَنْ تَسْمِيَة الْمَغْرِب عِشَاء وَعَنْ تَسْمِيَة الْعِشَاء عَتَمَة ثَابِت , فَلَا مَرَدّ لَهُ مِنْ أَقْوَال الصَّحَابَة فَضْلًا عَمَّنْ عَدَاهُمْ . وَقَدْ كَانَ اِبْن عُمَر يَقُول : مَنْ قَالَ صَلَاة الْعَتَمَة فَقَدْ أَثِمَ . وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم قَالَ مَالِك : " وَمِنْ بَعْد صَلَاة الْعِشَاء " فَاَللَّه سَمَّاهَا صَلَاة الْعِشَاء فَأَحَبَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُسَمَّى بِمَا سَمَّاهَا اللَّه تَعَالَى بِهِ وَيُعَلِّمهَا الْإِنْسَان أَهْله وَوَلَده , وَلَا يُقَال عَتَمَة إِلَّا عِنْد خِطَاب مَنْ لَا يَفْهَم وَقَدْ قَالَ حَسَّان : وَكَانَتْ لَا يَزَال بِهَا أَنِيس خِلَال مُرُوجهَا نَعَم وَشَاء فَدَعْ هَذَا وَلَكِنْ مِنْ لَطِيف يُؤَرِّقنِي إِذَا ذَهَبَ الْعِشَاء وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ هَذَا النَّهْي عَنْ اِتِّبَاع الْأَعْرَاب فِي تَسْمِيَتهمْ الْعِشَاء عَتَمَة , إِنَّمَا كَانَ لِئَلَّا يُعْدَل بِهَا عَمَّا سَمَّاهَا اللَّه تَعَالَى فِي كِتَابه إِذْ قَالَ : " وَمِنْ بَعْد صَلَاة الْعِشَاء " ; فَكَأَنَّهُ نَهْيُ إِرْشَاد إِلَى مَا هُوَ الْأَوْلَى , وَلَيْسَ عَلَى جِهَة التَّحْرِيم , وَلَا عَلَى أَنَّ تَسْمِيَتهَا الْعَتَمَة لَا يَجُوز . أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَطْلَقَ عَلَيْهَا ذَلِكَ , وَقَدْ أَبَاحَ تَسْمِيَتهَا بِذَلِكَ أَبُو بَكْر وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا . وَقِيلَ : إِنَّمَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ تَنْزِيهًا لِهَذِهِ الْعِبَادَة الشَّرِيفَة الدِّينِيَّة عَنْ أَنْ يُطْلَق عَلَيْهَا مَا هُوَ اِسْم لِفِعْلَةٍ دُنْيَوِيَّة , وَهِيَ الْحَلْبَة الَّتِي كَانُوا يَحْلُبُونَهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْت وَيُسَمُّونَهَا الْعَتَمَة ; وَيَشْهَد لِهَذَا قَوْله : ( فَإِنَّهَا تُعْتِم بِحِلَابِ الْإِبِل ).

السَّابِعَة : رَوَى اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه حَدَّثَنَا عُثْمَان بْن أَبِي شَيْبَة حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن عَيَّاش عَنْ عُمَارَة بْن غَزِيَّة عَنْ أَنَس بْن مَالِك عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُول : ( مَنْ صَلَّى فِي جَمَاعَة أَرْبَعِينَ لَيْلَة لَا تَفُوتهُ الرَّكْعَة الْأُولَى مِنْ صَلَاة الْعِشَاء كَتَبَ اللَّه بِهَا عِتْقًا مِنْ النَّار ) . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ عُثْمَان بْن عَفَّانَ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ صَلَّى الْعِشَاء فِي جَمَاعَة فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْف اللَّيْل وَمَنْ صَلَّى الْفَجْر فِي جَمَاعَة فَكَأَنَّمَا قَامَ اللَّيْل كُلّه ). وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ فِي سُنَنه عَنْ سَبِيع أَوْ تَبِيع عَنْ كَعْب قَالَ : ( مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوء وَصَلَّى الْعِشَاء الْآخِرَة وَصَلَّى بَعْدهَا أَرْبَع رَكَعَات فَأَتَمَّ رُكُوعهنَّ وَسُجُودهنَّ وَيَعْلَم مَا يَقْتَرِئ فِيهِنَّ كُنَّ لَهُ بِمَنْزِلَةِ لَيْلَة الْقَدْر )



قَرَأَ جُمْهُور السَّبْعَة " ثَلَاث عَوْرَات " بِرَفْعِ " ثَلَاث " . وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ وَأَبُو بَكْر عَنْ عَاصِم " ثَلَاث " بِالنَّصْبِ عَلَى الْبَدَل مِنْ الظَّرْف فِي قَوْله " ثَلَاث مَرَّات " . قَالَ أَبُو حَاتِم : النَّصْب ضَعِيف مَرْدُود . وَقَالَ الْفَرَّاء : الرَّفْع أَحَبّ إِلَيَّ . قَالَ : وَإِنَّمَا اِخْتَرْت الرَّفْع لِأَنَّ الْمَعْنَى : هَذِهِ الْخِصَال ثَلَاث عَوْرَات . وَالرَّفْع عِنْد الْكِسَائِيّ بِالِابْتِدَاءِ , وَالْخَبَر عِنْده مَا بَعْده , وَلَمْ يَقُلْ بِالْعَائِدِ , وَقَالَ نَصًّا بِالِابْتِدَاءِ. قَالَ : وَالْعَوْرَات السَّاعَات الَّتِي تَكُون فِيهَا الْعَوْرَة ; إِلَّا أَنَّهُ قَرَأَ بِالنَّصْبِ , وَالنَّصْب فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدهمَا : أَنَّهُ مَرْدُود عَلَى قَوْله " ثَلَاث مَرَّات " ; وَلِهَذَا اِسْتَبْعَدَهُ الْفَرَّاء . وَقَالَ الزَّجَّاج : الْمَعْنَى لِيَسْتَأْذِنكُمْ أَوْقَات ثَلَاث عَوْرَات ; فَحُذِفَ الْمُضَاف وَأُقِيمَ الْمُضَاف إِلَيْهِ مَقَامه . وَ " عَوْرَات " جَمْع عَوْرَة , وَبَابه فِي الصَّحِيح أَنْ يَجِيء عَلَى فَعَلَات ( بِفَتْحِ الْعَيْن ) كَجَفْنَةٍ وَجَفَنَات , وَنَحْو ذَلِكَ , وَسَكَّنُوا الْعَيْن فِي الْمُعْتَلّ كَبَيْضَةٍ وَبَيْضَات ; لِأَنَّ فَتْحه دَاعٍ إِلَى اِعْتِلَاله فَلَمْ يُفْتَح لِذَلِكَ ; فَأَمَّا قَوْل الشَّاعِر : أَبُو بَيَضَات رَائِح مُتَأَوِّب رَفِيق بِمَسْحِ الْمَنْكِبَيْنِ سَبُوح [ فَشَاذّ ] .


أَيْ فِي الدُّخُول مِنْ غَيْر أَنْ يَسْتَأْذِنُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مُتَبَذِّلِينَ.



بِمَعْنَى هُمْ طَوَّافُونَ . قَالَ الْفَرَّاء : كَقَوْلِك فِي الْكَلَام إِنَّمَا هُمْ خَدَمكُمْ وَطَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ . وَأَجَازَ الْفَرَّاء نَصْب " طَوَّافِينَ " لِأَنَّهُ نَكِرَة , وَالْمُضْمَر فِي " عَلَيْكُمْ " مَعْرِفَة. وَلَا يُجِيز الْبَصْرِيُّونَ أَنْ يَكُون حَالًا مِنْ الْمُضْمَرَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي " عَلَيْكُمْ " وَفِي " بَعْضكُمْ " لِاخْتِلَافِ الْعَامِلِينَ . وَلَا يَجُوز مَرَرْت بِزَيْدٍ وَنَزَلْت عَلَى عَمْرو الْعَاقِلَيْنِ , عَلَى النَّعْت لَهُمَا . فَمَعْنَى " طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ " أَيْ يَطُوفُونَ عَلَيْكُمْ وَتَطُوفُونَ عَلَيْهِمْ ; وَمِنْهُ الْحَدِيث فِي الْهِرَّة ( إِنَّمَا هِيَ مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ أَوْ الطَّوَّافَات ) . فَمَنَعَ فِي الثَّلَاث الْعَوْرَات مِنْ دُخُولهمْ عَلَيْنَا ; لِأَنَّ حَقِيقَة الْعَوْرَة كُلّ شَيْء لَا مَانِع دُونه , وَمِنْهُ قَوْله " إِنَّ بُيُوتنَا عَوْرَة " [ الْأَحْزَاب : 13 ] أَيْ سَهْلَة لِلْمَدْخَلِ , فَبَيَّنَ الْعِلَّة الْمُوجِبَة لِلْإِذْنِ , وَهِيَ الْخَلْوَة فِي حَال الْعَوْرَة ; فَتَعَيَّنَ اِمْتِثَاله وَتَعَذَّرَ نَسْخه . ثُمَّ رَفَعَ الْجُنَاح بِقَوْلِهِ : " لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاح بَعْدهنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ "


أَيْ يَطُوف بَعْضكُمْ عَلَى بَعْض .



الْكَاف فِي مَوْضِع نَصْب ; أَيْ يُبَيِّن اللَّه لَكُمْ آيَاته الدَّالَّة عَلَى مُتَعَبَّدَاته بَيَانًا مِثْل مَا يُبَيِّن لَكُمْ هَذِهِ الْأَشْيَاء . " وَاَللَّه عَلِيم حَكِيم "
وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌسورة النور الآية رقم 59
قَرَأَ الْحَسَن " الْحُلْم " فَحَذَفَ الضَّمَّة لِثِقَلِهَا . وَالْمَعْنَى : أَنَّ الْأَطْفَال أُمِرُوا بِالِاسْتِئْذَانِ فِي الْأَوْقَات الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة ; وَأُبِيحَ لَهُمْ الْأَمْر فِي غَيْر ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَا. ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَة أَنْ يَكُونُوا إِذَا بَلَغُوا الْحُلُم عَلَى حُكْم الرِّجَال فِي الِاسْتِئْذَان فِي كُلّ وَقْت . وَهَذَا بَيَان مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لِأَحْكَامِهِ وَإِيضَاح حَلَاله وَحَرَامه , وَقَالَ " فَلْيَسْتَأْذِنُوا " وَلَمْ يَقُلْ فَلْيَسْتَأْذِنُوكم . وَقَالَ فِي الْأُولَى " لِيَسْتَأْذِنْكُمْ " لِأَنَّ الْأَطْفَال غَيْر مُخَاطَبِينَ وَلَا مُتَعَبَّدِينَ . وَقَالَ اِبْن جُرَيْج : قُلْت لِعَطَاءٍ " وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَال مِنْكُمْ الْحُلُم فَلْيَسْتَأْذِنُوا " قَالَ : وَاجِب عَلَى النَّاس أَنْ يَسْتَأْذِنُوا إِذَا اِحْتَلَمُوا , أَحْرَارًا كَانُوا أَوْ عَبِيدًا . وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق الْفَزَارِيّ : قُلْت لِلْأَوْزَاعِيّ مَا حَدّ الطِّفْل الَّذِي يَسْتَأْذِن ؟ قَالَ : أَرْبَع سِنِينَ , قَالَ : لَا يَدْخُل عَلَى اِمْرَأَة حَتَّى يَسْتَأْذِن . وَقَالَ الزُّهْرِيّ : أَيْ يَسْتَأْذِن الرَّجُل عَلَى أُمّه ; وَفِي هَذَا الْمَعْنَى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة.
وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء الَّلاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌسورة النور الآية رقم 60
الْقَوَاعِد وَاحِدَتهَا قَاعِد , بِلَا هَاء ; لِيَدُلّ حَذْفهَا عَلَى أَنَّهُ قُعُود الْكِبَر , كَمَا قَالُوا : اِمْرَأَة حَامِل ; لِيَدُلّ بِحَذْفِ الْهَاء أَنَّهُ حَمْل حَبَل. قَالَ الشَّاعِر : فَلَوْ أَنَّ مَا فِي بَطْنه بَيْن نِسْوَة حَبِلْنَ وَإِنْ كُنَّ الْقَوَاعِد عُقْرَا وَقَالُوا فِي غَيْر ذَلِكَ : قَاعِدَة فِي بَيْتهَا , وَحَامِلَة عَلَى ظَهْرهَا , بِالْهَاءِ . وَالْقَوَاعِد أَيْضًا : إِسَاس الْبَيْت وَاحِده قَاعِدَة , بِالْهَاءِ .

الْقَوَاعِد : الْعُجَّز اللَّوَاتِي قَعَدْنَ عَنْ التَّصَرُّف مِنْ السِّنّ , وَقَعَدْنَ عَنْ الْوَلَد وَالْمَحِيض ; هَذَا قَوْل أَكْثَر الْعُلَمَاء . قَالَ رَبِيعَة : هِيَ الَّتِي إِذَا رَأَيْتهَا تَسْتَقْذِرهَا مِنْ كِبَرهَا . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : اللَّاتِي قَعَدْنَ عَنْ الْوَلَد ; وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُسْتَقِيمٍ , لِأَنَّ الْمَرْأَة تَقْعُد عَنْ الْوَلَد وَفِيهَا مُسْتَمْتَع , قَالَهُ الْمَهْدَوِيّ .


إِنَّمَا خُصَّ الْقَوَاعِد بِذَلِكَ لِانْصِرَافِ الْأَنْفُس عَنْهُنَّ ; إِذْ لَا مَذْهَب لِلرِّجَالِ فِيهِنَّ , فَأُبِيحَ لَهُنَّ مَا لَمْ يُبَحْ لِغَيْرِهِنَّ , وَأُزِيلَ عَنْهُمْ كُلْفَة التَّحَفُّظ الْمُتْعِب لَهُنَّ .

قَرَأَ اِبْن مَسْعُود وَأُبَيّ وَابْن عَبَّاس " أَنْ يَضَعْنَ مِنْ ثِيَابهنَّ " بِزِيَادَةِ " مِنْ " قَالَ اِبْن عَبَّاس : وَهُوَ الْجِلْبَاب . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود أَيْضًا " مِنْ جَلَابِيبهنَّ " وَالْعَرَب تَقُول : اِمْرَأَة وَاضِع , لِلَّتِي كَبِرَتْ فَوَضَعَتْ خِمَارهَا . وَقَالَ قَوْم : الْكَبِيرَة الَّتِي أَيِسَتْ مِنْ النِّكَاح , لَوْ بَدَا شَعْرهَا فَلَا بَأْس ; فَعَلَى هَذَا يَجُوز لَهَا وَضْع الْخِمَار . وَالصَّحِيح أَنَّهَا كَالشَّابَّةِ فِي التَّسَتُّر ; إِلَّا أَنَّ الْكَبِيرَة تَضَع الْجِلْبَاب الَّذِي يَكُون فَوْق الدِّرْع وَالْخِمَار , قَالَهُ اِبْن مَسْعُود وَابْن جُبَيْر وَغَيْرهمَا.



أَيْ غَيْر مُظْهِرَات وَلَا مُتَعَرِّضَات بِالزِّينَةِ لِيُنْظَر إِلَيْهِنَّ ; فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَقْبَح الْأَشْيَاء وَأَبْعَده عَنْ الْحَقّ . وَالتَّبَرُّج : التَّكَشُّف وَالظُّهُور لِلْعُيُونِ ; وَمِنْهُ : بُرُوج مُشَيَّدَة . وَبُرُوج السَّمَاء وَالْأَسْوَار ; أَيْ لَا حَائِل دُونهَا يَسْتُرهَا . وَقِيلَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا : يَا أُمّ الْمُؤْمِنِينَ , مَا تَقُولِينَ فِي الْخِضَاب وَالصِّبَاغ وَالتَّمَائِم وَالْقُرْطَيْنِ وَالْخَلْخَال وَخَاتَم الذَّهَب وَرِقَاق الثِّيَاب ؟ فَقَالَتْ : يَا مَعْشَر النِّسَاء , قِصَّتكُنَّ قِصَّة اِمْرَأَة وَاحِدَة , أَحَلَّ اللَّه لَكُنَّ الزِّينَة غَيْر مُتَبَرِّجَات لِمَنْ لَا يَحِلّ لَكُنَّ أَنْ يَرَوْا مِنْكُنَّ مُحَرَّمًا . وَقَالَ عَطَاء : هَذَا فِي بُيُوتهنَّ , فَإِذَا خَرَجَتْ فَلَا يَحِلّ لَهَا وَضْع الْجِلْبَاب . وَعَلَى هَذَا " غَيْر مُتَبَرِّجَات " غَيْر خَارِجَات مِنْ بُيُوتهنَّ. وَعَلَى هَذَا يَلْزَم أَنْ يُقَال : إِذَا كَانَتْ فِي بَيْتهَا فَلَا بُدّ لَهَا مِنْ جِلْبَاب فَوْق الدِّرْع , وَهَذَا بَعِيد , إِلَّا إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا أَجْنَبِيّ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنْ تَحْفَظ الْجَمِيع مِنْهُنَّ , وَاسْتِعْفَافهنَّ عَنْ وَضْع الثِّيَاب وَالْتِزَامهنَّ مَا يَلْزَم الشَّبَاب أَفْضَل لَهُنَّ وَخَيْر . وَقَرَأَ اِبْن مَسْعُود " وَأَنْ يَتَعَفَّفْنَ " بِغَيْرِ سِين . ثُمَّ قِيلَ : مِنْ التَّبَرُّج أَنْ تَلْبَس الْمَرْأَة ثَوْبَيْنِ رَقِيقَيْنِ يَصِفَانِهَا . رَوَى الصَّحِيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( صِنْفَانِ مِنْ أَهْل النَّار لَمْ أَرَهُمَا قَوْم مَعَهُمْ سِيَاط كَأَذْنَابِ الْبَقَر يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاس وَنِسَاء كَاسِيَات عَارِيَات مُمِيلَات مَائِلَات رُءُوسهنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْت الْمَائِلَة لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّة وَلَا يَجِدْنَ رِيحهَا وَإِنَّ رِيحهَا لَيُوجَد مِنْ مَسِيرَة كَذَا وَكَذَا ) . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَإِنَّمَا جَعَلَهُنَّ كَاسِيَات لِأَنَّ الثِّيَاب عَلَيْهِنَّ , وَإِنَّمَا وَصَفَهُنَّ بِأَنَّهُنَّ عَارِيَات لِأَنَّ الثَّوْب إِذَا رَقَّ يَصِفهُنَّ , وَيُبْدِي مَحَاسِنهنَّ ; وَذَلِكَ حَرَام.

قُلْت : هَذَا أَحَد التَّأْوِيلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الْمَعْنَى . وَالثَّانِي : أَنَّهُنَّ كَاسِيَات مِنْ الثِّيَاب عَارِيَات مِنْ لِبَاس التَّقْوَى الَّذِي قَالَ اللَّه تَعَالَى فِيهِ : " وَلِبَاس التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْر " . وَأَنْشَدُوا : إِذَا الْمَرْء لَمْ يَلْبَس ثِيَاب مِنْ التُّقَى تَقَلَّبَ عُرْيَانًا وَإِنْ كَانَ كَاسِيَا وَخَيْر لِبَاس الْمَرْء طَاعَة رَبّه وَلَا خَيْر فِيمَنْ كَانَ لِلَّهِ عَاصِيَا وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( بَيْنَا أَنَا نَائِم رَأَيْت النَّاس يُعْرَضُونَ عَلَيَّ وَعَلَيْهِمْ قُمُص مِنْهَا مَا يَبْلُغ الثُّدِيّ وَمِنْهَا مَا دُون ذَلِكَ وَمَرَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَعَلَيْهِ قَمِيص يَجُرّهُ ) قَالُوا : مَاذَا أَوَّلْت ذَلِكَ يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : ( الدِّين ) . فَتَأْوِيله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَمِيص بِالدِّينِ مَأْخُوذ مِنْ قَوْله تَعَالَى : " وَلِبَاس التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْر " . وَالْعَرَب تُكَنِّي عَنْ الْفَضْل وَالْعَفَاف بِالثِّيَابِ ; كَمَا قَالَ شَاعِرهمْ : ثِيَاب بَنِي عَوْف طَهَارَى نَقِيَّة وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُثْمَانَ : ( إِنَّ اللَّه سَيُلْبِسُك قَمِيصًا فَإِنْ أَرَادُوك أَنْ تَخْلَعهُ فَلَا تَخْلَعهُ ) . فَعَبَّرَ عَنْ الْخِلَافَة بِالْقَمِيصِ , وَهِيَ اِسْتِعَارَة حَسَنَة مَعْرُوفَة .

قُلْت : هَذَا التَّأْوِيل أَصَحّ التَّأْوِيلَيْنِ , وَهُوَ اللَّائِق بِهِنَّ فِي هَذِهِ الْأَزْمَان , وَخَاصَّة الشَّبَاب , فَإِنَّهُنَّ يَتَزَيَّنَّ وَيَخْرُجْنَ مُتَبَرِّجَات ; فَهُنَّ كَاسِيَات بِالثِّيَابِ عَارِيَات مِنْ التَّقْوَى حَقِيقَة , ظَاهِرًا وَبَاطِنًا , حَيْثُ تُبْدِي زِينَتهَا , وَلَا تُبَالِي بِمَنْ يَنْظُر إِلَيْهَا , بَلْ ذَلِكَ مَقْصُودهنَّ , وَذَلِكَ مُشَاهَد فِي الْوُجُود مِنْهُنَّ , فَلَوْ كَانَ عِنْدهنَّ شَيْء مِنْ التَّقْوَى لَمَا فَعَلْنَ ذَلِكَ , وَلَمْ يَعْلَم أَحَد مَا هُنَالِكَ . وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا التَّأْوِيل مَا ذُكِرَ مِنْ وَصْفهنَّ فِي بَقِيَّة الْحَدِيث فِي قَوْله : ( رُؤْسهنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْت ) . وَالْبُخْت ضَرْب مِنْ الْإِبِل عِظَام الْأَجْسَام , عِظَام الْأَسْنِمَة ; شَبَّهَ رُءُوسهنَّ بِهَا لَمَّا رَفَعْنَ مِنْ ضَفَائِر شُعُورهنَّ عَلَى أَوْسَاط رُءُوسهنَّ . وَهَذَا مُشَاهَد مَعْلُوم , وَالنَّاظِر إِلَيْهِنَّ مَلُوم . قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا تَرَكْت بَعْدِي فِتْنَة أَضَرّ عَلَى الرِّجَال مِنْ النِّسَاء ). خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ .
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3