الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4
قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَسورة الأنبياء الآية رقم 61
فِيهِ مَسْأَلَة وَاحِدَة , وَهِيَ : أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَ الْخَبَر نُمْرُود وَأَشْرَاف قَوْمه , كَرِهُوا أَنْ يَأْخُذُوهُ بِغَيْرِ بَيِّنَة , فَقَالُوا : اِئْتُوا بِهِ ظَاهِرًا بِمَرْأًى مِنْ النَّاس حَتَّى يَرَوْهُ


عَلَيْهِ بِمَا قَالَ ; لِيَكُونَ ذَلِكَ حُجَّة عَلَيْهِ . وَقِيلَ : " لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ " عِقَابه فَلَا يُقْدِم أَحَد عَلَى مِثْل مَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ . أَوْ لَعَلَّ قَوْمًا " يَشْهَدُونَ " بِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ يُكَسِّر الْأَصْنَام , أَوْ " لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ " طَعْنه عَلَى آلِهَتهمْ ; لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ يَسْتَحِقّ الْعِقَاب . قُلْت : وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَا يُؤَاخَذ أَحَد بِدَعْوَى أَحَد فِيمَا تَقَدَّمَ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُن النَّاس لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ " وَهَكَذَا الْأَمْر فِي شَرْعنَا وَلَا خِلَاف فِيهِ .
قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُسورة الأنبياء الآية رقم 62
" قَالُوا أَأَنْت فَعَلْت هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيم " لَمَّا لَمْ يَكُنْ السَّمَاع عَامًا وَلَا ثَبَتَتْ الشَّهَادَة اِسْتَفْهَمُوهُ هَلْ فَعَلَ أَمْ لَا ؟ وَفِي الْكَلَام حَذْف فَجَاءَ إِبْرَاهِيم حِين أَتَى بِهِ فَقَالُوا أَأَنْت فَعَلْت هَذَا بِالْآلِهَةِ ؟ فَقَالَ لَهُمْ إِبْرَاهِيم عَلَى جِهَة الِاحْتِجَاج عَلَيْهِمْ : " بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرهمْ هَذَا " .
قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَسورة الأنبياء الآية رقم 63
فَقَالَ لَهُمْ إِبْرَاهِيم عَلَى جِهَة الِاحْتِجَاج عَلَيْهِمْ : " بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرهمْ هَذَا " . أَيْ إِنَّهُ غَارَ وَغَضِبَ مِنْ أَنْ يُعْبَد هُوَ وَيُعْبَد الصِّغَار مَعَهُ فَفَعَلَ هَذَا بِهَا لِذَلِكَ , إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ فَاسْأَلُوهُمْ . فَعَلَّقَ فِعْل الْكَبِير بِنُطْقِ الْآخَرِينَ ; تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى فَسَاد اِعْتِقَادهمْ . كَأَنَّهُ قَالَ : بَلْ هُوَ الْفَاعِل إِنْ نَطَقَ هَؤُلَاءِ . وَفِي الْكَلَام تَقْدِيم عَلَى هَذَا التَّأْوِيل فِي قَوْله : " فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ " . وَقِيلَ : أَرَادَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرهمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ . بَيَّنَ أَنَّ مَنْ لَا يَتَكَلَّم وَلَا يَعْلَم لَا يَسْتَحِقّ أَنْ يُعْبَد . وَكَانَ قَوْله مِنْ الْمَعَارِيض , وَفِي الْمَعَارِيض مَنْدُوحَة عَنْ الْكَذِب . أَيْ سَلُوهُمْ إِنْ نَطَقُوا فَإِنَّهُمْ يُصَدِّقُونَ , وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا يَنْطِقُونَ فَلَيْسَ هُوَ الْفَاعِل . وَفِي ضَمِنَ هَذَا الْكَلَام اِعْتِرَاف بِأَنَّهُ هُوَ الْفَاعِل وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح لِأَنَّهُ عَدَّدَهُ عَلَى نَفْسه , فَدَلَّ أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَج التَّعْرِيض . وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَيَتَّخِذُونَهُمْ آلِهَة مِنْ دُون اللَّه , كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ : " يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُد مَا لَا يَسْمَع وَلَا يُبْصِر " [ مَرْيَم : 42 ] - الْآيَة - فَقَالَ إِبْرَاهِيم : " بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرهمْ هَذَا " لِيَقُولُوا إِنَّهُمْ لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يَنْفَعُونَ وَلَا يَضُرُّونَ ; فَيَقُول دَلَّهُمْ فَلِمَ تَعْبُدُونَهُمْ ؟ فَتَقُوم عَلَيْهِمْ الْحُجَّة مِنْهُمْ , وَلِهَذَا يَجُوز عِنْد الْأُمَّة فَرْض الْبَاطِل مَعَ الْخَصْم حَتَّى يَرْجِع إِلَى الْحَقّ مِنْ ذَات نَفْسه ; فَإِنَّهُ أَقْرَب فِي الْحُجَّة وَأَقْطَع لِلشُّبْهَةِ , كَمَا قَالَ لِقَوْمِهِ : " هَذَا رَبِّي " وَهَذِهِ أُخْتِي وَ " إِنِّي سَقِيم " وَ " بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرهمْ هَذَا " وَقَرَأَ اِبْن السَّمَيْقَع " بَلْ فَعَلَّهُ " بِتَشْدِيدِ اللَّام بِمَعْنَى فَلَعَلَّ الْفَاعِل كَبِيرهمْ . وَقَالَ الْكِسَائِيّ : الْوَقْف عِنْد قَوْله : " بَلْ فَعَلَهُ " أَيْ فَعَلَهُ مَنْ فَعَلَهُ ; ثُمَّ يَبْتَدِئ " كَبِيرهمْ هَذَا " . وَقِيلَ : أَيْ لَمْ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُون فَعَلَهُ كَبِيرهمْ ؟ فَهَذَا إِلْزَام بِلَفْظِ الْخَبَر . أَيْ مَنْ اِعْتَقَدَ عِبَادَتهَا يَلْزَمهُ أَنْ يُثْبِت لَهَا فِعْلًا ; وَالْمَعْنَى : بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرهمْ فِيمَا يَلْزَمكُمْ .

رَوَى الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم وَالتِّرْمِذِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَمْ يَكْذِب إِبْرَاهِيم النَّبِيّ فِي شَيْء قَطُّ إِلَّا فِي ثَلَاث : " إِنِّي سَقِيم " [ الصَّافَّات : 89 ] وَقَوْله لِسَارَةَ أُخْتِي وَقَوْله " بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرهمْ " ) لَفْظ التِّرْمِذِيّ . وَقَالَ : حَدِيث حَسَن صَحِيح . وَوَقَعَ فِي الْإِسْرَاء فِي صَحِيح مُسْلِم , مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي قِصَّة إِبْرَاهِيم قَالَ : وَذَكَرَ قَوْله فِي الْكَوْكَب " هَذَا رَبِّي " . فَعَلَى هَذَا تَكُون الْكِذْبَات أَرْبَعًا إِلَّا أَنَّ الرَّسُول قَدْ نَفَى تِلْكَ بِقَوْلِهِ : ( لَمْ يَكْذِب إِبْرَاهِيم النَّبِيّ قَطُّ إِلَّا فِي ثَلَاث كِذْبَات ثِنْتَيْنِ فِي ذَات اللَّه قَوْله : " إِنِّي سَقِيم " [ الصَّافَّات : 89 ] وَقَوْله : " بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرهمْ " وَوَاحِدَة فِي شَأْن سَارَة ) الْحَدِيث لَفْظ مُسْلِم . وَإِنَّمَا لَمْ يَعُدّ عَلَيْهِ قَوْله فِي الْكَوْكَب : " هَذَا رَبِّي " [ الْأَنْعَام : 78 ] كِذْبَة وَهِيَ دَاخِلَة فِي الْكَذِب ; لِأَنَّهُ - وَاَللَّه أَعْلَم - كَانَ حِين قَالَ ذَلِكَ فِي حَال الطُّفُولَة , وَلَيْسَتْ حَالَة تَكْلِيف . أَوْ قَالَ لِقَوْمِهِ مُسْتَفْهِمًا لَهُمْ عَلَى جِهَة التَّوْبِيخ الْإِنْكَار , وَحُذِفَتْ هَمْزَة الِاسْتِفْهَام . أَوْ عَلَى طَرِيق الِاحْتِجَاج عَلَى قَوْمه : تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَا يَتَغَيَّر لَا يَصْلُح لِلرُّبُوبِيَّةِ . وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْوُجُوه كُلّهَا فِي " الْأَنْعَام " مُبَيَّنَة وَالْحَمْد لِلَّهِ .

قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ : فِي هَذَا الْحَدِيث نُكْتَة عُظْمَى تَقْصِم الظَّهْر , وَهِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ : ( لَمْ يَكْذِب إِبْرَاهِيم إِلَّا فِي ثَلَاث كِذْبَات ثِنْتَيْنِ مَا حَلَّ بِهِمَا عَنْ دِين اللَّه وَهُمَا قَوْله " إِنِّي سَقِيم " [ الصَّافَّات : 89 ] وَقَوْله " بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرهمْ " وَلَمْ يَعُدّ [ قَوْله ] هَذِهِ أُخْتِي فِي ذَات اللَّه تَعَالَى وَإِنْ كَانَ دَفَعَ بِهَا مَكْرُوهًا , وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام فِيهَا حَظّ مِنْ صِيَانَة فِرَاشه وَحِمَايَة أَهْله , لَمْ يَجْعَلهَا فِي ذَات اللَّه ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُجْعَل فِي جَنْب اللَّه وَذَاته إِلَّا الْعَمَل الْخَالِص مِنْ شَوَائِب الدُّنْيَا , وَالْمَعَارِيض الَّتِي تَرْجِع إِلَى النَّفْس إِذَا خَلَصَتْ لِلدِّينِ كَانَتْ لِلَّهِ سُبْحَانه , كَمَا قَالَ : " أَلَا لِلَّهِ الدِّين الْخَالِص " [ الزُّمَر : 3 ] . وَهَذَا لَوْ صَدَرَ مِنَّا لَكَانَ لِلَّهِ , لَكِنْ مَنْزِلَة إِبْرَاهِيم اِقْتَضَتْ هَذَا . وَاَللَّه أَعْلَم .

قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْكَذِب هُوَ الْإِخْبَار عَنْ الشَّيْء بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ . وَالْأَظْهَر أَنَّ قَوْل إِبْرَاهِيم فِيمَا أَخْبَرَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ مِنْ الْمَعَارِيض , وَإِنْ كَانَتْ مَعَارِيض وَحَسَنَات وَحُجَجًا فِي الْخَلْق وَدَلَالَات , لَكِنَّهَا أَثَّرَتْ فِي الرُّتْبَة , وَخَفَضَتْ عَنْ مُحَمَّد الْمَنْزِلَة , وَاسْتَحْيَا مِنْهَا قَائِلهَا , عَلَى مَا وَرَدَ فِي حَدِيث الشَّفَاعَة ; فَإِنَّ الْأَنْبِيَاء مِمَّا لَا يُشْفِق مِنْهُ غَيْرهمْ إِجْلَالًا لِلَّهِ ; فَإِنَّ الَّذِي كَانَ يَلِيق بِمَرْتَبَتِهِ فِي النُّبُوَّة وَالْخُلَّة , أَنْ يَصْدَع بِالْحَقِّ وَيُصَرِّح بِالْأَمْرِ كَيْفَمَا كَانَ , وَلَكِنَّهُ رُخِّصَ لَهُ فَقَبِلَ الرُّخْصَة فَكَانَ مَا كَانَ مِنْ الْقِصَّة ; وَالْقِصَّة جَاءَ فِي حَدِيث الشَّفَاعَة ( إِنَّمَا اِتَّخَذْت خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ ) بِنَصَبِ وَرَاء فِيهِمَا عَلَى الْبِنَاء كَخَمْسَةَ عَشَر , وَكَمَا قَالُوا جَارِي بَيْت بَيْت . وَوَقَعَ فِي بَعْض نُسَخ مُسْلِم ( مِنْ وَرَاء مِنْ وَرَاء ) بِإِعَادَةِ مِنْ , وَحِينَئِذٍ لَا يَجُوز الْبِنَاء عَلَى الْفَتْح , وَإِنَّمَا يُبْنَى كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا عَلَى الضَّمّ ; لِأَنَّهُ قَطَعَ عَنْ الْإِضَافَة وَنَوَى الْمُضَاف كَقَبْلُ وَبَعْد , وَإِنْ لَمْ يُنْوَ الْمُضَاف أُعْرِبَ وَنُوِّنَ غَيْر أَنَّ وَرَاء لَا يَنْصَرِف ; لِأَنَّ أَلِفه لِلتَّأْنِيثِ ; لِأَنَّهُمْ قَالُوا فِي تَصْغِيرهَا وُرَيَّة ; قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَهِيَ شَاذَّة . فَعَلَى هَذَا يَصِحّ الْفَتْح فِيهِمَا مَعَ وُجُود " مَنْ " فِيهِمَا . وَالْمَعْنَى إِنِّي كُنْت خَلِيلًا مُتَأَخِّرًا عَنْ غَيْرِي . وَيُسْتَفَاد مِنْ هَذَا أَنَّ الْخُلَّة لَمْ تَصِحّ بِكَمَالِهَا إِلَّا لِمَنْ صَحَّ لَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْم الْمَقَام الْمَحْمُود كَمَا تَقَدَّمَ . وَهُوَ نَبِيّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَسورة الأنبياء الآية رقم 64
أَيْ رَجَعَ بَعْضهمْ إِلَى بَعْض رُجُوع الْمُنْقَطِع عَنْ حُجَّته , الْمُتَفَطِّن لِصِحَّةِ حُجَّة خَصْمه



أَيْ بِعِبَادَةِ مَنْ لَا يَنْطِق بِلَفْظَةِ , وَلَا يَمْلِك لِنَفْسِهِ لَحْظَة , وَكَيْفَ يَنْفَع عَابِدِيهِ وَيَدْفَع عَنْهُمْ الْبَأْس , مَنْ لَا يَرُدّ عَنْ رَأْسه الْفَأْس .
ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَسورة الأنبياء الآية رقم 65
أَيْ عَادُوا إِلَى جَهْلهمْ وَعِبَادَتهمْ فَقَالُوا " لَقَدْ عَلِمْت مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ " وَقِيلَ : " نُكِسُوا عَلَى رُءُوسهمْ " أَيْ طَأْطَأُوا رُءُوسهمْ خَجَلًا مِنْ إِبْرَاهِيم , وَفِيهِ نَظَر ; لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ نَكَسُوا رُءُوسهمْ , بِفَتْحِ الْكَاف بَلْ قَالَ : " نُكِسُوا عَلَى رُءُوسهمْ " أَيْ رُدُّوا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي أَوَّل الْأَمْر وَكَذَا قَالَ اِبْن عَبَّاس , قَالَ : أَدْرَكَهُمْ الشَّقَاء فَعَادُوا إِلَى كُفْرهمْ .
قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْسورة الأنبياء الآية رقم 66
" قَالَ " قَاطِعًا لِمَا بِهِ يَهْذُونَ , وَمُفْحِمًا لَهُمْ فِيمَا يَتَقَوَّلُونَ " أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُون اللَّه مَا لَا يَنْفَعكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرّكُمْ . أُفّ لَكُمْ " أَيْ النَّتْن لَكُمْ " وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُون اللَّه أَفَلَا تَعْقِلُونَ " .
أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَسورة الأنبياء الآية رقم 67
" قَالَ " قَاطِعًا لِمَا بِهِ يَهْذُونَ , وَمُفْحِمًا لَهُمْ فِيمَا يَتَقَوَّلُونَ " أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُون اللَّه مَا لَا يَنْفَعكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرّكُمْ . أُفّ لَكُمْ " أَيْ النَّتْن لَكُمْ " وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُون اللَّه أَفَلَا تَعْقِلُونَ " .
قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَسورة الأنبياء الآية رقم 68
لَمَّا اِنْقَطَعُوا بِالْحُجَّةِ أَخَذَتْهُمْ عِزَّة بِإِثْمٍ وَانْصَرَفُوا إِلَى طَرِيق الْغَشْم وَالْغَلَبَة وَقَالُوا حَرِّقُوهُ . رُوِيَ أَنَّ قَائِل هَذِهِ الْمَقَالَة هُوَ رَجُل مِنْ الْأَكْرَاد مِنْ أَعْرَاب فَارِس ; أَيْ مِنْ بَادِيَتهَا ; قَالَ اِبْن عَمْرو وَمُجَاهِد وَابْن جُرَيْج . وَيُقَال : اِسْمه هيزر فَخَسَفَ اللَّه بِهِ الْأَرْض , فَهُوَ يَتَجَلْجَل فِيهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة . وَقِيلَ : بَلْ قَالَهُ مَلِكهمْ نُمْرُود .


بِتَحْرِيقِ إِبْرَاهِيم لِأَنَّهُ يَسُبّهَا وَيَعِيبهَا . وَجَاءَ فِي الْخَبَر : أَنَّ نُمْرُود بَنَى صَرْحًا طُوله ثَمَانُونَ ذِرَاعًا وَعَرْضه أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا . قَالَ اِبْن إِسْحَاق : وَجَمَعُوا الْحَطَب شَهْرًا ثُمَّ أَوْقَدُوهَا , وَاشْتَعَلَتْ وَاشْتَدَّتْ , حَتَّى إِنْ كَانَ الطَّائِر لَيَمُرّ بِجَنَبَاتِهَا فَيَحْتَرِق مِنْ شِدَّة وَهَجهَا . ثُمَّ قَيَّدُوا إِبْرَاهِيم وَوَضَعُوهُ فِي الْمَنْجَنِيق مَغْلُولًا . وَيُقَال : إِنَّ إِبْلِيس صَنَعَ لَهُمْ الْمَنْجَنِيق يَوْمئِذٍ . فَضَجَّتْ السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَنْ فِيهِنَّ مِنْ الْمَلَائِكَة وَجَمِيع الْخَلْق , إِلَّا الثَّقَلَيْنِ ضَجَّة وَاحِدَة : رَبّنَا ! إِبْرَاهِيم لَيْسَ فِي الْأَرْض أَحَد يَعْبُدك غَيْره يُحَرَّق فِيك فَأْذَنْ لَنَا فِي نُصْرَته . فَقَالَ اللَّه تَعَالَى : " إِنْ اِسْتَغَاثَ بِشَيْءٍ مِنْكُمْ أَوْ دَعَاهُ فَلْيَنْصُرْهُ فَقَدْ أَذِنْت لَهُ فِي ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَدْعُ غَيْرِي فَأَنَا أَعْلَم بِهِ وَأَنَا وَلِيّه " فَلَمَّا أَرَادُوا إِلْقَاءَهُ فِي النَّار , أَتَاهُ خُزَّان الْمَاء - وَهُوَ فِي الْهَوَاء - فَقَالُوا : يَا إِبْرَاهِيم إِنْ أَرَدْت أَخْمَدْنَا النَّار بِالْمَاءِ . فَقَالَ : لَا حَاجَة لِي إِلَيْكُمْ . وَأَتَاهُ مَلَك الرِّيح فَقَالَ : لَوْ شِئْت طَيَّرْت النَّار . فَقَالَ : لَا . ثُمَّ رَفَعَ رَأْسه إِلَى السَّمَاء فَقَالَ : " اللَّهُمَّ أَنْتَ الْوَاحِد فِي السَّمَاء وَأَنَا الْوَاحِد فِي الْأَرْض لَيْسَ أَحَد يَعْبُدك غَيْرِي حَسْبِيَ اللَّه وَنِعْمَ الْوَكِيل " . وَرَوَى أُبَيّ بْن كَعْب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إِنَّ إِبْرَاهِيم حِين قَيَّدُوهُ لِيُلْقُوهُ فِي النَّار قَالَ لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانك رَبّ الْعَالَمِينَ لَك الْحَمْد وَلَك الْمُلْك لَا شَرِيك لَك ) قَالَ : ثُمَّ رَمَوْا بِهِ فِي الْمَنْجَنِيق مِنْ مِضْرَب شَاسِع , فَاسْتَقْبَلَهُ جِبْرِيل ; فَقَالَ : يَا إِبْرَاهِيم أَلَكَ حَاجَة ؟ قَالَ : " أَمَّا إِلَيْك فَلَا " . فَقَالَ جِبْرِيل : فَاسْأَلْ رَبّك . فَقَالَ : " حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمه بِحَالِي " . فَقَالَ اللَّه تَعَالَى وَهُوَ أَصْدَق الْقَائِلِينَ :
قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَسورة الأنبياء الآية رقم 69
فَقَالَ اللَّه تَعَالَى وَهُوَ أَصْدَق الْقَائِلِينَ : " يَا نَار كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيم " قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : جَعَلَ اللَّه فِيهَا بَرْدًا يَرْفَع حَرّهَا , وَحَرًّا يَرْفَع بَرْدهَا , فَصَارَتْ سَلَامًا عَلَيْهِ . قَالَ أَبُو الْعَالِيَة : وَلَوْ لَمْ يَقُلْ " بَرْدًا وَسَلَامًا " لَكَانَ بَرْدهَا أَشَدّ عَلَيْهِ مِنْ حَرّهَا , وَلَوْ لَمْ يَقُلْ " عَلَى إِبْرَاهِيم " لَكَانَ بَرْدهَا بَاقِيًا عَلَى الْأَبَد . وَذَكَرَ بَعْض الْعُلَمَاء : أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَنْزَلَ زَرْبِيَّة مِنْ الْجَنَّة فَبَسَطَهَا فِي الْجَحِيم , وَأَنْزَلَ اللَّه مَلَائِكَة : جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وَمَلَك الْبَرْد وَمَلَك السَّلَام . وَقَالَ عَلِيّ وَابْن عَبَّاس : لَوْ لَمْ يُتْبَع بَرْدهَا سَلَامًا لَمَاتَ إِبْرَاهِيم مِنْ بَرْدهَا , وَلَمْ تَبْقَ يَوْمئِذٍ نَار إِلَّا طُفِئَتْ ظَنَّتْ أَنَّهَا تُعْنَى . قَالَ السُّدِّيّ : وَأَمَرَ اللَّه كُلّ عُود مِنْ شَجَرَة أَنْ يَرْجِع إِلَى شَجَره وَيَطْرَح ثَمَرَته . وَقَالَ كَعْب وَقَتَادَة : لَمْ تُحْرِق النَّار مِنْ إِبْرَاهِيم إِلَّا وِثَاقه . فَأَقَامَ فِي النَّار سَبْعَة أَيَّام لَمْ يَقْدِر أَحَد أَنْ يَقْرُب مِنْ النَّار , ثُمَّ جَاءُوا فَإِذَا هُوَ قَائِم يُصَلِّي . وَقَالَ الْمِنْهَال بْن عَمْرو قَالَ إِبْرَاهِيم : " مَا كُنْت أَيَّامًا قَطُّ أَنْعَم مِنِّي فِي الْأَيَّام الَّتِي كُنْت فِيهَا فِي النَّار " . وَقَالَ كَعْب وَقَتَادَة وَالزُّهْرِيّ : وَلَمْ تَبْقَ يَوْمئِذٍ دَابَّة إِلَّا أَطْفَأَتْ عَنْهُ النَّار إِلَّا الْوَزَغ فَإِنَّهَا كَانَتْ تَنْفُخ عَلَيْهِ ; فَلِذَلِكَ أَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهَا وَسَمَّاهَا فُوَيْسِقَة . وَقَالَ شُعَيْب الْحِمَّانِيّ : أُلْقِيَ إِبْرَاهِيم فِي النَّار وَهُوَ اِبْن سِتّ عَشْرَة سَنَة . وَقَالَ اِبْن جُرَيْج : أُلْقِيَ إِبْرَاهِيم فِي النَّار وَهُوَ اِبْن سِتّ وَعِشْرِينَ سَنَة . ذَكَرَ الْأَوَّل الثَّعْلَبِيّ , وَالثَّانِي الْمَاوَرْدِيّ ; فَاَللَّه أَعْلَم . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : بَرَدَتْ نِيرَان الْأَرْض جَمِيعًا فَمَا أَنْضَجَتْ كُرَاعًا , فَرَآهُ نُمْرُود مِنْ الصُّرَاح وَهُوَ جَالِس عَلَى السَّرِير يُؤْنِسهُ مَلَك الظِّلّ . فَقَالَ : نِعْمَ الرَّبّ رَبّك ! لَأُقَرِّبَنَّ لَهُ أَرْبَعَة آلَاف بَقَرَة وَكَفَّ عَنْهُ .
وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَسورة الأنبياء الآية رقم 70
أَيْ أَرَادَ نُمْرُود وَأَصْحَابه أَنْ يَمْكُرُوا بِهِ


فِي أَعْمَالهمْ , وَرَدَدْنَا مَكْرهمْ عَلَيْهِمْ بِتَسْلِيطِ أَضْعَف خَلْقنَا . قَالَ اِبْن عَبَّاس : سَلَّطَ اللَّه عَلَيْهِمْ أَضْعَف خَلْقه الْبَعُوض , فَمَا بَرِحَ نُمْرُود حَتَّى رَأَى عِظَام أَصْحَابه وَخَيْله تَلُوح , أَكَلَتْ لُحُومهمْ وَشَرِبَتْ دِمَاءَهُمْ , وَوَقَعَتْ وَاحِدَة فِي مَنْخِره فَلَمْ تَزَلْ تَأْكُل إِلَى أَنْ وَصَلَتْ دِمَاغه , وَكَانَ أَكْرَم النَّاس عَلَيْهِ الَّذِي يَضْرِب رَأْسه بِمِرْزَبَّةٍ مِنْ حَدِيد . فَأَقَامَ بِهَذَا نَحْوًا مِنْ أَرْبَعمِائَةِ سَنَة .
وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَسورة الأنبياء الآية رقم 71
يُرِيد نَجَّيْنَا إِبْرَاهِيم وَلُوطًا إِلَى أَرْض الشَّام وَكَانَا بِالْعِرَاقِ . وَكَانَ [ إِبْرَاهِيم ] عَلَيْهِ السَّلَام عَمّه ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس . وَقِيلَ : لَهَا مُبَارَكَة لِكَثْرَةِ خِصْبهَا وَثِمَارهَا وَأَنْهَارهَا ; وَلِأَنَّهَا مَعَادِن الْأَنْبِيَاء . وَالْبَرَكَة ثُبُوت الْخَيْر , وَمِنْهُ بَرَكَ الْبَعِير إِذَا لَزِمَ مَكَانه فَلَمْ يَبْرَح . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : الْأَرْض الْمُبَارَكَة مَكَّة . وَقِيلَ : بَيْت الْمَقْدِس ; لِأَنَّ مِنْهَا بَعَثَ اللَّه أَكْثَر الْأَنْبِيَاء , وَهِيَ أَيْضًا كَثِيرَة الْخِصْب وَالنُّمُوّ , عَذْبَة الْمَاء , وَمِنْهَا يَتَفَرَّق فِي الْأَرْض . قَالَ أَبُو الْعَالِيَة : لَيْسَ مَاء عَذْب إِلَّا يَهْبِط مِنْ السَّمَاء إِلَى الصَّخْرَة الَّتِي بِبَيْتِ الْمَقْدِس , ثُمَّ يَتَفَرَّق فِي الْأَرْض . وَنَحْوه عَنْ كَعْب الْأَحْبَار . وَقِيلَ : الْأَرْض الْمُبَارَكَة مِصْر .
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلا جَعَلْنَا صَالِحِينَسورة الأنبياء الآية رقم 72
أَيْ زِيَادَة ; لِأَنَّهُ دَعَا فِي إِسْحَاق وَزَيْد فِي يَعْقُوب مِنْ غَيْر دُعَاء فَكَانَ ذَلِكَ نَافِلَة ; أَيْ زِيَادَة عَلَى مَا سَأَلَ ; إِذْ قَالَ : " رَبّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ " [ الصَّافَّات : 100 ] . وَيُقَال لِوَلَدِ الْوَلَد نَافِلَة ; لِأَنَّهُ زِيَادَة عَلَى الْوَلَد .


أَيْ وَكُلًّا مِنْ إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب جَعَلْنَاهُ صَالِحًا عَامِلًا بِطَاعَةِ اللَّه . وَجَعْلُهُمْ صَالِحِينَ إِنَّمَا يَتَحَقَّق بِخَلْقِ الصَّلَاح وَالطَّاعَة لَهُمْ , وَبِخَلْقِ الْقُدْرَة عَلَى الطَّاعَة , ثُمَّ مَا يَكْتَسِبهُ الْعَبْد فَهُوَ مَخْلُوق لِلَّهِ تَعَالَى .
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَسورة الأنبياء الآية رقم 73
أَيْ رُؤَسَاء يُقْتَدَى بِهِمْ فِي الْخَيْرَات وَأَعْمَال الطَّاعَات . وَمَعْنَى " بِأَمْرِنَا " أَيْ بِمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ مِنْ الْوَحْي وَالْأَمْر وَالنَّهْي ; فَكَأَنَّهُ قَالَ يَهْدُونَ بِكِتَابِنَا وَقِيلَ : الْمَعْنَى يَهْدُونَ النَّاس إِلَى دِيننَا بِأَمْرِنَا إِيَّاهُمْ بِإِرْشَادِ الْخَلْق , وَدُعَائِهِمْ إِلَى التَّوْحِيد .


أَيْ أَنْ يَفْعَلُوا الطَّاعَات .


أَيْ مُطِيعِينَ .
وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَسورة الأنبياء الآية رقم 74
" لُوطًا " مَنْصُوب بِفِعْلٍ مُضْمَر دَلَّ عَلَيْهِ الثَّانِي ; أَيْ وَآتَيْنَا لُوطًا آتَيْنَاهُ . وَقِيلَ : أَيْ وَاذْكُرْ لُوطًا . وَالْحُكْم النُّبُوَّة , وَالْعِلْم الْمَعْرِفَة بِأَمْرِ الدِّين وَمَا يَقَع بِهِ الْحُكْم بَيْن الْخُصُوم . وَقِيلَ : " عِلْمًا " فَهْمًا ; وَالْمَعْنَى وَاحِد .


يُرِيد سَدُوم . اِبْن عَبَّاس : كَانَتْ سَبْع قُرَى , قَلَبَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام سِتَّة وَأَبْقَى وَاحِدَة لِلُوطِ وَعِيَاله , وَهِيَ زغر الَّتِي فِيهَا الثَّمَر مِنْ كُورَة فِلَسْطِين إِلَى حَدّ السَّرَاة ; وَلَهَا قُرَى كَثِيرَة إِلَى حَدّ بَحْر الْحِجَاز . وَفِي الْخَبَائِث الَّتِي كَانُوا يَعْمَلُونَهَا قَوْلَانِ : أَحَدهمَا : اللِّوَاط عَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَالثَّانِي : الضُّرَاط ; أَيْ كَانُوا يَتَضَارَطُونَ فِي نَادِيهمْ وَمَجَالِسهمْ . وَقِيلَ : الضُّرَاط وَحَذْف الْحَصْي وَسَيَأْتِي .


أَيْ خَارِجِينَ عَنْ طَاعَة اللَّه , وَالْفُسُوق الْخُرُوج وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَسورة الأنبياء الآية رقم 75
فِي النُّبُوَّة . وَقِيلَ : فِي الْإِسْلَام . وَقِيلَ : الْجَنَّة . وَقِيلَ : عَنَى بِالرَّحْمَةِ إِنْجَاءَهُ مِنْ قَوْمه
وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِسورة الأنبياء الآية رقم 76
أَيْ وَاذْكُرْ نُوحًا إِذْ نَادَى ; أَيْ دَعَا . " مِنْ قَبْل " أَيْ مِنْ قَبْل إِبْرَاهِيم وَلُوط عَلَى قَوْمه , وَهُوَ قَوْله : " رَبّ لَا تَذَر عَلَى الْأَرْض مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا " [ نُوح : 26 ] وَقَالَ لَمَّا كَذَّبُوهُ : " أَنِّي مَغْلُوب فَانْتَصِرْ " [ الْقَمَر : 10 ] .


أَيْ مِنْ الْغَرَق . وَالْكَرْب الْغَمّ الشَّدِيد " وَأَهْله " أَيْ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ .
وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَسورة الأنبياء الآية رقم 77
قَالَ أَبُو عَبْدَة : " مِنْ " بِمَعْنَى عَلَى . وَقِيلَ : الْمَعْنَى فَانْتَقَمْنَا لَهُ " مِنْ الْقَوْم الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا " . " فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ " أَيْ الصَّغِير مِنْهُمْ وَالْكَبِير .
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَسورة الأنبياء الآية رقم 78
أَيْ وَاذْكُرْهُمَا إِذْ يَحْكُمَانِ , وَلَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ " إِذْ يَحْكُمَانِ " الِاجْتِمَاع فِي الْحُكْم وَإِنْ جَمَعَهُمَا فِي الْقَوْل ; فَإِنَّ حُكْمَيْنِ عَلَى حُكْم وَاحِد لَا يَجُوز . وَإِنَّمَا حُكْم كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا اِنْفِرَاده ; وَكَانَ سُلَيْمَان الْفَاهِم لَهَا بِتَفْهِيمِ اللَّه تَعَالَى إِيَّاهُ . " فِي الْحَرْث " اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَقِيلَ : كَانَ زَرْعًا ; قَالَهُ قَتَادَة . وَقِيلَ : كَرْمًا نَبَتَتْ عَنَّا قَيْده ; قَالَهُ اِبْن مَسْعُود وَشُرَيْح . وَ " الْحَرْث " يُقَال فِيهِمَا , وَهُوَ فِي الزَّرْع أَبْعَد مِنْ الِاسْتِعَارَة .


أَيْ رَعَتْ فِيهِ لَيْلًا ; وَالنَّفْش الرَّعْي بِاللَّيْلِ . يُقَال : نَفَشَتْ بِاللَّيْلِ , وَهَمَلَتْ بِالنَّهَارِ , إِذَا رَعَتْ بِلَا رَاعٍ . وَأَنْفَشَهَا صَاحِبهَا . وَإِبِل نُفَّاش . وَفِي حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو : الْحَبَّة فِي الْجَنَّة مِثْل كَرِش الْبَعِير يَبِيت نَافِشًا ; أَيْ رَاعِيًا ; حَكَاهُ الْهَرَوِيّ . وَقَالَ اِبْن سِيدَهْ : لَا يُقَال الْهَمَل فِي الْغَنَم وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْإِبِل .


دَلِيل عَلَى أَنَّ أَقَلّ الْجَمْع اِثْنَانِ . وَقِيلَ : الْمُرَاد الْحَاكِمَانِ وَالْمَحْكُوم عَلَيْهِ ; فَلِذَلِكَ قَالَ " لِحُكْمِهِمْ " .
فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَسورة الأنبياء الآية رقم 79
أَيْ فَهَّمْنَاهُ الْقَضِيَّة وَالْحُكُومَة , فَكَنَّى عَنْهَا إِذْ سَبَقَ مَا يَدُلّ عَلَيْهَا . وَفَضْل حُكْم سُلَيْمَان حُكْم أَبِيهِ فِي أَنَّهُ أَحْرَزَ أَنْ يُبْقِي كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا عَلَى مَتَاعه , وَتَبْقَى نَفْسه طَيِّبَة بِذَلِكَ ; وَذَلِكَ أَنَّ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام رَأَى أَنْ يَدْفَع الْغَنَم إِلَى صَاحِب الْحَرْث . وَقَالَتْ فِرْقَة : بَلْ دَفَعَ الْغَنَم إِلَى صَاحِب الْحَرْث , وَالْحَرْث إِلَى صَاحِب الْغَنَم . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : فَيُشْبِه عَلَى الْقَوْل الْوَاحِد أَنَّهُ رَأَى الْغَنَم تُقَاوِم الْغَلَّة الَّتِي أُفْسِدَتْ . وَعَلَى الْقَوْل الثَّانِي رَآهَا تُقَاوِم الْحَرْث وَالْغَلَّة ; فَلَمَّا خَرَجَ الْخَصْمَانِ عَلَى سُلَيْمَان وَكَانَ يَجْلِس عَلَى الْبَاب الَّذِي يَخْرُج مِنْهُ الْخُصُوم , وَكَانُوا يَدْخُلُونَ إِلَى دَاوُد مِنْ بَاب آخَر فَقَالَ : بِمَ قَضَى بَيْنكُمَا نَبِيّ اللَّه دَاوُد ؟ فَقَالَا : قَضَى بِالْغَنَمِ لِصَاحِبِ الْحَرْث . فَقَالَ لَعَلَّ الْحُكْم غَيْر هَذَا اِنْصَرِفَا مَعِي . فَأَتَى أَبَاهُ فَقَالَ : يَا نَبِيّ اللَّه إِنَّك حَكَمْت بِكَذَا وَكَذَا وَإِنِّي رَأَيْت مَا هُوَ أَرْفَق بِالْجَمِيعِ . قَالَ : وَمَا هُوَ ؟ قَالَ : يَنْبَغِي أَنْ تَدْفَع الْغَنَم إِلَى صَاحِب الْحَرْث فَيَنْتَفِع بِأَلْبَانِهَا وَسُمُونِهَا وَأَصْوَافهَا , وَتَدْفَع الْحَرْث إِلَى صَاحِب الْغَنَم لِيَقُومَ عَلَيْهِ , فَإِذَا عَادَ الزَّرْع إِلَى حَاله الَّتِي أَصَابَتْهُ الْغَنَم فِي السَّنَة الْمُقْبِلَة , رَدَّ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا مَاله إِلَى صَاحِبه . فَقَالَ دَاوُد : وُفِّقْت يَا بُنَيَّ لَا يَقْطَع اللَّه فَهْمك . وَقَضَى بِمَا قَضَى بِهِ سُلَيْمَان ; قَالَ مَعْنَاهُ اِبْن مَسْعُود وَمُجَاهِد وَغَيْرهمَا . قَالَ الْكَلْبِيّ : قَوَّمَ دَاوُد الْغَنَم وَالْكَرْم الَّذِي أَفْسَدَتْهُ الْغَنَم فَكَانَتْ الْقِيمَتَانِ سَوَاء , فَدَفَعَ الْغَنَم إِلَى صَاحِب الْكَرْم . وَهَكَذَا قَالَ النَّحَّاس ; قَالَ : إِنَّمَا قَضَى بِالْغَنَمِ لِصَاحِبِ الْحَرْث ; لِأَنَّ ثَمَنهَا كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ . وَأَمَّا فِي حُكْم سُلَيْمَان فَقَدْ قِيلَ : كَانَتْ قِيمَة مَا نَالَ مِنْ الْغَنَم وَقِيمَة مَا أَفْسَدَتْ الْغَنَم سَوَاء أَيْضًا .




تَأَوَّلَ قَوْم أَنَّ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام لَمْ يُخْطِئ فِي هَذِهِ النَّازِلَة , بَلْ فِيهَا أُوتِيَ الْحُكْم وَالْعِلْم . وَحَمَلُوا قَوْله : " فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَان " عَلَى أَنَّهُ فَضِيلَة لَهُ عَلَى دَاوُد وَفَضِيلَته رَاجِعَة إِلَى دَاوُد , وَالْوَالِد تَسُرّهُ زِيَادَة وَلَده عَلَيْهِ . وَقَالَتْ فِرْقَة : بَلْ لِأَنَّهُ لَمْ يُصِبْ الْعَيْن الْمَطْلُوبَة فِي هَذِهِ النَّازِلَة , وَإِنَّمَا مَدَحَهُ اللَّه بِأَنَّ لَهُ حُكْمًا وَعِلْمًا يُرْجَع إِلَيْهِ فِي غَيْر هَذِهِ النَّازِلَة . وَأَمَّا فِي هَذِهِ فَأَصَابَ سُلَيْمَان وَأَخْطَأَ دَاوُد عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام , وَلَا يَمْتَنِع وُجُود الْغَلَط وَالْخَطَإِ مِنْ الْأَنْبِيَاء كَوُجُودِهِ مِنْ غَيْرهمْ , لَكِنْ لَا يُقِرُّونَ عَلَيْهِ , وَإِنْ أَقَرَّ عَلَيْهِ غَيْرهمْ . وَلَمَّا هَدَمَ الْوَلِيد كَنِيسَة دِمَشْق كَتَبَ إِلَيْهِ مَلِك الرُّوم : إِنَّك هَدَمْت الْكَنِيسَة الَّتِي رَأَى أَبُوك تَرْكهَا , فَإِنْ كُنْت مُصِيبًا فَقَدْ أَخْطَأَ أَبُوك , وَإِنْ كَانَ أَبُوك مُصِيبًا فَقَدْ أَخْطَأْت أَنْتَ ; فَأَجَابَهُ الْوَلِيد " وَدَاوُد وَسُلَيْمَان إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْث إِذْ نَقَشَتْ فِيهِ غَنَم الْقَوْم وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ . فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَان وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا " . وَقَالَ قَوْم : كَانَ دَاوُد وَسُلَيْمَان - عَلَيْهِمَا السَّلَام - نَبِيَّيْنِ يَقْضِيَانِ بِمَا يُوحَى إِلَيْهِمَا , فَحَكَمَ دَاوُد بِوَحْيٍ , وَحَكَمَ سُلَيْمَان بِوَحْيٍ نَسَخَ اللَّه بِهِ حُكْم دَاوُد , وَعَلَى هَذَا " فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَان " أَيْ بِطَرِيقِ الْوَحْي النَّاسِخ لِمَا أَوْحَى إِلَى دَاوُد , وَأَمَرَ سُلَيْمَان أَنْ يُبَلِّغ ذَلِكَ دَاوُد ; وَلِهَذَا قَالَ : " وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا " . هَذَا قَوْل جَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء وَمِنْهَا اِبْن فَوْرَك . وَقَالَ الْجُمْهُور : إِنَّ حُكْمهمَا كَانَ بِاجْتِهَادٍ وَهِيَ :

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي جَوَاز الِاجْتِهَاد عَلَى الْأَنْبِيَاء فَمَنَعَهُ قَوْم , وَجَوَّزَهُ الْمُحَقِّقُونَ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ اِسْتِحَالَة عَقْلِيَّة ; لِأَنَّهُ دَلِيل شَرْعِيّ فَلَا إِحَالَة أَنْ يَسْتَدِلّ بِهِ الْأَنْبِيَاء , كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى : إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنّك كَذَا فَاقْطَعْ بِأَنَّ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنّك هُوَ حُكْمِيّ فَبَلَّغَهُ الْأُمَّة ; فَهَذَا غَيْر مُسْتَحِيل فِي الْعَقْل . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا يَكُون دَلِيلًا إِذَا عُدِمَ النَّصّ وَهُمْ لَا يُعْدَمُونَهُ . قُلْنَا : إِذَا لَمْ يَنْزِل الْمَلَك فَقَدْ عُدِمَ النَّصّ عِنْدهمْ , وَصَارُوا فِي الْبَحْث كَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ عَنْ مَعَانِي النُّصُوص الَّتِي عِنْدهمْ . وَالْفَرْق بَيْنهمْ وَبَيْن غَيْرهمْ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ الْخَطَأ , وَعَنْ الْغَلَط , وَعَنْ التَّقْصِير فِي اِجْتِهَادهمْ , وَغَيْرهمْ لَيْسَ كَذَلِكَ . كَمَا ذَهَبَ الْجُمْهُور فِي أَنَّ جَمِيع الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِمْ مَعْصُومُونَ عَنْ الْخَطَأ وَالْغَلَط فِي اِجْتِهَادهمْ . وَذَهَبَ أَبُو عَلِيّ بْن أَبِي هُرَيْرَة مِنْ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ إِلَى أَنَّ نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْصُوص مِنْهُمْ فِي جَوَاز الْخَطَأ عَلَيْهِمْ , وَفَرَّقَ بَيْنه وَبَيْن غَيْره مِنْ الْأَنْبِيَاء أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَعْده يَسْتَدِرْك غَلَطه , وَلِذَلِكَ عَصَمَهُ اللَّه تَعَالَى مِنْهُ , وَقَدْ بُعِثَ بَعْد غَيْره مِنْ الْأَنْبِيَاء مَنْ يَسْتَدِرْك غَلَطه . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهُ عَلَى الْعُمُوم فِي جَمِيع الْأَنْبِيَاء , وَأَنَّ نَبِيّنَا وَغَيْره مِنْ الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِمْ فِي تَجْوِيز الْخَطَإِ عَلَى سَوَاء إِلَّا أَنَّهُمْ لَا يُقَرُّونَ عَلَى إِمْضَائِهِ , فَلَمْ يُعْتَبَر فِيهِ اِسْتِدْرَاك مَنْ بَعْدهمْ مِنْ الْأَنْبِيَاء . هَذَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سَأَلَتْهُ اِمْرَأَة عَنْ الْعِدَّة فَقَالَ لَهَا : ( اِعْتَدِّي حَيْثُ شِئْت ) ثُمَّ قَالَ لَهَا : ( اُمْكُثِي فِي بَيْتك حَتَّى يَبْلُغ الْكِتَاب أَجَله ) . وَقَالَ لَهُ رَجُل : أَرَأَيْت إِنْ قُتِلْت صَبْرًا مُحْتَسِبًا أَيَحْجِزُنِي عَنْ الْجَنَّة شَيْء ؟ فَقَالَ : ( لَا ) ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ : ( إِلَّا الدَّيْن كَذَا أَخْبَرَنِي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام ) .

قَالَ الْحَسَن : لَوْلَا هَذِهِ الْآيَة لَرَأَيْت الْقُضَاة هَلَكُوا , وَلَكِنَّهُ تَعَالَى أَثْنَى عَلَى سُلَيْمَان بِصَوَابِهِ , وَعَذَرَ دَاوُد بِاجْتِهَادِهِ . وَقَدْ اِخْتَلَفَ النَّاس فِي الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْفُرُوع إِذْ اِخْتَلَفُوا ; فَقَالَتْ فِرْقَة : الْحَقّ فِي طَرَف وَاحِد عِنْد اللَّه , قَدْ نَصَبَ عَلَى ذَلِكَ أَدِلَّة , وَحَمَلَ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى الْبَحْث عَنْهَا , وَالنَّظَر فِيهَا , فَمَنْ صَادَفَ الْعَيْن الْمَطْلُوبَة فِي الْمَسْأَلَة فَهُوَ الْمُصِيب عَلَى الْإِطْلَاق , وَلَهُ أَجْرَانِ فِي الِاجْتِهَاد وَأَجْر فِي الْإِصَابَة , وَمَنْ لَمْ يُصَادِفهَا فَهُوَ مُصِيب فِي اِجْتِهَاده مُخْطِئ فِي أَنَّهُ لَمْ يُصِبْ الْعَيْن فَلَهُ أَجْر وَهُوَ غَيْر مَعْذُور . و هَذَا سُلَيْمَان قَدْ صَادَفَ الْعَيْن الْمَطْلُوبَة , وَهِيَ الَّتِي فَهِمَ . وَرَأَتْ فِرْقَة أَنَّ الْعَالِم الْمُخْطِئ لَا إِثْم عَلَيْهِ فِي خَطَئِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْر مَعْذُور . وَقَالَتْ فِرْقَة : الْحَقّ فِي طَرَف وَاحِد وَلَمْ يَنْصِب اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ دَلَائِل [ بَلْ ] وَكَّلَ الْأَمْر إِلَى نَظَر الْمُجْتَهِدِينَ فَمَنْ أَصَابَهُ أَصَابَ وَمَنْ أَخْطَأَ فَهُوَ مَعْذُور مَأْجُور , وَلَمْ يَتَعَبَّد بِإِصَابَتِهِ الْعَيْن بَلْ تَعَبَّدَنَا بِالِاجْتِهَادِ فَقَطْ . وَقَالَ جُمْهُور أَهْل السُّنَّة وَهُوَ الْمَحْفُوظ عَنْ مَالِك وَأَصْحَابه رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ : إِنَّ الْحَقّ فِي مَسَائِل الْفُرُوع فِي الطَّرَفَيْنِ , وَكُلّ مُجْتَهِد مُصِيب , وَالْمَطْلُوب إِنَّمَا هُوَ الْأَفْضَل فِي ظَنّه , وَكُلّ مُجْتَهِد قَدْ أَدَّاهُ نَظَره إِلَى الْأَفْضَل فِي ظَنّه ; وَالدَّلِيل عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَة أَنَّ الصَّحَابَة فَمَنْ بَعْدهمْ قَرَّرَ بَعْضهمْ خِلَاف بَعْض , وَلَمْ يَرَ أَحَد مِنْهُمْ أَنْ يَقَع الْاِنْحِمَال عَلَى قَوْله دُون قَوْل مُخَالِفه . وَمِنْهُ رَدّ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه لِلْمَنْصُورِ أَبِي جَعْفَر عَنْ حَمْل النَّاس " الْمُوَطَّأ " ; فَإِذَا قَالَ عَالِم فِي أَمْر حَلَال فَذَلِكَ هُوَ الْحَقّ فِيمَا يَخْتَصّ بِذَلِكَ الْعَالِم عِنْد اللَّه تَعَالَى وَبِكُلِّ مَنْ أَخَذَ بِقَوْلِهِ , وَكَذَا فِي الْعَكْس . قَالُوا : وَإِنْ كَانَ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام فَهِمَ الْقَضِيَّة الْمُثْلَى وَاَلَّتِي هِيَ أَرْجَح فَالْأُولَى لَيْسَتْ بِخَطَإٍ , وَعَلَى هَذَا يَحْمِلُونَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِذَا اِجْتَهَدَ الْعَالِم فَأَخْطَأَ ) أَيْ فَأَخْطَأَ الْأَفْضَل .

رَوَى مُسْلِم وَغَيْره عَنْ عَمْرو بْن الْعَاص أَنَّهُ سَمِعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِذَا حَكَمَ الْحَاكِم فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْر ) هَكَذَا لَفْظ الْحَدِيث فِي كِتَاب مُسْلِم ( إِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ) فَبَدَأَ بِالْحُكْمِ قَبْل الِاجْتِهَاد , وَالْأَمْر بِالْعَكْسِ ; فَإِنَّ الِاجْتِهَاد مُقَدَّم عَلَى الْحُكْم , فَلَا يَجُوز الْحُكْم قَبْل الِاجْتِهَاد بِالْإِجْمَاعِ . وَإِنَّمَا مَعْنَى هَذَا الْحَدِيث : إِذَا أَرَادَ أَنْ يَحْكُم , كَمَا قَالَ : " فَإِذَا قَرَأْت الْقُرْآن فَاسْتَعِذْ " [ النَّحْل : 98 ] فَعِنْد ذَلِكَ أَرَادَ أَنْ يَجْتَهِد فِي النَّازِلَة . وَيُفِيد هَذَا صِحَّة مَا قَالَهُ الْأُصُولِيُّونَ : إِنَّ الْمُجْتَهِد يَجِب عَلَيْهِ أَنْ يُجَدِّد نَظَرًا عِنْد وُقُوع النَّازِلَة , وَلَا يَعْتَمِد عَلَى اِجْتِهَاده الْمُتَقَدِّم لِإِمْكَانِ أَنْ يَظْهَر لَهُ ثَانِيًا خِلَاف مَا ظَهَرَ لَهُ أَوَّلًا , اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُون ذَاكِرًا لِأَرْكَانِ اِجْتِهَاده , مَائِلًا إِلَيْهِ , فَلَا يَحْتَاج إِلَى اِسْتِئْنَاف نَظَر فِي أَمَارَة أُخْرَى .

إِنَّمَا يَكُون الْأَجْر لِلْحَاكِمِ الْمُخْطِئ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالِاجْتِهَادِ وَالسُّنَن وَالْقِيَاس , وَقَضَاء مَنْ مَضَى ; لِأَنَّ اِجْتِهَاده عِبَادَة وَلَا يُؤْجَر عَلَى الْخَطَأ بَلْ يُوضَع عَنْهُ الْإِثْم فَقَطْ , فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لِلِاجْتِهَادِ فَهُوَ مُتَكَلِّف لَا يُعْذَر بِالْخَطَإِ فِي الْحُكْم , بَلْ يُخَاف عَلَيْهِ أَعْظَم الْوِزْر . يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثه الْآخَر ; رَوَاهُ أَبُو دَاوُد : ( الْقُضَاة ثَلَاثَة ) الْحَدِيث . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : إِنَّمَا يُؤْجَر عَلَى اِجْتِهَاده فِي طَلَب الصَّوَاب لَا عَلَى الْخَطَأ , وَمِمَّا يُؤَيِّد هَذَا قَوْله تَعَالَى : " فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَان " الْآيَة . قَالَ الْحَسَن : أَثْنَى عَلَى سُلَيْمَان وَلَمْ يَذُمّ دَاوُد .

ذَكَرَ أَبُو التَّمَّام الْمَالِكِيّ أَنَّ مَذْهَب مَالِك أَنَّ الْحَقّ فِي وَاحِد مِنْ أَقَاوِيل الْمُجْتَهِدِينَ , وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي أَقَاوِيل الْمُخْتَلِفِينَ , وَبِهِ قَالَ أَكْثَر الْفُقَهَاء . قَالَ : وَحَكَى اِبْن الْقَاسِم أَنَّهُ سَأَلَ مَالِكًا عَنْ اِخْتِلَاف الصَّحَابَة , فَقَالَ : مُخْطِئ وَمُصِيب , وَلَيْسَ الْحَقّ فِي جَمِيع أَقَاوِيلهمْ . وَهَذَا الْقَوْل قِيلَ : هُوَ الْمَشْهُور عَنْ مَالِك وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن . وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ هَذَا بِحَدِيثِ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو ; قَالُوا : وَهُوَ نَصّ عَلَى أَنَّ فِي الْمُجْتَهِدِينَ وَفِي الْحَاكِمِينَ مُخْطِئًا وَمُصِيبًا ; قَالُوا : وَالْقَوْل بِأَنَّ كُلّ مُجْتَهِد مُصِيب يُؤَدِّي إِلَى كَوْن الشَّيْء حَلَالًا حَرَامًا , وَوَاجِبًا نَدْبًا . وَاحْتَجَّ أَهْل الْمَقَالَة الْأُولَى بِحَدِيثِ اِبْن عُمَر . قَالَ : نَادَى فِينَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم اِنْصَرَفَ مِنْ الْأَحْزَاب ( أَلَا لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَد الْعَصْر إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَة ) فَتَخَوَّفَ نَاس فَوْت الْوَقْت فَصَلَّوْا دُون بَنِي قُرَيْظَة , وَقَالَ الْآخَرُونَ : لَا نُصَلِّي إِلَّا حَيْثُ أَمَرَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ فَاتَنَا الْوَقْت , قَالَ : فَمَا عَنَّفَ وَاحِدًا مِنْ الْفَرِيقَيْنِ ; قَالُوا : فَلَوْ كَانَ أَحَد الْفَرِيقَيْنِ مُخْطِئًا لَعَيَّنَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَيُمْكِن أَنْ يُقَال : لَعَلَّهُ إِنَّمَا سَكَتَ عَنْ تَعْيِين الْمُخْطِئِينَ لِأَنَّهُ غَيْر آثِم بَلْ مَأْجُور , فَاسْتَغْنَى عَنْ تَعْيِينه . وَاَللَّه أَعْلَم . وَمَسْأَلَة الِاجْتِهَاد طَوِيلَة مُتَشَعِّبَة ; وَهَذِهِ النُّبْذَة الَّتِي ذَكَرْنَاهَا كَافِيَة فِي مَعْنَى الْآيَة , وَاَللَّه الْمُوَفِّق لِلْهِدَايَةِ .

وَيَتَعَلَّق بِالْآيَةِ فَصْل آخَر : وَهُوَ رُجُوع الْحَاكِم بَعْد قَضَائِهِ مِنْ اِجْتِهَاده إِلَى اِجْتِهَاد آخَر أَرْجَح مِنْ الْأَوَّل ; فَإِنَّ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام فَعَلَ ذَلِكَ . وَقَدْ اِخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّه تَعَالَى ; فَقَالَ عَبْد الْمَلِك وَمُطَرِّف فِي " الْوَاضِحَة " : ذَلِكَ لَهُ مَا دَامَ فِي وِلَايَته ; فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ وِلَايَة أُخْرَى فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ , وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ غَيْره مِنْ الْقُضَاة . وَهَذَا هُوَ ظَاهِر قَوْل مَالِك رَحِمَهُ اللَّه فِي " الْمُدَوَّنَة " . وَقَالَ سَحْنُون فِي رُجُوعه مِنْ اِجْتِهَاد فِيهِ قَوْل إِلَى غَيْره مِمَّا رَآهُ أَصْوَب لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ; وَقَالَهُ اِبْن عَبْد الْحَكَم . قَالَا : وَيَسْتَأْنِف الْحُكْم بِمَا قَوِيَ عِنْده . قَالَ سَحْنُون : إِلَّا أَنْ يَكُون نَسِيَ الْأَقْوَى عِنْده فِي ذَلِكَ الْوَقْت , أَوْ وَهَمَ فَحَكَمَ بِغَيْرِهِ فَلَهُ نَقْضُهُ ; وَأَمَّا وَإِنْ حَكَمَ بِحُكْمٍ هُوَ الْأَقْوَى عِنْده فِي ذَلِكَ الْوَقْت ثُمَّ قَوِيَ عِنْده غَيْره بَعْد ذَلِكَ فَلَا سَبِيل إِلَى نَقْضِ الْأَوَّل ; قَالَهُ سَحْنُون فِي كِتَاب اِبْنه . وَقَالَ أَشْهَب فِي كِتَاب اِبْن الْمَوَّاز : إِنْ كَانَ رُجُوعه إِلَى الْأَصْوَب فِي مَال فَلَهُ نَقْض الْأَوَّل , وَإِنْ كَانَ فِي طَلَاق أَوْ نِكَاح أَوْ عِتْق فَلَيْسَ لَهُ نَقْضه . قُلْت : رُجُوع الْقَاضِي عَمَّا حَكَمَ الْقَاضِي إِذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْحَقّ فِي غَيْره مَا دَامَ فِي وِلَايَته أَوْلَى . وَهَكَذَا فِي رِسَالَة عُمَر إِلَى أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا ; رَوَاهَا الدَّارَقُطْنِيّ , وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي " الْأَعْرَاف " وَلَمْ يُفَصِّل ; وَهِيَ الْحُجَّة لِظَاهِرِ قَوْل مَالِك . وَلَمْ يَخْتَلِف الْعُلَمَاء أَنَّ الْقَاضِي إِذَا قَضَى تَجَوُّزًا وَبِخِلَافِ أَهْل الْعِلْم فَهُوَ مَرْدُود , إِنْ كَانَ عَلَى وَجْه الِاجْتِهَاد ; فَأَمَّا أَنْ يَتَعَقَّب قَاضٍ حُكْم قَاضٍ آخَر فَلَا يَجُوز ذَلِكَ لَهُ لِأَنَّ فِيهِ مَضَرَّة عُظْمَى مِنْ جِهَة نَقْضِ الْأَحْكَام , وَتَبْدِيل الْحَلَال بِالْحَرَامِ , وَعَدَم ضَبْط قَوَانِين الْإِسْلَام , وَيَتَعَرَّض أَحَد مِنْ الْعُلَمَاء لِنَقْضِ مَا رَوَاهُ الْآخَر , وَإِنَّمَا كَانَ يَحْكُم بِمَا ظَهَرَ لَهُ .

قَالَ بَعْض النَّاس : إِنَّ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام لَمْ يَكُنْ أَنْفَذَ الْحُكْم وَظَهَرَ لَهُ مَا قَالَ غَيْر . وَقَالَ آخَرُونَ لَمْ يَكُنْ حُكْمًا وَإِنَّمَا كَانَتْ فُتْيَا . قُلْت : وَهَكَذَا تَئُول فِيمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَنَّهُ قَالَ : بَيْنَمَا اِمْرَأَتَانِ مَعَهُمَا اِبْنَاهُمَا جَاءَ الذِّئْب فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا , فَقَالَتْ هَذِهِ لِصَاحِبَتِهَا : إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِك أَنْتِ . وَقَالَتْ الْأُخْرَى : إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِك ; فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُد , فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى ; فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَان بْن دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَام فَأَخْبَرَتَاهُ ; فَقَالَ : اِئْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقّهُ بَيْنكُمَا ; فَقَالَتْ الصُّغْرَى : لَا - يَرْحَمك اللَّه - هُوَ اِبْنهَا ; فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى ; قَالَ أَبُو هُرَيْرَة : إِنْ سَمِعَتْ بِالسِّكِّينِ قَطُّ إِلَّا يَوْمئِذٍ , مَا كُنَّا نَقُول إِلَّا الْمُدْيَة ; أَخْرَجَهُ مُسْلِم . فَأَمَّا الْقَوْل بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ دَاوُد فُتْيَا فَهُوَ ضَعِيف ; لِأَنَّهُ كَانَ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفُتْيَاهُ حُكْم . وَأَمَّا الْقَوْل الْآخَر فَيَبْعُد ; لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : " إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْث " فَبَيَّنَ أَنَّ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا كَانَ قَدْ حَكَمَ . وَكَذَا قَوْله فِي الْحَدِيث : فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى ; يَدُلّ عَلَى إِنْفَاذ الْقَضَاء وَإِنْجَازه . وَلَقَدْ أَبْعَدَ مَنْ قَالَ : إِنَّهُ كَانَ مِنْ شَرْع دَاوُد أَنْ يَحْكُم بِهِ لِلْكُبْرَى مِنْ حَيْثُ هِيَ كُبْرَى ; لِأَنَّ الْكِبَر وَالصِّغَر طَرْد مَحْض عِنْد الدَّعَاوَى كَالطُّولِ وَالْقِصَر وَالسَّوَاد وَالْبَيَاض وَذَلِكَ لَا يُوجِب تَرْجِيح أَحَد الْمُتَدَاعِيَيْنِ حَتَّى يُحْكَم لَهُ أَوْ عَلَيْهِ لِأَجْلِ ذَلِكَ . وَهُوَ مِمَّا يَقْطَع بِهِ مَنْ فَهِمَ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرَائِع . وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُقَال : إِنَّ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا قَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى لِسَبَبٍ اِقْتَضَى عِنْده تَرْجِيح قَوْلهَا . وَلَمْ يَذْكُر فِي الْحَدِيث تَعْيِينه إِذْ لَمْ تَدْعُ حَاجَة إِلَيْهِ , فَيُمْكِن أَنَّ الْوَلَد كَانَ بِيَدِهَا , وَعَلِمَ عَجْز الْأُخْرَى عَنْ إِقَامَة الْبَيِّنَة , فَقَضَى بِهِ لَهَا إِبْقَاء لِمَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ . وَهَذَا التَّأْوِيل أَحْسَن مَا قِيلَ فِي هَذَا الْحَدِيث . وَهُوَ الَّذِي تَشْهَد لَهُ قَاعِدَة الدَّعَاوَى الشَّرْعِيَّة الَّتِي يَبْعُد اِخْتِلَاف الشَّرَائِع فِيهَا . لَا يُقَال : فَإِنْ كَانَ دَاوُد قَضَى بِسَبَبٍ شَرْعِيّ فَكَيْفَ سَاغَ لِسُلَيْمَانَ نَقْض حُكْمه ; فَالْجَوَاب : أَنَّ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام لَمْ يَتَعَرَّض لِحُكْمِ أَبِيهِ بِالنَّقْضِ , وَإِنَّمَا اِحْتَالَ حِيلَة لَطِيفَة ظَهَرَ لَهُ بِسَبَبِهَا صِدْق الصُّغْرَى ; وَهِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ : هَاتِ السِّكِّين أَشُقّهُ بَيْنكُمَا , قَالَتْ الصُّغْرَى : لَا ; فَظَهَرَ لَهُ مِنْ قَرِينه الشَّفَقَة فِي الصُّغْرَى , وَعَدَم ذَلِكَ فِي الْكُبْرَى , مَعَ مَا عَسَاهُ اِنْضَافَ إِلَى ذَلِكَ مِنْ الْقَرَائِن مَا حَصَلَ لَهُ الْعِلْم بِصِدْقِهَا فَحَكَمَ لَهَا . وَلَعَلَّهُ كَانَ مِمَّنْ سَوَّغَ لَهُ أَنْ يَحْكُم بِعِلْمِهِ . وَقَدْ تَرْجَمَ النَّسَائِيّ عَلَى هَذَا الْحَدِيث " حُكْم الْحَاكِم بِعِلْمِهِ " . وَتَرْجَمَ لَهُ أَيْضًا " السَّعَة لِلْحَاكِمِ أَنْ يَقُول لِلشَّيْءِ الَّذِي لَا يَفْعَلهُ أَفْعَل لِيَسْتَبِينَ الْحَقّ " . وَتَرْجَمَ لَهُ أَيْضًا " نَقْض الْحَاكِم لَا يَحْكُم بِهِ غَيْره مِمَّنْ هُوَ مِثْله أَوْ أَجَلّ مِنْهُ " . وَلَعَلَّ الْكُبْرَى اِعْتَرَفَتْ بِأَنَّ الْوَلَد لِلصُّغْرَى عِنْدَمَا رَأَتْ مِنْ سُلَيْمَان الْحَزْم وَالْجِدّ فِي ذَلِكَ , فَقَضَى بِالْوَلَدِ لِلصُّغْرَى ; وَيَكُون هَذَا كَمَا إِذَا حَكَمَ الْحَاكِم بِالْيَمِينِ , فَلَمَّا مَضَى لِيَحْلِفَ حَضَرَ مَنْ اِسْتَخْرَجَ مِنْ الْمُنْكَر مَا أَوْجَبَ إِقْرَاره , فَإِنَّهُ يُحْكَم عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْإِقْرَار قَبْل الْيَمِين وَبَعْدهَا , وَلَا يَكُون ذَلِكَ مِنْ بَاب نَقْضِ الْحُكْم الْأَوَّل , لَكِنْ مِنْ بَاب تَبَدُّل الْأَحْكَام بِحَسَبِ تَبَدُّل الْأَسْبَاب . وَاَللَّه أَعْلَم . وَفِي هَذَا الْحَدِيث مِنْ الْفِقْه أَنَّ الْأَنْبِيَاء سُوِّغَ لَهُمْ الْحُكْم بِالِاجْتِهَادِ ; وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ . وَفِيهِ مِنْ الْفِقْه اِسْتِعْمَال الْحُكَّام الْحِيَل الَّتِي تُسْتَخْرَج بِهَا الْحُقُوق , وَذَلِكَ يَكُون عَنْ قُوَّة الذَّكَاء وَالْفَطِنَة , وَمُمَارَسَة أَحْوَال الْخَلْق ; وَقَدْ يَكُون فِي أَهْل التَّقْوَى فِرَاسَة دِينِيَّة , وَتَوَسُّمَات نُورِيَّة , وَذَلِكَ فَضْل اللَّه يُؤْتِيه مَنْ يَشَاء . وَفِيهِ الْحُجَّة لِمَنْ يَقُول : إِنَّ الْأُمّ تُسْتَلْحَق ; وَلَيْسَ مَشْهُور مَذْهَب مَالِك , وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِع ذِكْره . وَعَلَى الْجُمْلَة فَقَضَاء سُلَيْمَان فِي هَذِهِ الْقِصَّة تَضَمَّنَهَا مَدْحه تَعَالَى لَهُ بِقَوْلِهِ : " فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَان " .

قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْل فِي الْحَرْث وَالْحُكْم فِي هَذِهِ الْوَاقِعَة فِي شَرْعنَا : أَنَّ عَلَى أَصْحَاب الْحَوَائِط حِفْظ حِيطَانهمْ وَزُرُوعهمْ بِالنَّهَارِ , ثُمَّ الضَّمَان فِي الْمِثْل بِالْمِثْلِيَّاتِ , وَبِالْقِيمَةِ فِي ذَوَات الْقِيَم . وَالْأَصْل فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة فِي شَرْعنَا مَا حَكَمَ بِهِ نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَاقَة الْبَرَاء بْن عَازِب . رَوَاهُ مَالِك عَنْ اِبْن شِهَاب عَنْ حَرَام بْن سَعْد بْن مُحَيِّصَة : أَنَّ نَاقَة لِلْبَرَاءِ دَخَلَتْ حَائِط رَجُل فَأَفْسَدَتْ فِيهِ , فَقَضَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عَلَى أَهْل الْحَوَائِط حِفْظهَا بِاللَّيْلِ , وَأَنَّ مَا أَفْسَدَتْ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ ضَامِن عَلَى أَهْلهَا . هَكَذَا رَوَاهُ جَمِيع الرُّوَاة مُرْسَلًا . وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَصْحَاب اِبْن شِهَاب عَنْ اِبْن شِهَاب , إِلَّا اِبْن عُيَيْنَة فَإِنَّهُ رَوَاهُ عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ سَعِيد وَحَرَام بْن سَعْد بْن مُحَيِّصَة : أَنَّ نَاقَة ; فَذَكَرَ مِثْله بِمَعْنَاهُ . وَرَوَاهُ اِبْن أَبِي ذِئْب عَنْ اِبْن شِهَاب أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ نَاقَة الْبَرَاء دَخَلَتْ حَائِط قَوْم ; مِثْل حَدِيث مَالِك سَوَاء , إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُر حَرَام بْن سَعْد بْن مُحَيِّصَة وَلَا غَيْره . قَالَ أَبُو عُمَر : لَمْ يَصْنَع اِبْن أَبِي ذِئْب شَيْئًا ; إِلَّا أَنَّهُ أَفْسَدَ إِسْنَاده . وَرَوَاهُ عَبْد الرَّزَّاق عَنْ مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ حَرَام بْن مُحَيِّصَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَمْ يُتَابِع عَبْد الرَّزَّاق عَلَى ذَلِكَ وَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ قَوْله عَنْ أَبِيهِ . وَرَوَاهُ اِبْن جُرَيْج عَنْ اِبْن شِهَاب قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو أُمَامَة بْن سَهْل بْن حُنَيْف أَنَّ نَاقَة دَخَلَتْ فِي حَائِط قَوْم فَأَفْسَدَتْ ; فَجَعَلَ الْحَدِيث لِابْنِ شِهَاب عَنْ أَبِي أُمَامَة , وَلَمْ يُذْكَر أَنَّ النَّاقَة كَانَتْ لِلْبَرَاءِ . وَجَائِز أَنْ يَكُون الْحَدِيث عَنْ اِبْن شِهَاب عَنْ اِبْن مُحَيِّصَة , وَعَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب , وَعَنْ أَبِي أُمَامَة - وَاَللَّه أَعْلَم - فَحَدَّثَ بِهِ عَمَّنْ شَاءَ مِنْهُمْ عَلَى مَا حَضَرَهُ وَكُلّهمْ ثِقَات . قَالَ أَبُو عُمَر : وَهَذَا الْحَدِيث وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَهُوَ حَدِيث مَشْهُور أَرْسَلَهُ الْأَئِمَّة , وَحَدَّثَ بِهِ الثِّقَات , وَاسْتَعْمَلَهُ فُقَهَاء الْحِجَاز وَتَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ , وَجَرَى فِي الْمَدِينَة الْعَمَل بِهِ , وَحَسْبك بِاسْتِعْمَالِ أَهْل الْمَدِينَة وَسَائِر أَهْل الْحِجَاز لِهَذَا الْحَدِيث .

ذَهَبَ مَالِك وَجُمْهُور الْأَئِمَّة إِلَى الْقَوْل بِحَدِيثِ الْبَرَاء , وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَجَمَاعَة مِنْ الْكُوفِيِّينَ إِلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْم مَنْسُوخ , وَأَنَّ الْبَهَائِم إِذَا أَفْسَدَتْ زَرْعًا فِي لَيْل أَوْ نَهَار أَنَّهُ لَا يَلْزَم صَاحِبهَا شَيْء , وَأُدْخِلَ فَسَادهَا فِي عُمُوم قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( جُرْح الْعَجْمَاء جُبَار ) فَقَاسَ جَمِيع أَعْمَالهَا عَلَى جُرْحهَا . وَيُقَال : إِنَّهُ مَا تَقَدَّمَ أَبَا حَنِيفَة أَحَد بِهَذَا الْقَوْل , وَلَا حُجَّة لَهُ وَلَا لِمَنْ اِتَّبَعَهُ فِي حَدِيث الْعَجْمَاء , وَكَوْنه نَاسِخًا لِحَدِيثِ الْبَرَاء وَمُعَارِضًا لَهُ ; فَإِنَّ النَّسْخ شُرُوطه مَعْدُومَة , وَالتَّعَاوُض إِنَّمَا يَصِحّ إِذَا لَمْ يُمْكِن اِسْتِعْمَال أَحَدهمَا إِلَّا بِنَفْيِ الْآخَر , وَحَدِيث ( الْعَجْمَاء جُرْحهَا جُبَار ) عُمُوم مُتَّفَق عَلَيْهِ , ثُمَّ خُصَّ مِنْهُ الزَّرْع وَالْحَوَائِط بِحَدِيثِ الْبَرَاء ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ جَاءَ عَنْهُ فِي حَدِيث وَاحِد : الْعَجْمَاء جُرْحهَا جُبَار نَهَارًا لَا لَيْلًا وَفِي الزَّرْع وَالْحَوَائِط وَالْحَرْث , لَمْ يَكُنْ هَذَا مُسْتَحِيلًا مِنْ الْقَوْل ; فَكَيْفَ يَجُوز أَنْ يُقَال فِي هَذَا مُتَعَارِض ؟ ! وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ بَاب الْعُمُوم وَالْخُصُوص عَلَى مَا هُوَ مَذْكُور فِي الْأُصُول . إِنْ قِيلَ : مَا الْحِكْمَة فِي تَفْرِيق الشَّارِع بَيْن اللَّيْل وَالنَّهَار , وَقَدْ قَالَ اللَّيْث بْن سَعْد : يَضْمَن أَرْبَاب الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار كُلّ مَا أَفْسَدَتْ , وَلَا يَضْمَن أَكْثَر مِنْ قِيمَة الْمَاشِيَة ؟ قُلْنَا : الْفَرْق بَيْنهمَا وَاضِح , وَذَلِكَ أَنَّ أَهْل الْمَوَاشِي لَهُمْ ضَرُورَة إِلَى إِرْسَال مَوَاشِيهمْ تَرْعَى بِالنَّهَارِ , وَالْأَغْلَب عِنْدهمْ أَنَّ مَنْ عِنْده زَرْع يَتَعَاهَدهُ بِالنَّهَارِ وَيَحْفَظهُ عَمَّنْ أَرَادَهُ , فَجَعَلَ حِفْظ ذَلِكَ بِالنَّهَارِ عَلَى أَهْل الزُّرُوع ; لِأَنَّهُ وَقْت التَّصَرُّف فِي الْمَعَاش , كَمَا قَالَ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى : " وَجَعَلْنَا النَّهَار مَعَاشًا " [ النَّبَأ : 1 1 ] فَإِذَا جَاءَ اللَّيْل فَقَدْ جَاءَ الْوَقْت الَّذِي يَرْجِع كُلّ شَيْء إِلَى مَوْضِعه وَسَكَنَهُ ; كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى : " مَنْ إِلَه غَيْر اللَّه يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ " [ الْقَصَص : 72 ] وَقَالَ : " وَجَعَلَ اللَّيْل سَكَنًا " [ الْأَنْعَام : 96 ] وَيَرُدّ أَهْل الْمَوَاشِي مَوَاشِيهمْ إِلَى مَوَاضِعهمْ لِيَحْفَظُوهَا , فَإِذَا فَرَّطَ صَاحِب الْمَاشِيَة فِي رَدّهَا إِلَى مَنْزِله , أَوْ فَرَّطَ فِي ضَبْطهَا وَحَبْسهَا عَنْ الِانْتِشَار بِاللَّيْلِ حَتَّى أَتْلَفَتْ شَيْئًا فَعَلَيْهِ ضَمَان ذَلِكَ , فَجَرَى الْحُكْم عَلَى الْأَوْفَق الْأَسْمَح , وَكَانَ ذَلِكَ أَرْفَق بِالْفَرِيقَيْنِ , وَأَسْهَل عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ , وَأَحْفَظ لِلْمَالَيْنِ , وَقَدْ وَضَحَ الصُّبْح لِذِي عَيْنَيْنِ , وَلَكِنْ لِسَلِيمِ الْحَاسَّتَيْنِ ; وَأَمَّا قَوْل اللَّيْث : لَا يَضْمَن أَكْثَر مِنْ قِيمَة الْمَاشِيَة فَقَدْ قَالَ أَبُو عُمَر : لَا أَعْلَم مِنْ أَيْنَ قَالَ هَذَا اللَّيْث بْن سَعْد , إِلَّا أَنْ يَجْعَلهُ قِيَاسًا عَلَى الْعَبْد الْجَانِي لَا يَفْتَكّ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَته وَلَا يَلْزَم سَيِّده فِي جِنَايَته أَكْثَر مِنْ قِيمَته , وَهَذَا ضَعِيف الْوَجْه ; كَمَا قَالَ فِي " التَّمْهِيد " وَفِي " الِاسْتِذْكَار " فَخَالَفَ الْحَدِيث فِي ( الْعَجْمَاء جُرْحهَا جُبَار ) وَخَالَفَ نَاقَة الْبَرَاء , وَقَدْ تَقَدَّمَهُ إِلَى ذَلِكَ طَائِفَة مِنْ الْعُلَمَاء مِنْهُمْ عَطَاء . قَالَ اِبْن جُرَيْج قُلْت لِعَطَاءٍ : الْحَرْث تُصِيبهُ الْمَاشِيَة لَيْلًا أَوْ نَهَارًا ؟ قَالَ : يَضْمَن صَاحِبهَا وَيَغْرَم . قُلْت : كَانَ عَلَيْهِ حَظِرًا أَوْ لَمْ يَكُنْ ؟ قَالَ نَعَمْ ! يَغْرَم . قُلْت : مَا يَغْرَم ؟ قَالَ : قِيمَة مَا أَكَلَ حِمَاره وَدَابَّته وَمَاشِيَته . وَقَالَ مَعْمَر عَنْ اِبْن شُبْرُمَة : يُقَوَّم الزَّرْع عَلَى حَاله الَّتِي أُصِيبَ عَلَيْهَا دَرَاهِم . وَرُوِيَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا : يَضْمَن رَبّ الْمَاشِيَة لَيْلًا أَوْ نَهَارًا , مِنْ طُرُق لَا تَصِحّ .

قَالَ مَالِك : وَيُقَوَّم الزَّرْع الَّذِي أَفْسَدَتْ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ عَلَى الرَّجَاء وَالْخَوْف . قَالَ : وَالْحَوَائِط الَّتِي تُحْرَس وَاَلَّتِي لَا تُحْرَس , وَالْمُحْظَر عَلَيْهَا وَغَيْر الْمُحْظَر سَوَاء , يَغْرَم أَهْلهَا مَا أَصَابَتْ بِاللَّيْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ , وَإِنْ كَانَ أَكْثَر مِنْ قِيمَتهَا . قَالَ : وَإِنْ انْفَلَتَتْ دَابَّة بِاللَّيْلِ فَوَطِئَتْ عَلَى رَجُل نَائِم لَمْ يَغْرَم صَاحِبهَا شَيْئًا , وَإِنَّمَا هَذَا فِي الْحَائِط وَالزَّرْع وَالْحَرْث ; ذَكَرَهُ عَنْهُ اِبْن عَبْد الْحَكَم . وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم : مَا أَفْسَدَتْ الْمَاشِيَة بِاللَّيْلِ فَهُوَ فِي مَال رَبّهَا , وَإِنْ كَانَ أَضْعَاف ثَمَنهَا ; لِأَنَّ الْجِنَايَة مِنْ قِبَله إِذْ لَمْ يَرْبِطهَا , وَلَيْسَتْ الْمَاشِيَة كَالْعَبِيدِ ; حَكَاهُ سَحْنُون وَأَصْبَغ وَأَبُو زَيْد عَنْ اِبْن الْقَاسِم .

وَلَا يُسْتَأْنَى بِالزَّرْعِ أَنْ يَنْبُت أَوْ لَا يَنْبُت كَمَا يُفْعَل فِي سِنّ الصَّغِير . وَقَالَ عِيسَى عَنْ اِبْن الْقَاسِم : قِيمَته لَوْ حَلَّ بَيْعه . وَقَالَ أَشْهَب وَابْن نَافِع فِي الْمَجْمُوعَة عَنْهُ : وَإِنْ لَمْ يَبْدُ صَلَاحه . اِبْن الْعَرَبِيّ : وَالْأَوَّل أَقْوَى لِأَنَّهَا صِفَته فَتُقَوَّم كَمَا يُقَوَّم كُلّ مُتْلَف عَلَى صِفَته .

لَوْ لَمْ يُقْضَ لِلْمُفْسَدِ لَهُ بِشَيْءٍ حَتَّى نَبَتَ وَانْجَبَرَ فَإِنْ كَانَ فِيهِ قَبْل ذَلِكَ مَنْفَعَة رُعِيَ أَوْ شَيْء ضَمِنَ تِلْكَ الْمَنْفَعَة , وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ مَنْفَعَة فَلَا ضَمَان . وَقَالَ أَصْبَغ : يَضْمَن ; لِأَنَّ التَّلَف قَدْ تَحَقَّقَ وَالْجَبْر لَيْسَ مِنْ جِهَته فَلَا يُعْتَدّ لَهُ بِهِ .

وَقَعَ فِي كِتَاب اِبْن سَحْنُون أَنَّ الْحَدِيث إِنَّمَا جَاءَ فِي أَمْثَال الْمَدِينَة الَّتِي هِيَ حِيطَان مُحْدِقَة , وَأَمَّا الْبِلَاد الَّتِي هِيَ زُرُوع مُتَّصِلَة غَيْر مُحْظَرَة , وَبَسَاتِين كَذَلِكَ , فَيَضْمَن أَرْبَاب النَّعَم مَا أَفْسَدَتْ مِنْ لَيْل أَوْ نَهَار ; كَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ تَرْك تَثْقِيف الْحَيَوَان فِي مِثْل هَذِهِ الْبِلَاد تَعَدٍّ ; لِأَنَّهَا وَلَا بُدّ تَفْسُد . وَهَذَا جُنُوح إِلَى قَوْل اللَّيْث .

قَالَ أَصْبَغ فِي الْمَدِينَة : لَيْسَ لِأَهْلِ الْمَوَاشِي أَنْ يُخْرِجُوا مَوَاشِيهمْ إِلَى قُرَى الزَّرْع بِغَيْرِ ذُوَّاد ; فَرَكِبَ الْعُلَمَاء عَلَى هَذَا أَنَّ الْبُقْعَة لَا تَخْلُو أَنْ تَكُون بُقْعَة زَرْع , أَوْ بُقْعَة سَرْح , فَإِنْ كَانَتْ بُقْعَة زَرْع فَلَا تَدْخُلهَا مَاشِيَة إِلَّا مَاشِيَة تَجْتَاح , وَعَلَى أَرْبَابهَا حِفْظهَا , وَمَا أَفْسَدَتْ فَصَاحِبهَا ضَامِن لَيْلًا أَوْ نَهَارًا ; وَإِنْ كَانَتْ بُقْعَة سَرْح فَعَلَى صَاحِب الَّذِي حَرْثه فِيهَا حِفْظه , وَلَا شَيْء عَلَى أَرْبَاب الْمَوَاشِي .

الْمَوَاشِي عَلَى قِسْمَيْنِ : ضَوَارِي وَحَرِيسَة وَعَلَيْهِمَا قَسَمَهَا مَالِك . فَالضَّوَارِي هِيَ الْمُعْتَادَة لِلزَّرْعِ وَالثِّمَار , فَقَالَ مَالِك : تُغَرَّب وَتُبَاع فِي بَلَد لَا زَرْع فِيهِ ; رَوَاهُ اِبْن الْقَاسِم فِي الْكِتَاب وَغَيْره . قَالَ اِبْن حَبِيب : وَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ رَبّهَا , وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِك فِي الدَّابَّة الَّتِي ضَرِيَتْ فِي إِفْسَاد الزَّرْع : تُغَرَّب وَتُبَاع . وَأَمَّا مَا يُسْتَطَاع الِاحْتِرَاس مِنْهُ فَلَا يُؤْمَر صَاحِبه بِإِخْرَاجِهِ .

قَالَ أَصْبَغ : النَّحْل وَالْحَمَام وَالْإِوَزّ وَالدَّجَاج كَالْمَاشِيَةِ , لَا يُمْنَع صَاحِبهَا مِنْ اِتِّخَاذهَا وَإِنْ [ ضَرِيَتْ ] , وَعَلَى أَهْل الْقَرْيَة حِفْظ زُرُوعهمْ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذِهِ رِوَايَة ضَعِيفَة لَا يَلْتَفِت إِلَيْهَا مَنْ أَرَادَ أَنْ يَجِد مَا يَنْتَفِع بِهِ مِمَّا لَا يَضُرّ بِغَيْرِهِ مُكْنٍ مِنْهُ , وَأَمَّا اِنْتِفَاعه بِمَا يَتَّخِذهُ بِإِضْرَارِهِ بِأَحَدٍ فَلَا سَبِيل إِلَيْهِ . قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا ضَرَر وَلَا ضِرَار ) وَهَذِهِ الضَّوَارِي عَنْ اِبْن الْقَاسِم فِي الْمَدِينَة لَا ضَمَان عَلَى أَرْبَابهَا إِلَّا بَعْد التَّقَدُّم . اِبْن الْعَرَبِيّ : وَأَرَى الضَّمَان عَلَيْهِمْ قَبْل التَّقَدُّم إِذَا كَانَتْ ضَوَارِي .

ذَكَرَ عَبْد الرَّزَّاق عَنْ مَعْمَر عَنْ قَتَادَة عَنْ الشَّعْبِيّ أَنَّ شَاة وَقَعَتْ فِي غَزْل حَائِك فَاخْتَصَمُوا إِلَى شُرَيْح , فَقَالَ الشَّعْبِيّ : اُنْظُرُوهُ فَإِنَّهُ سَيَسْأَلُهُمْ لَيْلًا وَقَعَتْ فِيهِ أَوْ نَهَارًا ; فَفَعَلَ . ثُمَّ قَالَ : إِنْ كَانَ بِاللَّيْلِ ضَمِنَ , وَإِنْ كَانَ بِالنَّهَارِ لَمْ يَضْمَن , ثُمَّ قَرَأَ شُرَيْح " إِذْ نَقَشَتْ فِيهِ غَنَم الْقَوْم " قَالَ : وَالنَّفْش بِاللَّيْلِ وَالْهَمَل بِالنَّهَارِ . قُلْت : وَمِنْ هَذَا الْبَاب قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( الْعَجْمَاء جُرْحهَا جُبَار ) الْحَدِيث . وَقَالَ اِبْن شِهَاب : وَالْجُبَار الْهَدَر , وَالْعَجْمَاء الْبَهِيمَة , قَالَ عُلَمَاؤُنَا : ظَاهِر قَوْله : ( الْعَجْمَاء جُرْحهَا جُبَار ) أَنَّ مَا اِنْفَرَدَتْ الْبَهِيمَة بِإِتْلَافِهِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْء , وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ . فَلَوْ كَانَ مَعَهَا قَائِد أَوْ سَائِق أَوْ رَاكِب فَحَمَلَهَا أَحَدهمْ عَلَى شَيْء فَأَتْلَفَتْهُ لَزِمَهُ حُكْم الْمُتْلِف ; فَإِنْ كَانَتْ جِنَايَة مَضْمُونَة بِالْقِصَاصِ وَكَانَ الْحَمْل عَمْدًا كَانَ فِيهِ الْقِصَاص وَلَا يُخْتَلَف فِيهِ ; لِأَنَّ الدَّابَّة كَالْآلَةِ . وَإِنْ كَانَ عَنْ غَيْر قَصْد كَانَتْ فِيهِ الدِّيَة عَلَى الْعَاقِلَة . وَفِي الْأَمْوَال الْغَرَامَة فِي مَال الْجَانِي .

وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ أَصَابَتْهُ بِرِجْلِهَا أَوْ ذَنَبهَا , فَلَمْ يَضْمَن مَالِك وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ صَاحِبهَا , وَضَمَّنَهُ الشَّافِعِيّ وَابْن أَبِي لَيْلَى وَابْن شُبْرُمَة . وَاخْتَلَفُوا فِي الضَّارِيَة فَجُمْهُورهمْ أَنَّهَا كَغَيْرِهَا , وَمَالِك وَبَعْض أَصْحَابه يُضَمِّنُونَهُ .

رَوَى سُفْيَان . بْن حُسَيْن عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الرِّجْل جُبَار ) قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : لَمْ يَرْوِهِ غَيْر سُفْيَان بْن حُسَيْن وَلَمْ يُتَابَع عَلَيْهِ , وَخَالَفَهُ الْحُفَّاظ عَنْ الزُّهْرِيّ مِنْهُمْ مَالِك وَابْن عُيَيْنَة وَيُونُس وَمَعْمَر وَابْن جُرَيْج وَالزُّبَيْدِيّ وَعُقَيْل وَلَيْث بْن سَعْد , وَغَيْرهمْ كُلّهمْ رَوَوْهُ عَنْ الزُّهْرِيّ فَقَالُوا : ( الْعَجْمَاء جُبَار وَالْبِئْر جُبَار وَالْمَعْدِن جُبَار ) وَلَمْ يَذْكُرُوا الرِّجْل وَهُوَ الصَّوَاب . وَكَذَلِكَ رَوَى أَبُو صَالِح السَّمَّانِ , وَعَبْد الرَّحْمَن الْأَعْرَج , وَمُحَمَّد بْن سِيرِينَ , وَمُحَمَّد بْن زِيَاد وَغَيْرهمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة , وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ ( وَالرِّجْل جُبَار ) وَهُوَ الْمَحْفُوظ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة .

قَوْله : ( وَالْبِئْر جُبَار ) قَدْ رَوَى مَوْضِعه ( وَالنَّار ) قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : حَدَّثَنَا حَمْزَة بْن الْقَاسِم الْهَاشِمِيّ حَدَّثَنَا حَنْبَل بْن إِسْحَاق قَالَ سَمِعْت أَبَا عَبْد اللَّه أَحْمَد بْن حَنْبَل يَقُول فِي حَدِيث عَبْد الرَّزَّاق : حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة ( وَالنَّار جُبَار ) لَيْسَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ فِي الْكِتَاب بَاطِل لَيْسَ هُوَ بِصَحِيحٍ . حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مَخْلَد حَدَّثَنَا إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم بْن هَانِئ قَالَ سَمِعْت أَحْمَد بْن حَنْبَل يَقُول : أَهْل الْيَمَن يَكْتُبُونَ النَّار النِّير وَيَكْتُبُونَ الْبِير ; يَعْنِي مِثْل ذَلِكَ . وَإِنَّمَا لَقَّنَ عَبْد الرَّزَّاق ( النَّار جُبَار ) . وَقَالَ الرَّمَادِيّ : قَالَ عَبْد الرَّزَّاق قَالَ مَعْمَر لَا أَرَاهُ إِلَّا وَهُمَا . قَالَ أَبُو عُمَر : رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيث مَعْمَر عَنْ هَمَّام بْن مُنَبِّه عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( النَّار جُبَار ) وَقَالَ يَحْيَى بْن مَعِين : أَصْله الْبِئْر وَلَكِنَّ مَعْمَرًا صَحَّفَهُ . قَالَ أَبُو عُمَر : لَمْ يَأْتِ اِبْن مَعِين عَلَى قَوْله هَذَا بِدَلِيلِ , وَلَيْسَ هَكَذَا تُرَدّ أَحَادِيث الثِّقَات . ذَكَرَ وَكِيع عَنْ عَبْد الْعَزِيز بْن حُصَيْن عَنْ يَحْيَى بْن يَحْيَى الْغَسَّانِيّ قَالَ : أَحْرَقَ رَجُل سَافَى قَرَاح لَهُ فَخَرَجَتْ شَرَرَة مِنْ نَار حَتَّى أَحْرَقَتْ شَيْئًا لِجَارِهِ . قَالَ : فَكَتَبَ فِيهِ إِلَى عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز رَضِيَ اللَّه عَنْهُ اِبْن حُصَيْن فَكَتَبَ إِلَيَّ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( الْعَجْمَاء جُبَار ) وَأَرَى أَنَّ النَّار جُبَار . وَقَدْ رُوِيَ ( وَالسَّائِمَة جُبَار ) بَدَل الْعَجْمَاء فَهَذَا مَا وَرَدَ فِي أَلْفَاظ هَذَا الْحَدِيث وَلِكُلِّ مَعْنًى لَفْظ صَحِيح مَذْكُور فِي شَرْح الْحَدِيث وَكُتُب الْفِقْه .




قَالَ وَهْب : كَانَ دَاوُد يَمُرّ بِالْجِبَالِ مُسَبِّحًا وَالْجِبَال تُجَاوِبه بِالتَّسْبِيحِ , وَكَذَلِكَ الطَّيْر . وَقِيلَ كَانَ دَاوُد إِذَا وَجَدَ فَتْرَة أَمَرَ الْجِبَال فَسَبَّحَتْ حَتَّى يَشْتَاق ; وَلِهَذَا قَالَ : " وَسَخَّرْنَا " أَيْ جَعَلْنَاهَا بِحَيْثُ تُطِيعهُ إِذَا أَمَرَهَا بِالتَّسْبِيحِ . وَقِيلَ : إِنَّ سَيْرهَا مَعَهُ تَسْبِيحهَا , وَالتَّسْبِيح مَأْخُوذ مِنْ السِّبَاحَة ; دَلِيله قَوْله تَعَالَى : " يَا جِبَال أَوِّبِي مَعَهُ " [ سَبَأ : 10 ] . وَقَالَ قَتَادَة : " يُسَبِّحْنَ " يُصَلِّينَ مَعَهُ إِذَا صَلَّى , وَالتَّسْبِيح الصَّلَاة . وَكُلّ مُحْتَمَل . وَذَلِكَ فِعْل اللَّه تَعَالَى بِهَا ; ذَلِكَ لِأَنَّ الْجِبَال لَا تَعْقِل فَتَسْبِيحهَا دَلَالَة عَلَى تَنْزِيه اللَّه تَعَالَى عَنْ صِفَات الْعَاجِزِينَ وَالْمُحْدَثِينَ .
وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَسورة الأنبياء الآية رقم 80
يَعْنِي اِتِّخَاذ الدُّرُوع بِإِلَانَةِ الْحَدِيد لَهُ , وَاللَّبُوس عِنْد الْعَرَب السِّلَاح كُلّه ; دِرْعًا كَانَ أَوْ جَوْشَنًا أَوْ سَيْفًا أَوْ رُمْحًا . قَالَ الْهُذَلِيّ يَصِف رُمْحًا : وَمَعِي لَبُوس لِلْبَئِيسِ كَأَنَّهُ رَوْق بِجَبْهَة ذِي نِعَاج مُجْفِل وَاللَّبُوس كُلّ مَا يُلْبَس , وَأَنْشَدَ اِبْن السِّكِّيت : أَلْبَسْ لِكُلِّ حَالَة لَبُوسهَا إِمَّا نَعِيمهَا وَإِمَّا بُوسهَا وَأَرَادَ اللَّه تَعَالَى هُنَا الدِّرْع , وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَلْبُوس نَحْو الرَّكُوب وَالْحَلُوب . قَالَ قَتَادَة : أَوَّل مَنْ صَنَعَ الدُّرُوع دَاوُد . وَإِنَّمَا كَانَتْ صَفَائِح , فَهُوَ أَوَّل مَنْ سَرَدَهَا وَحَلَّقَهَا .


لِيُحْرِزَكُمْ .


أَيْ مِنْ حَرْبكُمْ . وَقِيلَ : مِنْ السَّيْف وَالسَّهْم وَالرُّمْح , أَيْ مِنْ آلَة بَأْسكُمْ فَحُذِفَ الْمُضَاف . اِبْن عَبَّاس : " مِنْ بَأْسكُمْ " مِنْ سِلَاحكُمْ . الضَّحَّاك : مِنْ حَرْب أَعْدَائِكُمْ . وَالْمَعْنَى وَاحِد . وَقَرَأَ الْحَسَن وَأَبُو جَعْفَر وَابْن عَامِر وَحَفْص وَرَوْح " لِتُحْصِنَكُمْ " بِالتَّاءِ رَدًّا عَلَى الصِّفَة . وَقِيلَ : عَلَى اللَّبُوس وَالْمَنَعَة الَّتِي هِيَ الدُّرُوع . وَقَرَأَ شَيْبَة وَأَبُو بَكْر وَالْمُفَضَّل وَرُوَيْس وَابْن أَبِي إِسْحَاق " لِنُحْصِنكُمْ " بِالنُّونِ لِقَوْلِهِ : " وَعَلَّمْنَاهُ " . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ جَعَلُوا الْفِعْل لِلَّبُوسِ , أَوْ يَكُون الْمَعْنَى لِيُحْصِنكُمْ اللَّه .



أَيْ عَلَى تَيْسِير نِعْمَة الدُّرُوع لَكُمْ . وَقِيلَ : " فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ " بِأَنْ تُطِيعُوا رَسُولِي .

هَذِهِ الْآيَة أَصْل فِي اِتِّخَاذ الصَّنَائِع وَالْأَسْبَاب , وَهُوَ قَوْل أَهْل الْعُقُول وَالْأَلْبَاب , لَا قَوْل الْجَهَلَة الْأَغْبِيَاء الْقَائِلِينَ بِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا شُرِعَ لِلضُّعَفَاءِ , فَالسَّبَب سُنَّة اللَّه فِي خَلْقه فَمَنْ طَعَنَ فِي ذَلِكَ فَقَدْ طَعَنَ فِي الْكِتَاب وَالسُّنَّة , وَنَسَبَ مَنْ ذَكَرْنَا إِلَى الضَّعْف وَعَدَم الْمِنَّة . وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْ نَبِيّه دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام أَنَّهُ كَانَ يَصْنَع الدُّرُوع , وَكَانَ أَيْضًا يَصْنَع الْخُوص , وَكَانَ يَأْكُل مِنْ عَمَل يَده , وَكَانَ آدَم حَرَّاثًا , وَنُوح نَجَّارًا , وَلُقْمَان خَيَّاطًا , وَطَالُوت دَبَّاغًا . وَقِيلَ : سَقَّاء ; فَالصَّنْعَة يَكُفّ بِهَا الْإِنْسَان نَفْسه عَنْ النَّاس , وَيَدْفَع بِهَا عَنْ نَفْسه الضَّرَر وَالْبَأْس . وَفِي الْحَدِيث : " إِنَّ اللَّه يُحِبّ الْمُؤْمِن الْمُحْتَرِف الضَّعِيف الْمُتَعَفِّف وَيُبْغِض السَّائِل الْمُلْحِف " . وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيد بَيَان فِي سُورَة " الْفُرْقَان " وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غَيْر مَا آيَة , وَفِيهِ كِفَايَة وَالْحَمْد لِلَّهِ .
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَسورة الأنبياء الآية رقم 81
أَيْ وَسَخَّرْنَا لِسُلَيْمَانَ الرِّيح عَاصِفَة , أَيْ شَدِيدَة الْهُبُوب . يُقَال مِنْهُ : عَصَفَتْ الرِّيح أَيْ اِشْتَدَّتْ فَهِيَ رِيح عَاصِف وَعَصُوف . وَفِي لُغَة بَنِي أَسَد : أَعْصَفَتْ الرِّيح فَهِيَ مُعْصِف وَمُعْصِفَة . وَالْعَصْف التِّبْن فَسُمِّيَ بِهِ شِدَّة الرِّيح ; لِأَنَّهَا تَعْصِفهُ بِشِدَّة تَطَيُّرهَا . وَقَرَأَ عَبْد الرَّحْمَن الْأَعْرَج وَالسُّلَمِيّ وَأَبُو بَكْر " وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيح " بِرَفْعِ الْحَاء عَلَى الْقَطْع مِمَّا قَبْله ; وَالْمَعْنَى وَلِسُلَيْمَانَ تَسْخِير الرِّيح ; اِبْتِدَاء وَخَبَر .


يَعْنِي الشَّام . يُرْوَى أَنَّهَا كَانَتْ تَجْرِي بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ إِلَى حَيْثُ أَرَادَ , ثُمَّ تَرُدّهُ إِلَى الشَّام . وَقَالَ وَهْب : كَانَ سُلَيْمَان بْن دَاوُد إِذَا خَرَجَ إِلَى مَجْلِسه عَكَفَتْ عَلَيْهِ الطَّيْر , وَقَامَ لَهُ الْجِنّ وَالْإِنْس حَتَّى يَجْلِس عَلَى سَرِيره . وَكَانَ اِمْرَأً غَزَّاء لَا يَقْعُد عَنْ الْغَزْو ; فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَغْزُو أَمَرَ بِخَشَبٍ فَمُدَّتْ وَرُفِعَ عَلَيْهَا النَّاس وَالدَّوَابّ وَآلَة الْحَرْب , وَأَمَرَ الْعَاصِف فَأَقَلَّتْ ذَلِكَ , ثُمَّ أَمَرَ الرُّخَاء فَمَرَّتْ بِهِ شَهْرًا فِي رَوَاحه وَشَهْرًا فِي غُدُوّهُ , وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : " تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ " [ ص : 36 ] . وَالرُّخَاء اللَّيِّنَة .


أَيْ بِكُلِّ شَيْء عَمِلْنَا عَالِمِينَ بِتَدْبِيرِهِ .
وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَسورة الأنبياء الآية رقم 82
أَيْ وَسَخَّرْنَا لَهُ مَنْ يَغُوصُونَ ; يُرِيد تَحْت الْمَاء . أَيْ يَسْتَخْرِجُونَ لَهُ الْجَوَاهِر مِنْ الْبَحْر . وَالْغَوْص النُّزُول تَحْت الْمَاء , وَقَدْ غَاصَ فِي الْمَاء , وَالْهَاجِم عَلَى الشَّيْء غَائِص . وَالْغَوَّاص الَّذِي يَغُوص فِي الْبَحْر عَلَى اللُّؤْلُؤ , وَفِعْله الْغِيَاصَة .


أَيْ سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْغَوْص ; قَالَهُ الْفَرَّاء . وَقِيلَ : يُرَاد بِذَلِكَ الْمَحَارِيب وَالتَّمَاثِيل وَغَيْر ذَلِكَ يُسَخِّرهُمْ فِيهِ .


أَيْ لِأَعْمَالِهِمْ . وَقَالَ الْفَرَّاء : حَافِظِينَ لَهُمْ مِنْ أَنْ يُفْسِدُوا أَعْمَالهمْ , أَوْ يُهَيِّجُوا أَحَدًا مِنْ بَنِي آدَم فِي زَمَان سُلَيْمَان . وَقِيلَ : " حَافِظِينَ " مِنْ أَنْ يَهْرُبُوا أَوْ يَمْتَنِعُوا . أَوْ حَفِظْنَاهُمْ مِنْ أَنْ يَخْرُجُوا عَنْ أَمْره . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْحِمَام وَالنُّورَة وَالطَّوَاحِين وَالْقَوَارِير وَالصَّابُون مِنْ اِسْتِخْرَاج الشَّيَاطِين .
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَسورة الأنبياء الآية رقم 83
أَيْ وَاذْكُرْ أَيُّوب إِذْ نَادَى رَبّه .



" أَنِّي مَسَّنِي الضُّرّ وَأَنْتَ أَرْحَم الرَّاحِمِينَ " أَيْ نَالَنِي فِي بَدَنِي ضُرّ وَفِي مَالِي وَأَهْلِي . قَالَ اِبْن عَبَّاس : سُمِّيَ أَيُّوب لِأَنَّهُ آبَ إِلَى اللَّه تَعَالَى فِي كُلّ حَال . وَرُوِيَ أَنَّ أَيُّوب عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ رَجُلًا مِنْ الرُّوم ذَا مَال عَظِيم , وَكَانَ بَرًّا تَقِيًّا رَحِيمًا بِالْمَسَاكِينِ , يَكْفُل الْأَيْتَام وَالْأَرَامِل , وَيُكْرِم الضَّيْف , وَيُبَلِّغ اِبْن السَّبِيل , شَاكِرًا لِأَنْعُمِ اللَّه تَعَالَى , وَأَنَّهُ دَخَلَ مَعَ قَوْمه عَلَى جَبَّار عَظِيم فَخَاطَبُوهُ فِي أَمْر , فَجَعَلَ أَيُّوب يَلِينَ لَهُ فِي الْقَوْل مِنْ أَجْل زَرْع كَانَ لَهُ فَامْتَحَنَهُ اللَّه بِذَهَابِ مَاله وَأَهْله , وَبِالضُّرِّ فِي جِسْمه حَتَّى تَنَاثَرَ لَحْمه وَتَدَوَّدَ جِسْمه , حَتَّى أَخْرَجَهُ أَهْل قَرْيَته إِلَى خَارِج الْقَرْيَة , وَكَانَتْ اِمْرَأَته تَخْدُمهُ . قَالَ الْحَسَن : مَكَثَ بِذَلِكَ تِسْع سِنِينَ وَسِتَّة أَشْهُر . فَلَمَّا أَرَادَ اللَّه أَنْ يُفَرِّج عَنْهُ قَالَ اللَّه تَعَالَى لَهُ : " اُرْكُضْ بِرِجْلِك هَذَا مُغْتَسَل بَارِد وَشَرَاب " [ ص : 42 ] فِيهِ شِفَاؤُك , وَقَدْ وَهَبْت لَك أَهْلك وَمَالك وَوَلَدك وَمِثْلهمْ مَعَهُمْ . وَسَيَأْتِي فِي " ص " مَا لِلْمُفَسِّرِينَ فِي قِصَّة أَيُّوب مِنْ تَسْلِيط الشَّيْطَان عَلَيْهِ , وَالرَّدّ عَلَيْهِمْ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَاخْتُلِفَ فِي قَوْل أَيُّوب : " مَسَّنِيَ الضُّرّ " عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ قَوْلًا : الْأَوَّل : أَنَّهُ وَثَبَ لِيُصَلِّيَ فَلَمْ يَقْدِر عَلَى النُّهُوض فَقَالَ : " مَسَّنِي الضُّرّ " إِخْبَارًا عَنْ حَاله , لَا شَكْوَى لِبَلَائِهِ ; رَوَاهُ أَنَس مَرْفُوعًا . الثَّانِي : أَنَّهُ إِقْرَار بِالْعَجْزِ فَلَمْ يَكُنْ مُنَافِيًا لِلصَّبْرِ . الثَّالِث : أَنَّهُ سُبْحَانه أَجْرَاهُ عَلَى لِسَانه لِيَكُونَ حُجَّة لِأَهْلِ الْبَلَاء بَعْده فِي الْإِفْصَاح بِمَا يَنْزِل بِهِمْ . الرَّابِع : أَنَّهُ أَجْرَاهُ عَلَى لِسَانه إِلْزَامًا لَهُ فِي صِفَة الْآدَمِيّ فِي الضَّعْف عَنْ تَحَمُّل الْبَلَاء . الْخَامِس : أَنَّهُ اِنْقَطَعَ الْوَحْي عَنْهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَخَافَ هِجْرَان رَبّه فَقَالَ : " مَسَّنِي الضُّرّ " . وَهَذَا قَوْل جَعْفَر بْن مُحَمَّد . السَّادِس : أَنَّ تَلَامِذَته الَّذِينَ كَانُوا يَكْتُبُونَ عَنْهُ لَمَّا أَفْضَتْ حَاله إِلَى مَا اِنْتَهَتْ إِلَيْهِ مَحَوْا مَا كَتَبُوا عَنْهُ , وَقَالُوا : مَا لِهَذَا عِنْد اللَّه قَدْر ; فَاشْتَكَى الضُّرّ فِي ذَهَاب الْوَحْي وَالدِّين مِنْ أَيْدِي النَّاس . وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَصِحّ سَنَده . وَاَللَّه أَعْلَم ; قَالَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ . السَّابِع : أَنَّ دُودَة سَقَطَتْ مِنْ لَحْمه فَأَخَذَهَا وَرَدَّهَا فِي مَوْضِعهَا فَعَقَرَتْهُ فَصَاحَ " مَسَّنِي الضُّرّ " فَقِيلَ : أَعَلَيْنَا تَتَصَبَّر . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا بَعِيد جِدًّا مَعَ أَنَّهُ يَفْتَقِر إِلَى نَقْل صَحِيح , وَلَا سَبِيل إِلَى وُجُوده . الثَّامِن : أَنَّ الدُّود كَانَ يَتَنَاوَل بَدَنه فَصَبَرَ حَتَّى تَنَاوَلَتْ دُودَة قَلْبه وَأُخْرَى لِسَانه , فَقَالَ : " مَسَّنِي الضُّرّ " لِاشْتِغَالِهِ عَنْ ذِكْر اللَّه , قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَمَا أَحْسَن هَذَا لَوْ كَانَ لَهُ سَنَد وَلَمْ تَكُنْ دَعْوَى عَرِيضَة . التَّاسِع : أَنَّهُ أَبْهَمَ عَلَيْهِ جِهَة أَخْذ الْبَلَاء لَهُ هَلْ هُوَ تَأْدِيب , أَوْ تَعْذِيب , أَوْ تَخْصِيص , أَوْ تَمْحِيص , أَوْ ذُخْر أَوْ طُهْر , فَقَالَ : " مَسَّنِي الضُّرّ " أَيْ ضُرّ الْإِشْكَال فِي جِهَة أَخْذ الْبَلَاء . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا غُلُوّ لَا يُحْتَاج إِلَيْهِ . الْعَاشِر : أَنَّهُ قِيلَ لَهُ سَلْ اللَّه الْعَافِيَة فَقَالَ : أَقَمْت فِي النَّعِيم سَبْعِينَ سَنَة وَأُقِيم فِي الْبَلَاء سَبْع سِنِينَ وَحِينَئِذٍ أَسْأَلهُ فَقَالَ : " مَسَّنِي الضُّرّ " . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا مُمْكِن وَلَكِنَّهُ لَمْ يَصِحّ فِي إِقَامَته مُدَّة خَبَر وَلَا فِي هَذِهِ الْقِصَّة . الْحَادِيَ عَشَر : أَنَّ ضُرّه قَوْل إِبْلِيس لِزَوْجِهِ اُسْجُدِي لِي فَخَافَ ذَهَاب الْإِيمَان عَنْهَا فَتَهْلِك وَيَبْقَى بِغَيْرِ كَافِل . الثَّانِي عَشَر : لَمَّا ظَهَرَ بِهِ الْبَلَاء قَالَ قَوْمه : قَدْ أَضَرَّ بِنَا كَوْنه مَعَنَا وَقَذَره فَلْيُخْرَجْ عَنَّا , فَأَخْرَجَتْهُ اِمْرَأَته إِلَى ظَاهِر الْبَلَد ; فَكَانُوا إِذَا خَرَجُوا رَأَوْهُ وَتَطَيَّرُوا بِهِ وَتَشَاءَمُوا بِرُؤْيَتِهِ , فَقَالُوا : لِيُبْعَدْ بِحَيْثُ لَا نَرَاهُ . فَخَرَجَ إِلَى بُعْد مِنْ الْقَرْيَة , فَكَانَتْ اِمْرَأَته تَقُوم عَلَيْهِ وَتَحْمِل قُوته إِلَيْهِ . فَقَالُوا : إِنَّهَا تَتَنَاوَلهُ وَتُخَالِطنَا فَيَعُود بِسَبَبِهِ ضُرّه إِلَيْنَا . فَأَرَادُوا قَطْعهَا عَنْهُ ; فَقَالَ : " مَسَّنِي الضُّرّ " . الثَّالِث عَشَر : قَالَ عَبْد اللَّه بْن عُبَيْد بْن عُمَيْر : كَانَ لِأَيُّوبَ أَخَوَانِ فَأَتَيَاهُ فَقَامَا . بَعِيد لَا يَقْدِرَانِ أَنْ يَدْنُوَا مِنْهُ مِنْ نَتْن رِيحه , فَقَالَ أَحَدهمَا : لَوْ عَلِمَ اللَّه فِي أَيُّوب خَيْرًا مَا اِبْتَلَاهُ بِهَذَا الْبَلَاء ; فَلَمْ يَسْمَع شَيْئًا أَشَدّ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَة ; فَعِنْد ذَلِكَ قَالَ : " مَسَّنِي الضُّرّ " ثُمَّ قَالَ : " اللَّهُمَّ إِنْ كُنْت تَعْلَم أَنِّي لَمْ أَبِتْ شَبْعَان قَطُّ وَأَنَا أَعْلَم مَكَان جَائِع فَصَدِّقْنِي " فَنَادَى مُنَادٍ مِنْ السَّمَاء " أَنْ صَدَقَ عَبْدِي " وَهُمَا يَسْمَعَانِ فَخَرَّا سَاجِدِينَ . الرَّابِع عَشَر : أَنَّ مَعْنَى " مَسَّنِي الضُّرّ " مِنْ شَمَاتَة الْأَعْدَاء ; وَلِهَذَا قِيلَ لَهُ : مَا كَانَ أَشَدّ عَلَيْك فِي بَلَائِك ؟ قَالَ شَمَاتَة الْأَعْدَاء . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا مُمْكِن فَإِنَّ الْكَلِيم قَدْ سَأَلَهُ أَخُوهُ الْعَافِيَة مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ : " إِنَّ الْقَوْم اِسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِت بِي الْأَعْدَاء " [ الْأَعْرَاف : 150 ] . الْخَامِس عَشَر : أَنَّ اِمْرَأَته كَانَتْ ذَات ذَوَائِب فَعَرَفَتْ حِين مُنِعَتْ أَنْ تَتَصَرَّف لِأَحَدٍ بِسَبَبِهِ مَا تَعُود بِهِ عَلَيْهِ , فَقَطَعَتْ ذَوَائِبهَا وَاشْتَرَتْ بِهَا مِمَّنْ يَصِلهَا قُوتًا وَجَاءَتْ بِهِ إِلَيْهِ , وَكَانَ يَسْتَعِين بِذَوَائِبِهَا فِي تَصَرُّفه وَتَنَقُّله , فَلَمَّا عَدِمَهَا وَأَرَادَ الْحَرَكَة فِي تَنَقُّله لَمْ يَقْدِر قَالَ : " مَسَّنِي الضُّرّ " . وَقِيلَ : إِنَّهَا لَمَّا اِشْتَرَتْ الْقُوت بِذَوَائِبِهَا جَاءَهُ إِبْلِيس فِي صِفَة رَجُل وَقَالَ لَهُ : إِنَّ أَهْلَك بَغَتْ فَأُخِذَتْ وَحُلِقَ شَعْرهَا . فَحَلَفَ أَيُّوب أَنْ يَجْلِدهَا ; فَكَانَتْ الْمِحْنَة عَلَى قَلْب الْمَرْأَة أَشَدّ مِنْ الْمِحْنَة عَلَى قَلْب أَيُّوب . قُلْت : وَقَوْل سَادِس عَشَر : ذَكَرَهُ اِبْن الْمُبَارَك : أَخْبَرَنَا يُونُس بْن يَزِيد عَنْ عُقَيْل عَنْ اِبْن شِهَاب أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ يَوْمًا أَيُّوب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أَصَابَهُ مِنْ الْبَلَاء ; الْحَدِيث . وَفِيهِ أَنَّ بَعْض إِخْوَانه مِمَّنْ صَابَرَهُ وَلَازَمَهُ قَالَ : يَا نَبِيّ اللَّه لَقَدْ أَعْجَبَنِي أَمْرك وَذَكَرْته إِلَى أَخِيك وَصَاحِبك , أَنَّهُ قَدْ اِبْتَلَاك بِذَهَابِ الْأَهْل وَالْمَال وَفِي جَسَدك , مُنْذُ ثَمَان عَشْرَة سَنَة حَتَّى بَلَغْت مَا تَرَى ; أَلَا يَرْحَمك فَيَكْشِف عَنْك ! لَقَدْ أَذْنَبْت ذَنْبًا مَا أَظُنّ أَحَدًا بَلَغَهُ ! فَقَالَ أَيُّوب عَلَيْهِ السَّلَام : " مَا أَدْرِي مَا يَقُولَانِ غَيْر أَنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ يَعْلَم أَنِّي كُنْت أَمُرّ عَلَى الرَّجُلَيْنِ يَتَزَاعَمَانِ وَكُلّ يَحْلِف بِاَللَّهِ - أَوْ عَلَى النَّفَر يَتَزَاعَمُونَ - فَأَنْقَلِب إِلَى أَهْلِي فَأُكَفِّر عَنْ أَيْمَانهمْ إِرَادَة أَلَّا يَأْثَم أَحَد ذَكَرَهُ وَلَا يَذْكُرهُ أَحَد إِلَّا بِالْحَقِّ " فَنَادَى رَبّه " أَنِّي مَسَّنِي الضُّرّ وَأَنْتَ أَرْحَم الرَّاحِمِينَ " إِنَّمَا كَانَ دُعَاؤُهُ عَرْضًا عَرَضَهُ عَلَى اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُخْبِرهُ بِاَلَّذِي بَلَغَهُ , صَابِرًا لِمَا يَكُون مِنْ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهِ . وَذَكَرَ الْحَدِيث . وَقَوْل سَابِع عَشَر : سَمِعْته وَلَمْ أَقِف عَلَيْهِ أَنَّ دُودَة سَقَطَتْ مِنْ جَسَده فَطَلَبَهَا لِيَرُدَّهَا إِلَى مَوْضِعهَا فَلَمْ يَجِدهَا فَقَالَ : " مَسَّنِي الضُّرّ " لِمَا فَقَدَ مِنْ أَجْر أَلَم تِلْكَ الدُّودَة , وَكَانَ أَرَادَ أَنْ يَبْقَى لَهُ الْأَجْر مُوَفَّرًا إِلَى وَقْت الْعَافِيَة , وَهَذَا حَسَن إِلَّا أَنَّهُ يَحْتَاج إِلَى سَنَد . قَالَ الْعُلَمَاء : وَلَمْ يَكُنْ قَوْله " مَسَّنِي الضُّرّ " جَزَعًا ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ : " إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا " [ ص : 44 ] بَلْ كَانَ ذَلِكَ دُعَاء مِنْهُ , وَالْجَزَع فِي الشَّكْوَى إِلَى الْخَلْق لَا إِلَى اللَّه تَعَالَى , وَالدُّعَاء لَا يُنَافِي الرِّضَا . قَالَ الثَّعْلَبِيّ سَمِعْت أُسْتَاذنَا أَبَا الْقَاسِم بْن حَبِيب يَقُول : حَضَرْت مَجْلِسًا غَاصًّا بِالْفُقَهَاءِ وَالْأُدَبَاء فِي دَار السُّلْطَان , فَسَأَلْت عَنْ هَذِهِ الْآيَة بَعْد إِجْمَاعهمْ عَلَى أَنَّ قَوْل أَيُّوب كَانَ شِكَايَة قَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى : " إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا " [ ص : 44 ] فَقُلْت : لَيْسَ هَذَا شِكَايَة وَإِنَّمَا كَانَ دُعَاء ; بَيَانه
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَسورة الأنبياء الآية رقم 84
وَالْإِجَابَة تَتَعَقَّب الدُّعَاء لَا الِاشْتِكَاء . فَاسْتَحْسَنُوهُ وَارْتَضَوْهُ . وَسُئِلَ الْجُنْد عَنْ هَذِهِ الْآيَة فَقَالَ : عَرَّفَهُ فَاقَة السُّؤَال لِيَمُنّ عَلَيْهِ بِكَرَمِ النَّوَال .


قَالَ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة قِيلَ لِأَيُّوبَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَدْ آتَيْنَاك أَهْلَك فِي الْجَنَّة فَإِنْ شِئْت تَرَكْنَاهُمْ لَك فِي الْجَنَّة وَإِنْ شِئْت آتَيْنَاكَهُمْ فِي الدُّنْيَا . قَالَ مُجَاهِد : فَتَرَكَهُمْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَهُ فِي الْجَنَّة وَأَعْطَاهُ مِثْلهمْ فِي الدُّنْيَا . قَالَ النَّحَّاس : وَالْإِسْنَاد عَنْهُمَا بِذَلِكَ صَحِيح . قُلْت : وَحَكَاهُ الْمَهْدَوِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَقَالَ الضَّحَّاك : قَالَ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود كَانَ أَهْل أَيُّوب قَدْ مَاتُوا إِلَّا اِمْرَأَته فَأَحْيَاهُمْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي أَقَلّ مِنْ طَرْف الْبَصَر , وَآتَاهُ مِثْلهمْ مَعَهُمْ . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : كَانَ بَنُوهُ قَدْ مَاتُوا فَأَحْيَوْا لَهُ وَوُلِدَ لَهُ مِثْلهمْ مَعَهُمْ . وَقَالَ قَتَادَة وَكَعْب الْأَحْبَار وَالْكَلْبِيّ وَغَيْرهمْ . قَالَ اِبْن مَسْعُود : مَاتَ أَوْلَاده وَهُمْ سَبْعَة مِنْ الذُّكُور وَسَبْعَة مِنْ الْإِنَاث فَلَمَّا عُوفِيَ نُشِرُوا لَهُ , وَوَلَدَتْ اِمْرَأَته سَبْعَة بَنِينَ وَسَبْع بَنَات . الثَّعْلَبِيّ : وَهَذَا الْقَوْل أَشْبَه بِظَاهِرِ الْآيَة . قُلْت : لِأَنَّهُمْ مَاتُوا اِبْتِلَاء قَبْل آجَالهمْ حَسْب مَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي سُورَة " الْبَقَرَة " فِي قِصَّة " الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارهمْ وَهُمْ أُلُوف حَذَر الْمَوْت " [ الْبَقَرَة : 243 ] . وَفِي قِصَّة السَّبْعِينَ الَّذِينَ أَخَذَتْهُمْ الصَّعْقَة فَمَاتُوا ثُمَّ أُحْيُوا ; وَذَلِكَ أَنَّهُمْ مَاتُوا قَبْل آجَالهمْ , وَكَذَلِكَ هُنَا وَاَللَّه أَعْلَم . وَعَلَى قَوْل مُجَاهِد وَعِكْرِمَة يَكُون الْمَعْنَى : " وَأَتَيْنَاهُ أَهْله " فِي الْآخِرَة " وَمِثْلهمْ مَعَهُمْ " فِي الدُّنْيَا . وَفِي الْخَبَر : إِنَّ اللَّه بَعَثَ إِلَيْهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام حِين رَكَضَ بِرِجْلِهِ عَلَى الْأَرْض رَكْضَة فَظَهَرَتْ عَيْن مَاء حَارّ , وَأَخَذَ بِيَدِهِ وَنَفَضَهُ نَفْضَة فَتَنَاثَرَتْ عَنْهُ الدِّيدَان , وَغَاصَ فِي الْمَاء غَوْصَة فَنَبَتَ لَحْمه وَعَادَ إِلَى مَنْزِله , وَرَدَّ اللَّه عَلَيْهِ أَهْله وَمِثْلهمْ مَعَهُمْ , وَنَشَأَتْ سَحَابَة عَلَى قَدْر قَوَاعِد دَاره فَأُمْطِرَتْ ثَلَاثه أَيَّام بِلَيَالِيِهَا جَرَادًا مِنْ ذَهَب . فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل : أَشَبِعْت ؟ فَقَالَ : وَمَنْ يَشْبَع مِنْ فَضْل اللَّه ! . فَأَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ : قَدْ أَثْنَيْت عَلَيْك بِالصَّبْرِ قَبْل وُقُوعك فِي الْبَلَاء وَبَعْده , وَلَوْلَا أَنِّي وَضَعْت تَحْت كُلّ شَعْرَة مِنْك صَبْرًا مَا صَبَرْت .


أَيْ فَعَلْنَا ذَلِكَ بِهِ رَحْمَة مِنْ عِنْدنَا . وَقِيلَ : اِبْتَلَيْنَاهُ لِيَعْظُمَ ثَوَابه غَدًا .



أَيْ وَتَذْكِيرًا لِلْعِبَادِ ; لِأَنَّهُمْ إِذَا ذَكَرُوا بَلَاء أَيُّوب وَصَبْره عَلَيْهِ وَمِحْنَته لَهُ وَهُوَ أَفْضَل أَهْل زَمَانه وَطَّنُوا أَنْفُسهمْ عَلَى الصَّبْر عَلَى شَدَائِد الدُّنْيَا نَحْو مَا فَعَلَ أَيُّوب , فَيَكُون هَذَا تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى إِدَامَة الْعِبَادَة , وَاحْتِمَال الضَّرَر . وَاخْتُلِفَ فِي مُدَّة إِقَامَته فِي الْبَلَاء ; فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : كَانَتْ مُدَّة الْبَلَاء سَبْع سِنِينَ وَسَبْعَة أَشْهُر وَسَبْعَة أَيَّام وَسَبْع لَيَالٍ . وَهْب : ثَلَاثِينَ سَنَة . الْحَسَن سَبْع سِنِينَ وَسِتَّة أَشْهُر . قُلْت : وَأَصَحّ مِنْ هَذَا وَاَللَّه أَعْلَم ثَمَانِي عَشْرَة سَنَة ; رَوَاهُ اِبْن شِهَاب عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; ذَكَرَهُ اِبْن الْمُبَارَك وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَسورة الأنبياء الآية رقم 85
وَهُوَ أَخْنُوخ وَقَدْ تَقَدَّمَ


أَيْ وَاذْكُرْهُمْ . وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم فِي " نَوَادِر الْأُصُول " وَغَيْره مِنْ حَدِيث اِبْن عُمَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيل رَجُل يُقَال لَهُ ذُو الْكِفْل لَا يَتَوَرَّع مِنْ ذَنْب عَمِلَهُ فَاتَّبَعَ اِمْرَأَة فَأَعْطَاهَا سِتِّينَ دِينَارًا [ عَلَى أَنْ يَطَأهَا ] فَلَمَّا قَعَدَ مِنْهَا مَقْعَد الرَّجُل مِنْ اِمْرَأَته اِرْتَعَدَتْ وَبَكَتْ فَقَالَ مَا يُبْكِيك قَالَتْ مِنْ هَذَا الْعَمَل وَاَللَّه مَا عَمِلْته قَطُّ قَالَ أَأَكْرَهْتُك قَالَتْ لَا وَلَكِنْ حَمَلَنِي عَلَيْهِ الْحَاجَة قَالَ اِذْهَبِي فَهُوَ لَك وَاَللَّه لَا أَعْصَى اللَّه بَعْدهَا أَبَدًا ثُمَّ مَاتَ مِنْ لَيْلَته فَوَجَدُوا مَكْتُوبًا عَلَى بَاب دَاره إِنَّ اللَّه قَدْ غَفَرَ لِذِي الْكِفْل ) وَخَرَّجَهُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ أَيْضًا وَلَفْظه . اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ : سَمِعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّث حَدِيثًا لَوْ لَمْ أَسْمَعهُ إِلَّا مَرَّة أَوْ مَرَّتَيْنِ - حَتَّى عَدَّ سَبْع مَرَّات - [ لَمْ أُحَدِّث بِهِ ] وَلَكِنِّي سَمِعْته أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ ; سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( كَانَ ذُو الْكِفْل مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل لَا يَتَوَرَّع مِنْ ذَنْب عَمِلَهُ فَأَتَتْهُ اِمْرَأَة فَأَعْطَاهَا سِتِّينَ دِينَارًا عَلَى أَنْ يَطَأهَا فَلَمَّا قَعَدَ مِنْهَا مَقْعَد الرَّجُل مِنْ اِمْرَأَته اِرْتَعَدَتْ وَبَكَتْ فَقَالَ مَا يُبْكِيك أَأَكْرَهْتُك قَالَتْ لَا وَلَكِنَّهُ عَمَل مَا عَمِلْته قَطُّ وَمَا حَمَلَنِي عَلَيْهِ إِلَّا الْحَاجَة فَقَالَ تَفْعَلِينَ أَنْتَ هَذَا وَمَا فَعَلْته اِذْهَبِي فَهِيَ لَك وَقَالَ وَاَللَّه لَا أَعْصِي اللَّه بَعْدهَا أَبَدًا فَمَاتَ مِنْ لَيْلَته فَأَصْبَحَ مَكْتُوبًا عَلَى بَابه إِنَّ اللَّه قَدْ غَفَرَ لِذِي الْكِفْل ) قَالَ : حَدِيث حَسَن . وَقِيلَ إِنَّ الْيَسَع لَمَّا كَبِرَ قَالَ : لَوْ اِسْتَخْلَفْت رَجُلًا عَلَى النَّاس أَنْظُر كَيْفَ يَعْمَل . فَقَالَ : مَنْ يَتَكَفَّل لِي بِثَلَاثٍ : بِصِيَامِ النَّهَار وَقِيَام اللَّيْل وَأَلَّا يَغْضَب وَهُوَ يَقْضِي ؟ فَقَالَ رَجُل مِنْ ذُرِّيَّة الْعِيص : أَنَا ; فَرَدَّهُ ثُمَّ قَالَ مِثْلهَا مِنْ الْغَد ; فَقَالَ الرَّجُل : أَنَا ; فَاسْتَخْلَفَهُ فَوَفَّى فَأَثْنَى اللَّه عَلَيْهِ فَسُمِّيَ ذَا الْكِفْل ; لِأَنَّهُ تَكَفَّلَ بِأَمْرٍ ; قَالَهُ أَبُو مُوسَى وَمُجَاهِد وَقَتَادَة . وَقَالَ عَمْرو بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن الْحَارِث وَقَالَ أَبُو مُوسَى عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ ذَا الْكِفْل لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا , وَلَكِنَّهُ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا فَتَكَفَّلَ بِعَمَلِ رَجُل صَالِح عِنْد مَوْته , وَكَانَ يُصَلِّي لِلَّهِ كُلّ يَوْم مِائَة صَلَاة فَأَحْسَنَ اللَّه الثَّنَاء عَلَيْهِ . و قَالَ كَعْب : كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيل مَلِك كَافِر فَمَرَّ بِبِلَادِهِ رَجُل صَالِح فَقَالَ : وَاَللَّه إِنْ خَرَجْت مِنْ هَذِهِ الْبِلَاد حَتَّى أَعْرِض عَلَى هَذَا الْمَلِك الْإِسْلَام . فَعَرَضَ عَلَيْهِ فَقَالَ : مَا جَزَائِي ؟ قَالَ : الْجَنَّة - وَوَصَفَهَا لَهُ - قَالَ : مَنْ يَتَكَفَّل لِي بِذَلِكَ ؟ قَالَ : أَنَا ; فَأَسْلَمَ الْمَلِك وَتَخَلَّى عَنْ الْمَمْلَكَة وَأَقْبَلَ عَلَى طَاعَة رَبّه حَتَّى مَاتَ , فَدُفِنَ فَأَصْبَحُوا فَوَجَدُوا يَده خَارِجَة مِنْ الْقَبْر وَفِيهَا رُقْعَة خَضْرَاء مَكْتُوب فِيهَا بِنُورٍ أَبْيَض : إِنَّ اللَّه قَدْ غَفَرَ لِي وَأَدْخَلَنِي الْجَنَّة وَوَفَّى عَنْ كَفَالَة فُلَان ; فَأَسْرَعَ النَّاس إِلَى ذَلِكَ الرَّجُل بِأَنْ يَأْخُذ عَلَيْهِمْ الْأَيْمَان , وَيَتَكَفَّل لَهُمْ بِمَا تَكَفَّلَ بِهِ لِلْمَلِكِ , فَفَعَلَ ذَلِكَ فَأُمِّنُوا كُلّهمْ فَسُمِّيَ ذَا الْكِفْل . وَقِيلَ : كَانَ رَجُلًا عَفِيفًا يَتَكَفَّل بِشَأْنِ كُلّ إِنْسَان وَقَعَ فِي بَلَاء أَوْ تُهْمَة أَوْ مُطَالَبَة فَيُنْجِيه اللَّه عَلَى يَدَيْهِ . وَقِيلَ : سُمِّيَ ذَا الْكِفْل لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى تَكَفَّلَ لَهُ فِي سَعْيه وَعَمَله بِضِعْفِ عَمَل غَيْره مِنْ الْأَنْبِيَاء الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانه . وَالْجُمْهُور عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِنَبِيٍّ . وَقَالَ الْحَسَن : هُوَ نَبِيّ قَبْل إِلْيَاس . وَقِيلَ : هُوَ زَكَرِيَّا بِكَفَالَةِ مَرْيَم .


أَيْ عَلَى أَمْر اللَّه وَالْقِيَام بِطَاعَتِهِ وَاجْتِنَاب مَعَاصِيه .
وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَسورة الأنبياء الآية رقم 86
" وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتنَا إِنَّهُمْ مِنْ الصَّالِحِينَ " أَيْ فِي الْجَنَّة
وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لّا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَسورة الأنبياء الآية رقم 87
أَيْ وَاذْكُرْ " ذَا النُّون " وَهُوَ لَقَب لِيُونُسَ بْن مَتَّى لِابْتِلَاعِ النُّون إِيَّاهُ . وَالنُّون الْحُوت . وَفِي حَدِيث عُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ رَأَى صَبِيًّا مَلِيحًا فَقَالَ : دَسِّمُوا نُونَته كَيْ لَا تُصِيبهُ الْعَيْن . رَوَى ثَعْلَب عَنْ اِبْن الْأَعْرَابِيّ : النُّونَة النُّقْبَة الَّتِي تَكُون فِي ذَقْن الصَّبِيّ الصَّغِير , وَمَعْنَى دَسِّمُوا سَوِّدُوا .



قَالَ الْحَسَن وَالشَّعْبِيّ وَسَعِيد بْن جُبَيْر : مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ . وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيّ وَالْقُتَبِيّ وَاسْتَحْسَنَهُ الْمَهْدَوِيّ , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود . وَقَالَ النَّحَّاس : وَرُبَّمَا أَنْكَرَ هَذَا مَنْ لَا يَعْرِف اللُّغَة وَهُوَ قَوْل صَحِيح . وَالْمَعْنَى : مُغَاضِبًا مِنْ أَجْل رَبّه , كَمَا تَقُول : غَضِبْت لَك أَيْ مِنْ أَجْلك . وَالْمُؤْمِن يَغْضَب لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا عُصِيَ . وَأَكْثَر أَهْل اللُّغَة يَذْهَب إِلَى أَنَّ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ : ( اِشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلَاء ) مِنْ هَذَا . وَبَالَغَ الْقُتَبِيّ فِي نُصْرَة هَذَا الْقَوْل . وَفِي الْخَبَر فِي وَصْف يُونُس : إِنَّهُ كَانَ ضَيِّق الصَّدْر فَلَمَّا حَمَلَ أَعْبَاء النُّبُوَّة تَفَسَّخَ تَحْتهَا تَفَسُّخ الرُّبُع تَحْت الْحِمْل الثَّقِيل , فَمَضَى عَلَى وَجْهه مُضِيّ الْآبِق النَّادّ . وَهَذِهِ الْمُغَاضَبَة كَانَتْ صَغِيرَة . وَلَمْ يَغْضَب عَلَى اللَّه وَلَكِنْ غَضِبَ لِلَّهِ إِذْ رَفَعَ الْعَذَاب عَنْهُمْ . وَقَالَ اِبْن مَسْعُود : أَبَقَ مِنْ رَبّه أَيْ مِنْ أَمْر رَبّه حَتَّى أَمَرَهُ بِالْعَوْدِ إِلَيْهِمْ بَعْد رَفْع الْعَذَاب عَنْهُمْ . فَإِنَّهُ كَانَ يَتَوَعَّد قَوْمه بِنُزُولِ الْعَذَاب فِي وَقْت مَعْلُوم , وَخَرَجَ مِنْ عِنْدهمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْت , فَأَظَلَّهُمْ الْعَذَاب فَتَضَرَّعُوا فَرُفِعَ عَنْهُمْ وَلَمْ يَعْلَم يُونُس بِتَوْبَتِهِمْ ; فَلِذَلِكَ ذَهَبَ مُغَاضِبًا وَكَانَ مِنْ حَقّه أَلَّا يَذْهَب إِلَّا بِإِذْنٍ مُحَدَّد . وَقَالَ الْحَسَن : أَمَرَهُ اللَّه تَعَالَى بِالْمَسِيرِ إِلَى قَوْمه فَسَأَلَ أَنْ يُنْظَر لِيَتَأَهَّبَ , فَأَعْجَلَهُ اللَّه حَتَّى سَأَلَ أَنْ يَأْخُذ نَعْلًا لِيَلْبَسهَا فَلَمْ يُنْظَر , وَقِيلَ لَهُ : الْأَمْر أَعْجَل مِنْ ذَلِكَ - وَكَانَ فِي خُلُقه ضِيق - فَخَرَجَ مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ , فَهَذَا قَوْل وَقَوْل النَّحَّاس أَحْسَن مَا قِيلَ فِي تَأْوِيله . أَيْ خَرَجَ مُغَاضِبًا مِنْ أَجْل رَبّه , أَيْ غَضِبَ عَلَى قَوْمه مِنْ أَجْل كُفْرهمْ بِرَبِّهِ . وَقِيلَ : إِنَّهُ غَاضَبَ قَوْمه حِين طَالَ عَلَيْهِ أَمْرهمْ وَتَعَنُّتهمْ فَذَهَبَ فَارًّا بِنَفْسِهِ , وَلَمْ يَصْبِر عَلَى أَذَاهُمْ وَقَدْ كَانَ اللَّه أَمَرَهُ بِمُلَازَمَتِهِمْ وَالدُّعَاء , فَكَانَ ذَنْبه خُرُوجه مِنْ بَيْنهمْ مِنْ غَيْر إِذْن مِنْ اللَّه . رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك , وَأَنَّ يُونُس كَانَ شَابًّا وَلَمْ يَحْمِل أَثْقَال النُّبُوَّة ; وَلِهَذَا قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوت " [ الْقَلَم : 48 ] . وَعَنْ الضَّحَّاك أَيْضًا خَرَجَ مُغَاضِبًا لِقَوْمِهِ ; لِأَنَّ قَوْمه لَمَّا لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ وَهُوَ رَسُول مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ كَفَرُوا بِهَذَا فَوَجَبَ أَنْ يُغَاضِبَهُمْ , وَعَلَى كُلّ أَحَد أَنْ يُغَاضِب مَنْ عَصَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ . وَقَالَتْ فِرْقَة مِنْهُمْ الْأَخْفَش : إِنَّمَا خَرَجَ مُغَاضِبًا لِلْمَلِكِ الَّذِي كَانَ عَلَى قَوْمه . قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَرَادَ شعيا النَّبِيّ وَالْمَلِك الَّذِي كَانَ فِي وَقْته اِسْمه حزقيا أَنْ يَبْعَثُوا يُونُس إِلَى مَلِك نِينَوَى , وَكَانَ غَزَا بَنِي إِسْرَائِيل وَسَبَى الْكَثِير مِنْهُمْ لِيُكَلِّمهُ حَتَّى يُرْسِل مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيل , وَكَانَ الْأَنْبِيَاء فِي ذَلِكَ الزَّمَان يُوحَى إِلَيْهِمْ , وَالْأَمْر وَالسِّيَاسَة إِلَى مَلِك قَدْ اِخْتَارُوهُ , فَيَعْمَل عَلَى وَحْي ذَلِكَ النَّبِيّ , وَكَانَ أَوْحَى اللَّه لشعيا : أَنْ قُلْ لحزقيا الْمَلِك أَنْ يَخْتَار نَبِيًّا قَوِيًّا أَمِينًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل فَيَبْعَثهُ إِلَى أَهْل نِينَوَى فَيَأْمُرهُمْ بِالتَّخْلِيَةِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيل فَإِنِّي مُلْقٍ فِي قُلُوب مُلُوكهمْ وَجَبَابِرَتهمْ التَّخْلِيَة عَنْهُمْ . فَقَالَ يُونُس لشعيا : هَلْ أَمَرَك اللَّه بِإِخْرَاجِي ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : فَهَلْ سَمَّانِي لَك ؟ قَالَ : لَا . قَالَ فَهَاهُنَا أَنْبِيَاء أُمَنَاء أَقْوِيَاء . فَأَلَحُّوا عَلَيْهِ فَخَرَجَ مُغَاضِبًا لِلنَّبِيِّ الْمَلِك وَقَوْمه , فَأَتَى بَحْر الرُّوم وَكَانَ مِنْ قِصَّته مَا كَانَ ; فَابْتُلِيَ بِبَطْنِ الْحُوت لِتَرْكِهِ أَمْر شعيا ; وَلِهَذَا قَالَ اللَّه تَعَالَى : " فَالْتَقَمَهُ الْحُوت وَهُوَ مُلِيم " [ الصَّافَّات : 142 ] وَالْمُلِيم مِنْ فِعْل مَا يُلَام عَلَيْهِ . وَكَانَ مَا فَعَلَهُ إِمَّا صَغِيرَة أَوْ تَرْك الْأَوْلَى . وَقِيلَ : خَرَجَ وَلَمْ يَكُنْ نَبِيًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْت وَلَكِنْ أَمَرَهُ مَلِك مِنْ مُلُوك بَنِي إِسْرَائِيل أَنْ يَأْتِي نِينَوَى ; لِيَدْعُوَ أَهْلهَا بِأَمْرِ شعيا فَأَنِفَ أَنْ يَكُون ذَهَابه إِلَيْهِمْ بِأَمْرِ أَحَد غَيْر اللَّه , فَخَرَجَ مُغَاضِبًا لِلْمَلِكِ ; فَلَمَّا نَجَا مِنْ بَطْن الْحُوت بَعَثَهُ اللَّه إِلَى قَوْمه فَدَعَاهُمْ وَآمَنُوا بِهِ . وَقَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَالْأَظْهَر أَنَّ هَذِهِ الْمُغَاضَبَة كَانَتْ بَعْد إِرْسَال اللَّه تَعَالَى إِيَّاهُ , وَبَعْد رَفْع الْعَذَاب عَنْ الْقَوْم بَعْدَمَا أَظَلَّهُمْ ; فَإِنَّهُ كَرِهَ رَفْع الْعَذَاب عَنْهُمْ . قُلْت : هَذَا أَحْسَن مَا قِيلَ فِيهِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي " وَالصَّافَّات " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقِيلَ : إِنَّهُ كَانَ مِنْ أَخْلَاق قَوْمه قَتْل مَنْ جَرَّبُوا عَلَيْهِ الْكَذِب فَخَشِيَ أَنْ يُقْتَل فَغَضِبَ , وَخَرَجَ فَارًّا عَلَى وَجْهه حَتَّى رَكِبَ فِي سَفِينَة فَسَكَنَتْ وَلَمْ تَجْرِ . فَقَالَ أَهْلهَا : أَفِيكُمْ آبِق ؟ فَقَالَ : أَنَا هُوَ . وَكَانَ مِنْ قِصَّته مَا كَانَ , وَابْتُلِيَ بِبَطْنِ الْحُوت تَمْحِيصًا مِنْ الصَّغِيرَة كَمَا قَالَ فِي أَهْل أُحُد : " حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ " [ آل عِمْرَان : 152 ] إِلَى قَوْله : " وَلِيُمَحِّصَ اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا " [ آل عِمْرَان : 141 ] فَمَعَاصِي الْأَنْبِيَاء مَغْفُورَة , وَلَكِنْ قَدْ يَجْرِي تَمْحِيص وَيَتَضَمَّن ذَلِكَ زَجْرًا عَنْ الْمُعَاوَدَة . وَقَوْل رَابِع : إِنَّهُ لَمْ يُغَاضِب رَبّه , وَلَا قَوْمه , وَلَا الْمَلِك , وَأَنَّهُ مِنْ قَوْلهمْ غَضِبَ إِذَا أَنِفَ . وَفَاعِل قَدْ يَكُون مِنْ وَاحِد ; فَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا وَعَدَ قَوْمه بِالْعَذَابِ وَخَرَجَ عَنْهُمْ تَابُوا وَكُشِفَ عَنْهُمْ الْعَذَاب , فَلَمَّا رَجَعَ وَعَلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَهْلِكُوا أَنِفَ مِنْ ذَلِكَ فَخَرَجَ آبِقًا . وَيُنْشَد هَذَا الْبَيْت : وَأَغْضَب أَنْ تُهْجَى تَمِيم بِدَارِمٍ أَيْ أَنِفَ . وَهَذَا فِيهِ نَظَر ; فَإِنَّهُ يُقَال لِصَاحِبِ هَذَا الْقَوْل : إِنَّ تِلْكَ الْمُغَاضَبَة وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْأَنَفَة , فَالْأَنَفَة لَا بُدّ أَنْ يُخَالِطهَا الْغَضَب وَذَلِكَ الْغَضَب وَإِنْ دَقَّ عَلَى مَنْ كَانَ ؟ ! وَأَنْتَ تَقُول لَمْ يَغْضَب عَلَى رَبّه وَلَا عَلَى قَوْمه ! .



قِيلَ : مَعْنَاهُ اسْتَنْزَلَهُ إِبْلِيس وَوَقَعَ فِي ظَنّه إِمْكَان أَلَّا يَقْدِر اللَّه عَلَيْهِ بِمُعَاقَبَتِهِ . وَهَذَا قَوْل مَرْدُود مَرْغُوب عَنْهُ ; لِأَنَّهُ كُفْر . رُوِيَ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر حَكَاهُ عَنْهُ الْمَهْدَوِيّ , وَالثَّعْلَبِيّ عَنْ الْحَسَن . وَذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ وَقَالَ عَطَاء وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَكَثِير مِنْ الْعُلَمَاء مَعْنَاهُ : فَظَنَّ أَنْ لَنْ نُضَيِّق عَلَيْهِ . قَالَ الْحَسَن : هُوَ مِنْ قَوْله تَعَالَى : " اللَّه يَبْسُط الرِّزْق لِمَنْ يَشَاء وَيَقْدِر " [ الرَّعْد : 26 ] أَيْ يُضَيِّق . وَقَوْله " وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقه " [ الطَّلَاق : 7 ] . قُلْت : وَهَذَا الْأَشْبَه بِقَوْلِ سَعِيد وَالْحَسَن . وَقَدَرَ وَقُدِرَ وَقَتَرَ وَقُتِرَ بِمَعْنًى , أَيْ ضُيِّقَ وَهُوَ قَوْل اِبْن عَبَّاس فِيمَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ وَالْمَهْدَوِيّ . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ الْقَدْر الَّذِي هُوَ الْقَضَاء وَالْحُكْم ; أَيْ فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْضِي عَلَيْهِ بِالْعُقُوبَةِ ; قَالَهُ قَتَادَة وَمُجَاهِد وَالْفَرَّاء . مَأْخُوذ مِنْ الْقَدْر وَهُوَ الْحُكْم دُون الْقُدْرَة وَالِاسْتِطَاعَة . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاس أَحْمَد بْن يَحْيَى ثَعْلَب , أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِر عَلَيْهِ " هُوَ مِنْ التَّقْدِير لَيْسَ مِنْ الْقُدْرَة , يُقَال مِنْهُ : قَدَرَ اللَّه لَك الْخَيْر يَقْدِرهُ قَدْرًا , بِمَعْنَى قَدَرَ اللَّه لَك الْخَيْر . وَأَنْشَدَ ثَعْلَب : فَلَيْسَتْ عَشِيَّات اللَّوَى بِرَوَاجِعَ لَنَا أَبَدًا مَا أَوْرَقَ السِّلْم النَّضْر وَلَا عَائِد ذَاكَ الزَّمَان الَّذِي مَضَى تَبَارَكَتْ مَا تَقْدِر يَقَع وَلَك الشُّكْر يَعْنِي مَا تَقْدِرهُ وَتَقْضِي بِهِ يَقَع . وَعَلَى هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ الْعُلَمَاء . وَقَرَأَ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَالزُّهْرِيّ : " فَظَنَّ أَنْ لَنْ نُقَدِّر عَلَيْهِ " بِضَمِّ النُّون وَتَشْدِيد الدَّال مِنْ التَّقْدِير . وَحَكَى هَذِهِ الْقِرَاءَة الْمَاوَرْدِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَقَرَأَ عُبَيْد بْن عُمَيْر وَقَتَادَة وَالْأَعْرَج : " أَنْ لَنْ يُقَدَّر عَلَيْهِ " بِضَمِّ الْيَاء مُشَدَّدًا عَلَى , الْفِعْل الْمَجْهُول . وَقَرَأَ يَعْقُوب وَعَبْد اللَّه بْن أَبِي إِسْحَاق وَالْحَسَن وَابْن عَبَّاس أَيْضًا " يُقْدَر عَلَيْهِ " بِيَاءٍ مَضْمُومَة وَفَتْح الدَّال مُخَفَّفًا عَلَى الْفِعْل الْمَجْهُول . وَعَنْ الْحَسَن أَيْضًا " فَظَنَّ أَنْ لَنْ يَقْدِر عَلَيْهِ " . الْبَاقُونَ " نَقْدِر " بِفَتْحِ النُّون وَكَسْر الدَّال وَكُلّه بِمَعْنَى التَّقْدِير . قُلْت : وَهَذَانِ التَّأْوِيلَانِ تَأَوَّلَهُمَا الْعُلَمَاء فِي قَوْل الرَّجُل الَّذِي لَمْ يَعْمَل خَيْرًا قَطُّ لِأَهْلِهِ إِذَا مَاتَ فَحَرَقُوهُ ( فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّه عَلَيَّ ) الْحَدِيث فَعَلَى التَّأْوِيل الْأَوَّل يَكُون تَقْدِيره : وَاَللَّه لَئِنْ ضَيَّقَ اللَّه عَلَيَّ وَبَالَغَ فِي مُحَاسَبَتِي وَجَزَائِي عَلَى ذُنُوبِي لَيَكُونَنَّ ذَلِكَ , ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يُحْرَق بِإِفْرَاطِ خَوْفه . وَعَلَى التَّأْوِيل الثَّانِي : أَيْ لَئِنْ كَانَ سَبَقَ فِي قَدَر اللَّه وَقَضَائِهِ أَنْ يُعَذِّب كُلّ ذِي جُرْم عَلَى جُرْمه لَيُعَذِّبَنِّي اللَّه عَلَى إِجْرَامِي وَذُنُوبِي عَذَابًا لَا يُعَذِّبهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ غَيْرِي . وَحَدِيثه خَرَّجَهُ الْأَئِمَّة فِي الْمُوَطَّأ وَغَيْره . وَالرَّجُل كَانَ مُؤْمِنًا مُوَحِّدًا . وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْض طُرُقه ( لَمْ يَعْمَل خَيْرًا إِلَّا التَّوْحِيد ) وَقَدْ قَالَ حِين قَالَ اللَّه تَعَالَى : لِمَ فَعَلْت هَذَا ؟ قَالَ : مِنْ خَشْيَتك يَا رَبّ . وَالْخَشْيَة لَا تَكُون إِلَّا لِمُؤْمِنٍ مُصَدِّق ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " إِنَّمَا يَخْشَى اللَّه مِنْ عِبَاده الْعُلَمَاء " . [ فَاطِر : 28 ] . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ مَعْنَى " فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِر عَلَيْهِ " الِاسْتِفْهَام وَتَقْدِيره : أَفَظَنَّ , فَحُذِفَ أَلِف الِاسْتِفْهَام إِيجَازًا ; وَهُوَ قَوْل سُلَيْمَان " أَبُو " الْمُعْتَمِر . وَحَكَى الْقَاضِي مُنْذِر بْن سَعِيد : أَنَّ بَعْضهمْ قَرَأَ " أَفَظَنَّ " بِالْأَلِفِ .



فِيهِ مَسْأَلَتَانِ : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " فَنَادَى فِي الظُّلُمَات " اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي جَمْع الظُّلُمَات مَا الْمُرَاد بِهِ , فَقَالَتْ فِرْقَة مِنْهُمْ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة : ظُلْمَة اللَّيْل , وَظُلْمَة الْبَحْر , وَظُلْمَة الْحُوت . وَذَكَرَ اِبْن أَبِي الدُّنْيَا حَدَّثَنَا يُوسُف بْن مُوسَى حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه بْن مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيل عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ عَمْرو بْن مَيْمُون قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود فِي بَيْت الْمَال قَالَ : لَمَّا اِبْتَلَعَ الْحُوت يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام أَهْوَى بِهِ إِلَى قَرَار الْأَرْض , فَسَمِعَ يُونُس تَسْبِيح الْحَصَى فَنَادَى فِي الظُّلُمَات ظُلُمَات ثَلَاث : ظُلْمَة بَطْن الْحُوت , وَظُلْمَة اللَّيْل , وَظُلْمَة الْبَحْر " أَنْ لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانك إِنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ " " فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيم " [ الصَّافَّات : 145 ] كَهَيْئَةِ الْفَرْخ الْمَمْعُوط الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ رِيش . وَقَالَتْ فِرْقَة مِنْهُمْ سَالِم بْن أَبِي الْجَعْد : ظُلْمَة الْبَحْر , وَظُلْمَة حُوت اِلْتَقَمَ الْحُوت الْأَوَّل . وَيَصِحّ أَنْ يُعَبَّر بِالظُّلُمَاتِ عَنْ جَوْف الْحُوت الْأَوَّل فَقَطْ ; كَمَا قَالَ : " فِي غَيَابَة الْجُبّ " [ يُوسُف : 10 ] وَفِي كُلّ جِهَاته ظُلْمَة فَجَمْعهَا سَائِغ . وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيّ : أَنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يُعَبَّر بِالظُّلُمَاتِ عَنْ ظُلْمَة الْخَطِيئَة , و ظُلْمَة الشِّدَّة , وَظُلْمَة الْوَحْدَة . وَرُوِيَ : أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَوْحَى إِلَى الْحُوت : " لَا تُؤْذِ مِنْهُ شَعْرَة فَإِنِّي جَعَلْت بَطْنك سِجْنه وَلَمْ أَجْعَلهُ طَعَامك " وَرُوِيَ : أَنَّ يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام سَجَدَ فِي جَوْف الْحُوت حِين سَمِعَ تَسْبِيح الْحِيتَان فِي قَعْر الْبَحْر . وَذَكَرَ اِبْن أَبِي الدُّنْيَا حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بْن يَزِيد الْعَبْدِيّ حَدَّثَنَا إِسْحَاق بْن إِدْرِيس حَدَّثَنَا جَعْفَر بْن سُلَيْمَان عَنْ عَوْف عَنْ سَعِيد بْن أَبِي الْحَسَن قَالَ : لَمَّا اِلْتَقَمَ الْحُوت يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ فَطَوَّلَ رِجْلَيْهِ فَإِذَا هُوَ لَمْ يَمُتْ فَقَامَ إِلَى عَادَته يُصَلِّي فَقَالَ فِي دُعَائِهِ : " وَاِتَّخَذْت لَك مَسْجِدًا حَيْثُ لَمْ يَتَّخِذهُ أَحَد " . وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي : قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُس بْن مَتَّى ) الْمَعْنَى فَإِنِّي لَمْ أَكُنْ وَأَنَا فِي سِدْرَة الْمُنْتَهَى بِأَقْرَبَ إِلَى اللَّه مِنْهُ , وَهُوَ فِي قَعْر الْبَحْر فِي بَطْن الْحُوت . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْبَارِي سُبْحَانه وَتَعَالَى لَيْسَ فِي جِهَة . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي " الْبَقَرَة " وَ " الْأَعْرَافِ " . " أَنْ لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانك إِنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ " يُرِيد فِيمَا خَالَفَ فِيهِ مِنْ تَرْك مُدَاوَمَة قَوْمه وَالصَّبْر عَلَيْهِمْ وَقِيلَ : فِي الْخُرُوج مِنْ غَيْر أَنْ يُؤْذَن لَهُ . وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ اللَّه عُقُوبَة ; لِأَنَّ الْأَنْبِيَاء لَا يَجُوز أَنْ يُعَاقَبُوا , وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ تَمْحِيصًا . وَقَدْ يُؤَدَّب مَنْ لَا يَسْتَحِقّ الْعِقَاب كَالصِّبْيَانِ ; ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ . وَقِيلَ : مِنْ الظَّالِمِينَ فِي دُعَائِي عَلَى قَوْمِي بِالْعَذَابِ . وَقَدْ دَعَا نُوح عَلَى قَوْمه فَلَمْ يُؤَاخَذ . وَقَالَ الْوَاسِطِيّ فِي مَعْنَاهُ : نَزَّهَ رَبّه عَنْ الظُّلْم وَأَضَافَ الظُّلْم إِلَى نَفْسه اِعْتِرَافًا وَاسْتِحْقَاقًا . وَمِثْل هَذَا قَوْل آدَم وَحَوَّاء : " رَبّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسنَا " [ الْأَعْرَاف : 23 ] إِذْ كَانَا السَّبَب فِي وَضْعهمَا أَنْفُسهمَا فِي غَيْر الْمَوْضِع الَّذِي أُنْزِلَا فِيهِ .

الثَّانِيَة : رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( دُعَاء ذِي النُّون فِي بَطْن الْحُوت " لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانك إِنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ " لَمْ يَدْعُ بِهِ رَجُل مُسْلِم فِي شَيْء قَطُّ إِلَّا اُسْتُجِيبَ لَهُ ) وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهُ اِسْم اللَّه الْأَعْظَم . وَرَوَاهُ سَعْد عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفِي الْخَبَر : فِي هَذِهِ الْآيَة شَرَطَ اللَّه لِمَنْ دَعَاهُ أَنْ يُجِيبهُ كَمَا أَجَابَهُ وَيُنْجِيه كَمَا أَنْجَاهُ , وَهُوَ قَوْله : " وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ " وَلَيْسَ هَاهُنَا صَرِيح دُعَاء وَهُوَ وَإِنَّمَا هُوَ مَضْمُون قَوْله : " إِنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ " فَاعْتَرَفَ بِالظُّلْمِ فَكَانَ تَلْوِيحًا .
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَسورة الأنبياء الآية رقم 88
أَيْ نُخَلِّصهُمْ مِنْ هَمّهمْ بِمَا سَبَقَ مِنْ عَمَلهمْ . وَذَلِكَ قَوْله : " فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنه إِلَى يَوْم يُبْعَثُونَ " [ الصَّافَّات : 143 - 144 ] وَهَذَا حِفْظ مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لِعَبْدِهِ يُونُس رَعَى لَهُ حَقّ تَعَبُّده , وَحَفِظَ زِمَام مَا سَلَفَ لَهُ مِنْ الطَّاعَة . وَقَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق : صَحِبَ ذُو النُّون الْحُوت أَيَّامًا قَلَائِل فَإِلَى يَوْم الْقِيَامَة يُقَال لَهُ ذُو النُّون , فَمَا ظَنّك بِعَبْدٍ عَبَدَهُ سَبْعِينَ سَنَة يَبْطُل هَذَا عِنْده ! لَا يُظَنّ بِهِ ذَلِكَ . " مِنْ الْغَمّ " أَيْ مِنْ بَطْن الْحُوت . قَوْله تَعَالَى : " وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ " قِرَاءَة الْعَامَّة بِنُونَيْنِ مِنْ أَنْجَى يُنْجِي . وَقَرَأَ اِبْن عَامِر " نُجِّي " بِنُونٍ وَاحِدَة وَجِيم مُشَدَّدَة وَتَسْكِين الْيَاء عَلَى الْفِعْل الْمَاضِي وَإِضْمَار الْمَصْدَر أَيْ وَكَذَلِكَ نُجِّي النَّجَاء الْمُؤْمِنِينَ ; كَمَا تَقُول : ضُرِبَ زَيْدًا بِمَعْنَى ضُرِبَ الضَّرْب زَيْدًا وَأَنْشَدَ : وَلَوْ وَلَدَتْ قُفَيْرَة جِرْو كَلْب لَسُبَّ بِذَلِكَ الْجِرْو الْكِلَابَا أَرَادَ لَسُبَّ السَّبّ بِذَلِكَ الْجِرْو . وَسَكَنَتْ يَاؤُهُ عَلَى لُغَة مَنْ يَقُول بَقِيَ وَرَضِيَ فَلَا يُحَرَّك الْيَاء . وَقَرَأَ الْحَسَن " وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا " [ الْبَقَرَة : 278 ] اِسْتِثْقَالًا لِتَحْرِيكِ يَاء قَبْلهَا كَسْرَة . وَأَنْشَدَ : خَمَّرَ الشَّيْب لِمَّتِي تَخْمِيرًا وَحَدَا بِي إِلَى الْقُبُور الْبَعِيرَا لَيْتَ شِعْرِي إِذَا الْقِيَامَة قَامَتْ وَدُعِي بِالْحِسَابِ أَيْنَ الْمَصِيرَا سَكَنَ الْيَاء فِي دُعِي اِسْتِثْقَالًا لِتَحْرِيكِهَا وَقَبْلهَا كَسْرَة وَفَاعِل حَدَا الشَّيْب ; أَيْ وَحَدَا الشَّيْب الْبَعِير ; لَيْتَ شِعْرِي الْمَصِير أَيْنَ هُوَ . هَذَا تَأْوِيل الْفَرَّاء وَأَبِي عُبَيْد وَثَعْلَب فِي تَصْوِيب هَذِهِ الْقِرَاءَة . وَخَطَّأَهَا أَبُو حَاتِم وَالزَّجَّاج وَقَالُوا : هُوَ لَحْن ; لِأَنَّهُ نَصْب اِسْم مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله ; وَإِنَّمَا يُقَال : نُجِّيَ الْمُؤْمِنُونَ . كَمَا يُقَال : كُرِّمَ الصَّالِحُونَ . وَلَا يَجُوز ضُرِبَ زَيْدًا بِمَعْنَى ضُرِبَ الضَّرْب زَيْدًا ; لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة [ فِيهِ ] إِذْ كَانَ ضَرْب يَدُلّ عَلَى الضَّرْب . وَلَا يَجُوز أَنْ يُحْتَجّ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْبَيْت عَلَى كِتَاب اللَّه تَعَالَى . وَلِأَبِي عُبَيْد قَوْل آخَر - وَقَالَهُ الْقُتَبِيّ - وَهُوَ أَنَّهُ أَدْغَمَ النُّون فِي الْجِيم . النَّحَّاس : وَهَذَا الْقَوْل لَا يَجُوز عِنْد أَحَد مِنْ النَّحْوِيِّينَ ; لِبُعْدِ مَخْرَج النُّون مِنْ مَخْرَج الْجِيم فَلَا تُدْغَم فِيهَا , وَلَا يَجُوز فِي " مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ " " مَجَّاءَ بِالْحَسَنَةِ " قَالَ النَّحَّاس : وَلَمْ أَسْمَع فِي هَذَا أَحْسَن مِنْ شَيْء سَمِعْته مِنْ عَلِيّ بْن سُلَيْمَان . قَالَ : الْأَصْل نُنْجِي فَحُذِفَ إِحْدَى النُّونَيْنِ ; لِاجْتِمَاعِهِمَا كَمَا تُحْذَف إِحْدَى التَّاءَيْنِ ; لِاجْتِمَاعِهِمَا نَحْو قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " وَلَا تَفَرَّقُوا " [ آل عِمْرَان : 103 ] وَالْأَصْل تَتَفَرَّقُوا . وَقَرَأَ مُحَمَّد بْن السَّمَيْقَع وَأَبُو الْعَالِيَة " وَكَذَلِكَ نَجَّى الْمُؤْمِنِينَ " أَيْ نَجَّى اللَّه الْمُؤْمِنِينَ ; وَهِيَ حَسَنَة .
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَسورة الأنبياء الآية رقم 89
أَيْ وَاذْكُرْ زَكَرِيَّا . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " آل عِمْرَان " ذِكْره .


أَيْ مُنْفَرِدًا لَا وَلَد لِي وَقَدْ تَقَدَّمَ .


أَيْ خَيْر مَنْ يَبْقَى بَعْد كُلّ مَنْ يَمُوت ; وَإِنَّمَا قَالَ " وَأَنْتَ خَيْر الْوَارِثِينَ " لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْله : " يَرِثنِي " [ مَرْيَم : 6 ] أَيْ أَعْلَم أَنَّك , لَا تُضَيِّع دِينك , وَلَكِنْ لَا تَقْطَع هَذِهِ الْفَضِيلَة الَّتِي هِيَ الْقِيَام بِأَمْرِ الدِّين عَنْ عَقِبِي . كَمَا تَقَدَّمَ فِي " مَرْيَم " بَيَانه .
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَسورة الأنبياء الآية رقم 90
أَيْ أَجَبْنَا دُعَاءَهُ :


قَالَ قَتَادَة وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَأَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ : إِنَّهَا كَانَتْ عَاقِرًا فَجُعِلَتْ وَلُودًا . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَعَطَاء : كَانَتْ سَيِّئَة الْخُلُق , طَوِيلَة اللِّسَان , فَأَصْلَحَهَا اللَّه فَجَعَلَهَا حَسَنَة الْخُلُق . قُلْت : وَيَحْتَمِل أَنْ تَكُون جَمَعَتْ الْمَعْنَيَيْنِ فَجُعِلَتْ حَسَنَة الْخَلْق وَلُودًا . " إِنَّهُمْ " يَعْنِي الْأَنْبِيَاء الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ السُّورَة



وَقِيلَ : الْكِنَايَة رَاجِعَة إِلَى زَكَرِيَّا وَامْرَأَته وَيَحْيَى .



أَيْ يَفْزَعُونَ إِلَيْنَا فَيَدْعُونَنَا فِي حَال الرَّخَاء وَحَال الشِّدَّة . وَقِيلَ : الْمَعْنَى يَدْعُونَ وَقْت تَعَبُّدهمْ وَهُمْ بِحَالِ رَغْبَة وَرَجَاء وَرَهْبَة وَخَوْف , لِأَنَّ الرَّغْبَة وَالرَّهْبَة مُتَلَازِمَانِ . وَقِيلَ : الرَّغَب رَفْع بُطُون الْأَكُفّ إِلَى السَّمَاء , وَالرَّهَب رَفْع ظُهُورهَا ; قَالَهُ خُصَيْف ; وَقَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَتَلْخِيص هَذَا أَنَّ عَادَة كُلّ دَاعٍ مِنْ الْبَشَر أَنْ يَسْتَعِين بِيَدَيْهِ فَالرَّغَب مِنْ حَيْثُ هُوَ طَلَب يَحْسُن مِنْهُ أَنْ يُوَجِّه بَاطِن الرَّاح نَحْو الْمَطْلُوب مِنْهُ , إِذْ هُوَ مَوْضِع إِعْطَاء أَوْ بِهَا يُتَمَلَّك , وَالرَّهَب مِنْ حَيْثُ هُوَ دَفْع مَضَرَّة يَحْسُن مَعَهُ طَرْح ذَلِكَ , وَالْإِشَارَة إِلَى ذَهَابه وَتَوَقِّيه بِنَفْضِ الْيَد وَنَحْوه .

رَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاء لَمْ يَحُطّهُمَا حَتَّى يَمْسَح بِهِمَا وَجْهه وَقَدْ مَضَى فِي " الْأَعْرَاف " الِاخْتِلَاف فِي رَفْع الْأَيْدِي , وَذَكَرْنَا هَذَا الْحَدِيث وَغَيْره هُنَاكَ . وَعَلَى الْقَوْل بِالرَّفْعِ فَقَدْ اِخْتَلَفَ النَّاس فِي صِفَته وَإِلَى أَيْنَ ؟ فَكَانَ بَعْضهمْ يَخْتَار أَنْ يَبْسُط كَفَّيْهِ رَافِعهمَا حَذْو صَدْره وَبُطُونهمَا إِلَى وَجْهه ; رُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس . وَكَانَ عَلِيّ يَدْعُو بِبَاطِنِ كَفَّيْهِ ; وَعَنْ أَنَس مِثْله , وَهُوَ ظَاهِر حَدِيث التِّرْمِذِيّ . وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا سَأَلْتُمْ اللَّه فَاسْأَلُوهُ بِبُطُونِ أَكُفّكُمْ وَلَا تَسْأَلُوهُ بِظُهُورِهَا وَامْسَحُوا بِهَا وُجُوهكُمْ ) . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر وَابْن الزُّبَيْر بِرَفْعِهِمَا إِلَى وَجْهه , وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ ; قَالَ : وَقَفَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ فَجَعَلَ يَدْعُو وَجَعَلَ ظَهْر كَفَّيْهِ مِمَّا يَلِي وَجْهه , وَرَفَعَهُمَا فَوْق ثَدْيَيْهِ وَأَسْفَل مِنْ مَنْكِبَيْهِ وَقِيلَ : حَتَّى يُحَاذِي بِهِمَا وَجْهه وَظُهُورهمَا مِمَّا يَلِي وَجْهه . قَالَ أَبُو جَعْفَر الطَّبَرِيّ وَالصَّوَاب أَنْ يُقَال : إِنَّ كُلّ هَذِهِ الْآثَار الْمَرْوِيَّة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّفِقَة غَيْر مُخْتَلِفَة الْمَعَانِي , وَجَائِز أَنْ يَكُون ذَلِكَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِاخْتِلَافِ أَحْوَال الدُّعَاء كَمَا قَالَ اِبْن عَبَّاس : إِذَا أَشَارَ أَحَدكُمْ بِإِصْبَعٍ وَاحِد فَهُوَ الْإِخْلَاص , وَإِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ حَذْو صَدْره فَهُوَ الدُّعَاء , وَإِذَا رَفَعَهُمَا حَتَّى يُجَاوِز بِهِمَا رَأْسه وَظَاهِرهمَا مِمَّا يَلِي وَجْهه فَهُوَ الِابْتِهَال . قَالَ الطَّبَرِيّ وَقَدْ رَوَى قَتَادَة عَنْ أَنَس قَالَ : رَأَيْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو بِظَهْرِ كَفَّيْهِ وَبَاطِنهمَا . وَ " رَغَبًا وَرَهَبًا " مَنْصُوبَانِ عَلَى الْمَصْدَر ; أَيْ يَرْغَبُونَ رَغَبًا وَيَرْهَبُونَ رَهَبًا . أَوْ عَلَى الْمَفْعُول مِنْ أَجْله ; أَيْ لِلرَّغَبِ وَالرَّهَب . أَوْ عَلَى الْحَال . وَقَرَأَ طَلْحَة بْن مُصَرِّف " وَيَدْعُونَا " بِنُونٍ وَاحِدَة . وَقَرَأَ الْأَعْمَش بِضَمِّ الرَّاء وَإِسْكَان الْغَيْن وَالْهَاء مِثْل السُّقْم وَالْبُخْل , وَالْعُدْم وَالضُّرّ لُغَتَانِ وَابْن وَثَّاب وَالْأَعْمَش أَيْضًا " رَغَبًا وَرَهَبًا " بِالْفَتْحِ فِي الرَّاء وَالتَّخْفِيف فِي الْغَيْن وَالْهَاء , وَهُمَا لُغَتَانِ . مِثْل نَهْر وَنَهَر وَصَخْر وَصَخَر . وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَة عَنْ أَبِي عَمْرو .


" وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ " أَيْ مُتَوَاضِعِينَ خَاضِعِينَ .
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4