الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَسورة النحل الآية رقم 31
بَدَلًا مِنْ الدَّار فَلِذَلِكَ اِرْتَفَعَ . وَقِيلَ : اِرْتَفَعَ عَلَى تَقْدِير هِيَ جَنَّات , فَهِيَ مُبَيِّنَة لِقَوْلِهِ : " دَار الْمُتَّقِينَ " . أَوْ تَكُون مَرْفُوعَة بِالِابْتِدَاءِ , التَّقْدِير : جَنَّات عَدْن نِعْمَ دَار الْمُتَّقِينَ .


فِي مَوْضِع الصِّفَة , أَيْ مَدْخُولَة . وَقِيلَ : " جَنَّات " رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ , وَخَبَره " يَدْخُلُونَهَا " وَعَلَيْهِ يُخَرَّج قَوْل الْحَسَن . وَاَللَّه أَعْلَم .


فِي مَوْضِع النَّعْت لِجَنَّاتٍ وَهُوَ مَرْفُوع , لِأَنَّهُ فِعْل مُسْتَقْبَل فَحُذِفَتْ الضَّمَّة مِنْ الْيَاء لِثِقَلِهَا مَعَهَا .


أَيْ مِنْ تَحْت أَشْجَارهَا , وَلَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْر , لِأَنَّ الْجَنَّات دَالَّة عَلَيْهَا .



أَيْ مَاء الْأَنْهَار , فَنُسِبَ الْجَرْي إِلَى الْأَنْهَار تَوَسُّعًا , وَإِنَّمَا يَجْرِي الْمَاء وَحْده فَحُذِفَ اِخْتِصَارًا , كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَاسْأَلْ الْقَرْيَة " [ يُوسُف : 82 ] أَيْ أَهْلهَا . وَقَالَ الشَّاعِر : نُبِّئْت أَنَّ النَّار بَعْدك أُوقِدَتْ وَاسْتَبَّ بَعْدك يَا كُلَيْب الْمَجْلِس أَرَادَ : أَهْل الْمَجْلِس ; فَحَذَفَ . وَالنَّهَر : مَأْخُوذ مِنْ أَنْهَرْت , أَيْ وَسَّعْت , وَمِنْهُ قَوْل قَيْس بْن الْخُطَيْم : مَلَكْت بِهَا كَفِّي فَأَنْهَرْت فَتْقهَا يَرَى قَائِم مِنْ دُونهَا مَا وَرَاءَهَا أَيْ وَسَّعْتهَا , يَصِف طَعْنَة . وَمِنْهُ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا أَنْهَرَ الدَّم وَذُكِرَ اِسْم اللَّه عَلَيْهِ فَكُلُوهُ ) . مَعْنَاهُ : مَا وَسَّعَ الذَّبْح حَتَّى يَجْرِي الدَّم كَالنَّهَرِ . وَجَمْع النَّهَر : نُهْر وَأَنْهَار . وَنَهَر نَهِر : كَثِير الْمَاء ; قَالَ أَبُو ذُؤَيْب : أَقَامَتْ بِهِ فَابْتَنَتْ خَيْمَة عَلَى قَصَب وَفُرَات نَهِر وَرُوِيَ : أَنَّ أَنْهَار الْجَنَّة لَيْسَتْ فِي أَخَادِيد , إِنَّمَا تَجْرِي عَلَى سَطْح الْجَنَّة مُنْضَبِطَة بِالْقُدْرَةِ حَيْثُ شَاءَ أَهْلهَا . وَالْوَقْف عَلَى " الْأَنْهَار " حَسَن وَلَيْسَ بِتَامٍّ ,



أَيْ مِمَّا تَمَنَّوْهُ وَأَرَادُوهُ .


أَيْ مِثْل هَذَا الْجَزَاء يَجْزِي اللَّه الْمُتَّقِينَ .
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَسورة النحل الآية رقم 32
قَرَأَ الْأَعْمَش وَحَمْزَة " يَتَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَة " فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِالْيَاءِ , وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْد ; لِمَا رُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ قُرَيْشًا زَعَمُوا أَنَّ الْمَلَائِكَة إِنَاث فَذَكِّرُوهُمْ أَنْتُمْ . الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ ; لِأَنَّ الْمُرَاد بِهِ الْجَمَاعَة مِنْ الْمَلَائِكَة . و " طَيِّبِينَ " فِيهِ سِتَّة أَقْوَال : الْأَوَّل : " طَيِّبِينَ " طَاهِرِينَ مِنْ الشِّرْك . الثَّانِي : صَالِحِينَ . الثَّالِث : زَاكِيَة أَفْعَالهمْ وَأَقْوَالهمْ . الرَّابِع : طَيِّبِينَ الْأَنْفُس ثِقَة بِمَا يَلْقَوْنَهُ مِنْ ثَوَاب اللَّه تَعَالَى . الْخَامِس : طَيِّبَة نُفُوسهمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى اللَّه . السَّادِس : " طَيِّبِينَ " أَنْ تَكُون وَفَاتهمْ طَيِّبَة سَهْلَة لَا صُعُوبَة فِيهَا وَلَا أَلَم ; بِخِلَافِ مَا تُقْبَض بِهِ رُوح الْكَافِر وَالْمُخَلِّط . وَاَللَّه أَعْلَم .



يَحْتَمِل وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا : أَنْ يَكُون السَّلَام إِنْذَارًا لَهُمْ بِالْوَفَاةِ . الثَّانِي : أَنْ يَكُون تَبْشِيرًا لَهُمْ بِالْجَنَّةِ ; لِأَنَّ السَّلَام أَمَان . وَذَكَرَ اِبْن الْمُبَارَك قَالَ : حَدَّثَنِي حَيْوَة قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو صَخْر عَنْ مُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ قَالَ : إِذَا اِسْتَنْقَعَتْ نَفْس الْعَبْد الْمُؤْمِن جَاءَهُ مَلَك الْمَوْت فَقَالَ : السَّلَام عَلَيْك وَلِيّ اللَّهِ اللَّهُ يَقْرَأ عَلَيْك السَّلَام . ثُمَّ نَزَعَ بِهَذِهِ الْآيَة " الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَة طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَام عَلَيْكُمْ " . وَقَالَ اِبْن مَسْعُود : إِذَا جَاءَ مَلَك الْمَوْت يَقْبِض رُوح الْمُؤْمِن قَالَ : رَبّك يُقْرِئك السَّلَام . وَقَالَ مُجَاهِد : إِنَّ الْمُؤْمِن لَيُبَشَّر بِصَلَاحِ وَلَده مِنْ بَعْده لِتَقَرّ عَيْنه . وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى هَذَا فِي ( كِتَاب التَّذْكِرَة ) وَذَكَرْنَا هُنَاكَ الْأَخْبَار الْوَارِدَة فِي هَذَا الْمَعْنَى , وَالْحَمْد لِلَّهِ .


يَحْتَمِل وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا : أَنْ يَكُون مَعْنَاهُ أَبْشِرُوا بِدُخُولِ الْجَنَّة . الثَّانِي : أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ لَهُمْ فِي الْآخِرَة



يَعْنِي فِي الدُّنْيَا مِنْ الصَّالِحَات .
هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَسورة النحل الآية رقم 33
هَذَا رَاجِع إِلَى الْكُفَّار , أَيْ مَا يَنْتَظِرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلَائِكَة لِقَبْضِ أَرْوَاحهمْ وَهُمْ ظَالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ . وَقَرَأَ الْأَعْمَش وَابْن وَثَّاب وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ وَخَلَف " يَأْتِيهمْ الْمَلَائِكَة " بِالْيَاءِ . وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ .


أَيْ بِالْعَذَابِ مِنْ الْقَتْل كَيَوْمِ بَدْر , أَوْ الزَّلْزَلَة وَالْخَسْف فِي الدُّنْيَا . وَقِيلَ : الْمُرَاد يَوْم الْقِيَامَة . وَالْقَوْم لَمْ يَنْتَظِرُوا هَذِهِ الْأَشْيَاء لِأَنَّهُمْ مَا آمَنُوا بِهَا , وَلَكِنَّ اِمْتِنَاعهمْ عَنْ الْإِيمَان أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ الْعَذَاب , فَأُضِيفَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ , أَيْ عَاقِبَتهمْ الْعَذَاب .


أَيْ أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْر فَأَتَاهُمْ أَمْر اللَّه فَهَلَكُوا .



أَيْ مَا ظَلَمَهُمْ اللَّه بِتَعْذِيبِهِمْ وَإِهْلَاكهمْ , وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسهمْ بِالشِّرْكِ .
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَسورة النحل الآية رقم 34
قِيلَ : فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير ; التَّقْدِير : كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلهمْ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَات مَا عَمِلُوا , وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّه وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسهمْ يَظْلِمُونَ , فَأَصَابَهُمْ عُقُوبَات كُفْرهمْ وَجَزَاء الْخَبِيث مِنْ أَعْمَالهمْ .


أَيْ أَحَاطَ بِهِمْ وَدَارَ .


أَيْ عِقَاب اِسْتِهْزَائِهِمْ .
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُسورة النحل الآية رقم 35
أَيْ شَيْئًا , و " مِنْ " صِلَة . قَالَ الزَّجَّاج : قَالُوهُ اِسْتِهْزَاء , وَلَوْ قَالُوهُ عَنْ اِعْتِقَاد لَكَانُوا مُؤْمِنِينَ . وَأَخْبَرَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِالْغَيْبِ عَمَّا سَيَقُولُونَهُ ; وَظَنُّوا أَنَّ هَذَا مُتَمَسَّك لَهُمْ لَمَّا لَزِمَتْهُمْ الْحُجَّة وَتَيَقَّنُوا بَاطِل مَا كَانُوا عَلَيْهِ . وَالْمَعْنَى : لَوْ شَاءَ اللَّه لَأَرْسَلَ إِلَى آبَائِنَا رَسُولًا فَنَهَاهُمْ عَنْ الشِّرْك وَعَنْ تَحْرِيم مَا أَحَلَّ لَهُمْ فَيَنْتَهُوا فَأَتْبَعْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ .


أَيْ مِثْل هَذَا التَّكْذِيب وَالِاسْتِهْزَاء فِعْل مَنْ كَانَ قَبْلهمْ بِالرُّسُلِ فَأُهْلِكُوا .


أَيْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ إِلَّا التَّبْلِيغ , وَأَمَّا الْهِدَايَة فَهِيَ إِلَى اللَّه تَعَالَى .
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَسورة النحل الآية رقم 36
أَيْ بِأَنْ اُعْبُدُوا اللَّه وَوَحِّدُوهُ .


أَيْ اُتْرُكُوا كُلّ مَعْبُود دُون اللَّه كَالشَّيْطَانِ وَالْكَاهِن وَالصَّنَم , وَكُلّ مَنْ دَعَا إِلَى الضَّلَال .


أَيْ أَرْشَدَهُ إِلَى دِينه وَعِبَادَته .


أَيْ بِالْقَضَاءِ السَّابِق عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ عَلَى كُفْره , وَهَذَا يَرُدّ عَلَى الْقَدَرِيَّة ; لِأَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ اللَّه هَدَى النَّاس كُلّهمْ وَوَفَّقَهُمْ لِلْهُدَى , وَاَللَّه تَعَالَى يَقُول : " فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّه وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَة " وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي غَيْر مَوْضِع


أَيْ فَسِيرُوا مُعْتَبِرِينَ فِي الْأَرْض


أَيْ كَيْفَ صَارَ آخِر أَمْرهمْ إِلَى الْخَرَاب وَالْعَذَاب وَالْهَلَاك .
إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَسورة النحل الآية رقم 37
أَيْ إِنْ تَطْلُب يَا مُحَمَّد بِجَهْدِك هُدَاهُمْ .



أَيْ لَا يُرْشِد مَنْ أَضَلَّهُ , أَيْ مَنْ سَبَقَ لَهُ مِنْ اللَّه الضَّلَالَة لَمْ يَهْدِهِ . وَهَذِهِ قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود وَأَهْل الْكُوفَة . " فَيَهْدِي " فِعْل مُسْتَقْبَل وَمَاضِيه هَدَى . و " مَنْ " فِي مَوْضِع نَصْب " بِيَهْدِي " وَيَجُوز أَنْ يَكُون هَدَى يَهْدِي بِمَعْنَى اِهْتَدَى يَهْتَدِي , رَوَاهُ أَبُو عُبَيْد عَنْ الْفَرَّاء قَالَ : كَمَا قُرِئَ " أَمَّنْ لَا يَهْدِي إِلَّا أَنْ يُهْدَى " [ يُونُس : 35 ] بِمَعْنَى يَهْتَدِي . قَالَ أَبُو عُبَيْد : وَلَا نَعْلَم أَحَدًا رَوَى هَذَا غَيْر الْفَرَّاء , وَلَيْسَ بِمُتَّهَمٍ فِيمَا يَحْكِيه النَّحَّاس : حُكِيَ لِي عَنْ مُحَمَّد بْن يَزِيد كَأَنَّ مَعْنَى " لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلّ " مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ مِنْهُ وَسَبَقَ ذَلِكَ لَهُ عِنْده , قَالَ : وَلَا يَكُون يَهْدِي بِمَعْنَى يَهْتَدِي إِلَّا أَنْ يَكُون يُهْدِي أَوْ يَهْدِي . وَعَلَى قَوْل الْفَرَّاء " يَهْدِي " بِمَعْنَى يَهْتَدِي , فَيَكُون " مَنْ " فِي مَوْضِع رَفْع , وَالْعَائِد إِلَى " مَنْ " الْهَاء الْمَحْذُوفَة مِنْ الصِّلَة , وَالْعَائِد إِلَى اِسْم " إِنَّ " الضَّمِير الْمُسْتَكِنّ فِي " يُضِلّ " . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ " لَا يُهْدَى " بِضَمِّ الْيَاء وَفَتْح الدَّال , وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْد وَأَبُو حَاتِم , عَلَى مَعْنَى مَنْ أَضَلَّهُ اللَّه لَمْ يَهْدِهِ هَادٍ ; دَلِيله قَوْله : " مَنْ يُضْلِلْ اللَّه فَلَا هَادِيَ لَهُ " [ الْأَعْرَاف : 186 ] و " مَنْ " فِي مَوْضِع رَفْع عَلَى أَنَّهُ اِسْم مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله , وَهِيَ بِمَعْنَى الَّذِي , وَالْعَائِد عَلَيْهَا مِنْ صِلَتهَا مَحْذُوف , وَالْعَائِد عَلَى اِسْم إِنَّ مِنْ " فَإِنَّ اللَّه " الضَّمِير الْمُسْتَكِنّ فِي " يُضِلّ " .
وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَسورة النحل الآية رقم 38
هَذَا تَعْجِيب مِنْ صُنْعهمْ , إِذْ أَقْسَمُوا بِاَللَّهِ وَبَالَغُوا فِي تَغْلِيظ الْيَمِين بِأَنَّ اللَّه لَا يَبْعَث مَنْ يَمُوت . وَوَجْه التَّعْجِيب أَنَّهُمْ يُظْهِرُونَ تَعْظِيم اللَّه فَيُقْسِمُونَ بِهِ ثُمَّ يُعَجِّزُونَهُ عَنْ بَعْث الْأَمْوَات . وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة : كَانَ لِرَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مُشْرِك دَيْن فَتَقَاضَاهُ , وَكَانَ فِي بَعْض كَلَامه : وَاَلَّذِي أَرْجُوهُ بَعْد الْمَوْت إِنَّهُ لَكَذَا , فَأَقْسَمَ الْمُشْرِك بِاَللَّهِ : لَا يَبْعَث اللَّه مَنْ يَمُوت ; فَنَزَلَتْ الْآيَة . وَقَالَ قَتَادَة : ذُكِرَ لَنَا أَنَّ اِبْن عَبَّاس قَالَ لَهُ رَجُل : يَا ابْن عَبَّاس , إِنَّ نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّ عَلِيًّا مَبْعُوث بَعْد الْمَوْت قَبْل السَّاعَة , وَيَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَة . فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : كَذَبَ أُولَئِكَ ! إِنَّمَا هَذِهِ الْآيَة عَامَّة لِلنَّاسِ , لَوْ كَانَ عَلِيّ مَبْعُوثًا قَبْل الْقِيَامَة مَا نَكَحْنَا نِسَاءَهُ وَلَا قَسَمْنَا مِيرَاثه .


هَذَا رَدّ عَلَيْهِمْ ; أَيْ بَلَى لَيَبْعَثَنَّهُمْ .


مَصْدَر مُؤَكَّد ; لِأَنَّ قَوْله " يَبْعَثهُمْ " يَدُلّ عَلَى الْوَعْد , أَيْ وَعَدَ الْبَعْث وَعْدًا حَقًّا .



أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ . وَفِي الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( قَالَ اللَّه تَعَالَى كَذَّبَنِي اِبْن آدَم وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ فَأَمَّا تَكْذِيبه إِيَّايَ فَقَوْله لَنْ يُعِيدنِي كَمَا بَدَأَنِي وَأَمَّا شَتْمه إِيَّايَ فَقَوْله اِتَّخَذَ اللَّه وَلَدًا وَأَنَا الْأَحَد الصَّمَد لَمْ يَلِد وَلَمْ يُولَد وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد ) . وَقَدْ تَقَدَّمَ وَيَأْتِي
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَسورة النحل الآية رقم 39
أَيْ لِيُظْهِر لَهُمْ .


أَيْ مِنْ أَمْر الْبَعْث .


بِالْبَعْثِ وَأَقْسَمُوا عَلَيْهِ


وَقِيلَ : الْمَعْنَى وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلّ أُمَّة رَسُولًا لِيُبَيِّن لَهُمْ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ , وَاَلَّذِي اِخْتَلَفَ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُسْلِمُونَ أُمُور : مِنْهَا الْبَعْث , وَمِنْهَا عِبَادَة الْأَصْنَام , وَمِنْهَا إِقْرَار قَوْم بِأَنَّ مُحَمَّدًا حَقّ وَلَكِنْ مَنَعَهُمْ مِنْ اِتِّبَاعه التَّقْلِيد ; كَأَبِي طَالِب .
إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُسورة النحل الآية رقم 40
أَعْلَمَهُمْ سُهُولَة الْخَلْق عَلَيْهِ , أَيْ إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نَبْعَث مَنْ يَمُوت فَلَا تَعَب عَلَيْنَا وَلَا نَصَب فِي إِحْيَائِهِمْ , وَلَا فِي غَيْر ذَلِكَ مِمَّا نُحْدِثهُ ; لِأَنَّا إِنَّمَا نَقُول لَهُ كُنْ فَيَكُون . قِرَاءَة اِبْن عَامِر وَالْكِسَائِيّ " فَيَكُونَ " نَصْبًا عَطْفًا عَلَى أَنْ نَقُول . وَقَالَ الزَّجَّاج : يَجُوز أَنْ يَكُون نَصْبًا عَلَى جَوَاب " كُنْ " . الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى مَعْنَى فَهُوَ يَكُون . وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِيهِ فِي " الْبَقَرَة " مُسْتَوْفًى وَقَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ : أَوْقَعَ لَفْظ الشَّيْء عَلَى الْمَعْلُوم عِنْد اللَّه قَبْل الْخَلْق لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا وُجِدَ وَشُوهِدَ . وَفِي الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّ الْقُرْآن غَيْر مَخْلُوق ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْله : " كُنْ " مَخْلُوقًا لَاحْتَاجَ إِلَى قَوْل ثَانٍ , وَالثَّانِي إِلَى ثَالِث وَتَسَلْسَلَ وَكَانَ مُحَالًا . وَفِيهَا دَلِيل عَلَى أَنَّ اللَّه سُبْحَانه مُرِيد لِجَمِيعِ الْحَوَادِث كُلّهَا خَيْرهَا وَشَرّهَا نَفْعهَا وَضُرّهَا ; وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَنْ يُرَى فِي سُلْطَانه مَا يَكْرَههُ وَلَا يُرِيدهُ فَلِأَحَدِ شَيْئَيْنِ : إِمَّا لِكَوْنِهِ جَاهِلًا لَا يَدْرِي , وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مَغْلُوبًا لَا يُطِيق , وَلَا يَجُوز ذَلِكَ فِي وَصْفه سُبْحَانه , وَقَدْ قَامَ الدَّلِيل عَلَى أَنَّهُ خَالِق لِاكْتِسَابِ الْعِبَاد , وَيَسْتَحِيل أَنْ يَكُون فَاعِلًا لِشَيْءٍ وَهُوَ غَيْر مُرِيد لَهُ ; لِأَنَّ أَكْثَر أَفْعَالنَا يَحْصُل عَلَى خِلَاف مَقْصُودنَا وَإِرَادَتنَا , فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْحَقّ سُبْحَانه مُرِيدًا لَهَا لَكَانَتْ تِلْكَ الْأَفْعَال تَحْصُل مِنْ غَيْر قَصْد ; وَهَذَا قَوْل الطَّبِيعِيِّينَ , وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُوَحِّدُونَ عَلَى خِلَافه وَفَسَاده .
وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَسورة النحل الآية رقم 41
تَقَدَّمَ فِي " النِّسَاء " مَعْنَى الْهِجْرَة , وَهِيَ تَرْك الْأَوْطَان وَالْأَهْل وَالْقَرَابَة فِي اللَّه أَوْ فِي دِين اللَّه , وَتَرْك السَّيِّئَات . وَقِيلَ : " فِي " بِمَعْنَى اللَّام , أَيْ لِلَّهِ .



أَيْ عُذِّبُوا فِي اللَّه . نَزَلَتْ فِي صُهَيْب وَبِلَال وَخَبَّاب وَعَمَّار , عَذَّبَهُمْ أَهْل مَكَّة حَتَّى قَالُوا لَهُمْ مَا أَرَادُوا , فَلَمَّا خَلَّوْهُمْ هَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَة ; قَالَهُ الْكَلْبِيّ . وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي أَبِي جَنْدَل بْن سُهَيْل . وَقَالَ قَتَادَة : الْمُرَاد أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ظَلَمَهُمْ الْمُشْرِكُونَ بِمَكَّة وَأَخْرَجُوهُمْ حَتَّى لَحِقَ طَائِفَة مِنْهُمْ بِالْحَبَشَةِ ; ثُمَّ بَوَّأَهُمْ اللَّه تَعَالَى دَار الْهِجْرَة وَجَعَلَ لَهُمْ أَنْصَارًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ . وَالْآيَة تَعُمّ الْجَمِيع .



فِي الْحَسَنَة سِتَّة أَقْوَال :

الْأَوَّل : نُزُول الْمَدِينَة ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن وَالشَّعْبِيّ وَقَتَادَة .

الثَّانِي : الرِّزْق الْحَسَن ; قَالَهُ مُجَاهِد .

الثَّالِث : النَّصْر عَلَى عَدُوّهُمْ ; قَالَهُ الضَّحَّاك .

الرَّابِع : إِنَّهُ لِسَان صِدْق ; حَكَاهُ اِبْن جُرَيْج .

الْخَامِس : مَا اِسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ مِنْ فُتُوح الْبِلَاد وَصَارَ لَهُمْ فِيهَا مِنْ الْوِلَايَات .

السَّادِس : مَا بَقِيَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ الثَّنَاء , وَمَا صَارَ فِيهَا لِأَوْلَادِهِمْ مِنْ الشَّرَف . وَكُلّ ذَلِكَ اِجْتَمَعَ لَهُمْ بِفَضْلِ اللَّه , وَالْحَمْد لِلَّهِ .


أَيْ وَلَأَجْر دَار الْآخِرَة أَكْبَر , أَيْ أَكْبَر مِنْ أَنْ يَعْلَمهُ أَحَد قَبْل أَنْ يُشَاهِدهُ ; " وَإِذَا رَأَيْت ثَمَّ رَأَيْت نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا " [ الْإِنْسَان : 20 ]


أَيْ لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ الظَّالِمُونَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ . وَقِيلَ : هُوَ رَاجِع إِلَى الْمُؤْمِنِينَ . أَيْ لَوْ رَأَوْا ثَوَاب الْآخِرَة وَعَايَنُوهُ لَعَلِمُوا أَنَّهُ أَكْبَر مِنْ حَسَنَة الدُّنْيَا . وَرُوِيَ أَنَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَانَ إِذَا دَفَعَ إِلَى الْمُهَاجِرِينَ الْعَطَاء قَالَ : هَذَا مَا وَعَدَكُمْ اللَّه فِي الدُّنْيَا وَمَا ادَّخَرَ لَكُمْ فِي الْآخِرَة أَكْثَر ; ثُمَّ تَلَا عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْآيَة .
الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَسورة النحل الآية رقم 42
قِيلَ : " الَّذِينَ " بَدَل مِنْ " الَّذِينَ " الْأَوَّل . وَقِيلَ : مِنْ الضَّمِير فِي " لَنُبَوِّئَنَّهُمْ " وَقِيلَ : هُمْ الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى دِينهمْ . " وَعَلَى رَبّهمْ يَتَوَكَّلُونَ " فِي كُلّ أُمُورهمْ . وَقَالَ بَعْض أَهْل التَّحْقِيق : خِيَار الْخَلْق مَنْ إِذَا نَابَهُ أَمْر صَبَرَ , وَإِذَا عَجَزَ عَنْ أَمْر تَوَكَّلَ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبّهمْ يَتَوَكَّلُونَ " .
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَسورة النحل الآية رقم 43
قِرَاءَة الْعَامَّة " يُوحَى " بِالْيَاءِ وَفَتْح الْحَاء . وَقَرَأَ حَفْص عَنْ عَاصِم " نُوحِي إِلَيْهِمْ " بِنُونِ الْعَظَمَة وَكَسْر الْحَاء . نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي مَكَّة حَيْثُ أَنْكَرُوا نُبُوَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا : اللَّه أَعْظَم مِنْ أَنْ يَكُون رَسُوله بَشَرًا , فَهَلَّا بَعَثَ إِلَيْنَا مَلَكًا ; فَرَدَّ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ : " وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلك " إِلَى الْأُمَم الْمَاضِيَة يَا مُحَمَّد " إِلَّا رِجَالًا " آدَمِيِّينَ .



قَالَ سُفْيَان : يَعْنِي مُؤْمِنِي أَهْل الْكِتَاب . وَقِيلَ : الْمَعْنَى فَاسْأَلُوا أَهْل الْكِتَاب فَإِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا فَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الرُّسُل كَانُوا مِنْ الْبَشَر . رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : أَهْل الذِّكْر أَهْل الْقُرْآن . وَقِيلَ : أَهْل الْعِلْم , وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب .


يُخْبِرُونَكُمْ أَنَّ جَمِيع الْأَنْبِيَاء كَانُوا بَشَرًا .
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَسورة النحل الآية رقم 44
قِيلَ : " بِالْبَيِّنَاتِ , مُتَعَلِّق " بِأَرْسَلْنَا " . وَفِي الْكَلَام تَقْدِيم وَتَأْخِير , أَيْ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلك بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُر إِلَّا رِجَالًا - أَيْ غَيْر رِجَال , " فَإِلَّا " بِمَعْنَى غَيْر ; كَقَوْلِهِ : لَا إِلَه إِلَّا اللَّه , وَهَذَا قَوْل الْكَلْبِيّ - نُوحِي إِلَيْهِمْ . وَقِيلَ : فِي الْكَلَام حَذْف دَلَّ عَلَيْهِ " أَرْسَلْنَا " أَيْ أَرْسَلْنَاهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُر . وَلَا يَتَعَلَّق " بِالْبَيِّنَاتِ " " بِأَرْسَلْنَا " الْأَوَّل عَلَى هَذَا الْقَوْل ; لِأَنَّ مَا قَبْل " إِلَّا " لَا يَعْمَل فِيمَا بَعْدهَا , وَإِنَّمَا يَتَعَلَّق بِأَرْسَلْنَا الْمُقَدَّرَة , أَيْ أَرْسَلْنَاهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ . وَقِيلَ : مَفْعُول " بِتَعْلَمُونَ " وَالْبَاء زَائِدَة , أَوْ نُصِبَ بِإِضْمَارِ أَعْنِي ; كَمَا قَالَ الْأَعْشَى : وَلَيْسَ مُجِيرًا إِنْ أَتَى الْحَيّ خَائِف وَلَا قَائِلًا إِلَّا هُوَ الْمُتَعَيَّبَا أَيْ أَعْنِي الْمُتَعَيَّب . وَالْبَيِّنَات : الْحُجَج وَالْبَرَاهِين . وَالزُّبُر : الْكُتُب . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آل عِمْرَان


يَعْنِي الْقُرْآن .


فِي هَذَا الْكِتَاب مِنْ الْأَحْكَام وَالْوَعْد وَالْوَعِيد بِقَوْلِك وَفِعْلك ; فَالرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبِين عَنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مُرَاده مِمَّا أَجْمَلَهُ فِي كِتَابه مِنْ أَحْكَام الصَّلَاة وَالزَّكَاة , وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُفَصِّلهُ .


فَيَتَّعِظُونَ .
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَسورة النحل الآية رقم 45
أَيْ بِالسَّيِّئَاتِ , وَهَذَا وَعِيد لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اِحْتَالُوا فِي إِبْطَال الْإِسْلَام .


قَالَ اِبْن عَبَّاس : كَمَا خَسَفَ بِقَارُون , يُقَال : خَسَفَ الْمَكَان يَخْسِف خُسُوفًا ذَهَبَ فِي الْأَرْض , وَخَسَفَ اللَّه بِهِ الْأَرْض خُسُوفًا أَيْ غَابَ بِهِ فِيهَا ; وَمِنْهُ قَوْله : " فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْض " [ الْقَصَص : 81 ] . وَخَسَفَ هُوَ فِي الْأَرْض وَخُسِفَ بِهِ . وَالِاسْتِفْهَام بِمَعْنَى الْإِنْكَار ; أَيْ يَجِب أَلَّا يَأْمَنُوا عُقُوبَة تَلْحَقهُمْ كَمَا لَحِقَتْ الْمُكَذِّبِينَ .


كَمَا فُعِلَ بِقَوْمِ لُوط وَغَيْرهمْ . يُرِيد يَوْم بَدْر ; فَإِنَّهُمْ أُهْلِكُوا ذَلِكَ الْيَوْم , وَلَمْ يَكُنْ شَيْء مِنْهُ فِي حِسَابهمْ .
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَسورة النحل الآية رقم 46
أَيْ فِي أَسْفَارهمْ وَتَصَرُّفهمْ ; قَالَهُ قَتَادَة . وَقِيلَ : " فِي تَقَلُّبهمْ " عَلَى فِرَاشهمْ أَيْنَمَا كَانُوا . وَقَالَ الضَّحَّاك : بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار .


أَيْ مُسَابِقِينَ اللَّه وَلَا فَائِتِيهِ .
أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌسورة النحل الآية رقم 47
قَالَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَغَيْرهمْ أَيْ عَلَى تَنَقُّص مِنْ أَمْوَالهمْ وَمَوَاشِيهمْ وَزُرُوعهمْ . وَكَذَا قَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ : أَيْ عَلَى تَنَقُّص مِنْ الْأَمْوَال وَالْأَنْفُس وَالثَّمَرَات حَتَّى أَهْلَكَهُمْ كُلّهمْ . وَقَالَ الضَّحَّاك : هُوَ مِنْ الْخَوْف ; الْمَعْنَى : يَأْخُذ طَائِفَة وَيَدَع طَائِفَة , فَتَخَاف الْبَاقِيَة أَنْ يَنْزِل بِهَا مَا نَزَلَ بِصَاحِبَتِهَا . وَقَالَ الْحَسَن : " عَلَى تَخَوُّف " أَنْ يَأْخُذ الْقَرْيَة فَتَخَافهُ الْقَرْيَة الْأُخْرَى , وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْقَوْل الَّذِي قَبْله بِعَيْنِهِ , وَهُمَا رَاجِعَانِ إِلَى الْمَعْنَى الْأَوَّل , وَأَنَّ التَّخَوُّف التَّنَقُّص ; تَخَوُّفه تَنَقُّصه , وَتَخَوَّفَهُ الدَّهْر وَتَخَوَّنَهُ - بِالْفَاءِ وَالنُّون - بِمَعْنًى ; يُقَال : تَخَوَّنَنِي فُلَان حَقِّي إِذَا تَنَقَّصَك . قَالَ ذُو الرُّمَّة : لَا , بَلْ هُوَ الشَّوْق مِنْ دَار تَخَوَّنَهَا مَرًّا سَحَاب وَمَرًّا بَارِح تَرِب وَقَالَ لَبِيد : تَخَوَّنَهَا نُزُولِي وَارْتِحَالِي أَيْ تَنَقَّصَ لَحْمهَا وَشَحْمهَا . وَقَالَ الْهَيْثَم بْن عَدِيّ : التَّخَوُّف " بِالْفَاءِ " التَّنَقُّص , لُغَة لِأَزْدِشَنُوءَةَ . وَأَنْشَدَ : تَخَوَّفَ غَدْرهمْ مَالِي وَأَهْدَى سَلَاسِل فِي الْحُلُوق لَهَا صَلِيل وَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب : بَيْنَمَا عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَلَى الْمِنْبَر قَالَ : يَا أَيّهَا النَّاس , مَا تَقُولُونَ فِي قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " أَوْ يَأْخُذهُمْ عَلَى تَخَوُّف " فَسَكَتَ النَّاس , فَقَالَ شَيْخ مِنْ بَنِي هُذَيْل : هِيَ لُغَتنَا يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ , التَّخَوُّف التَّنَقُّص . فَخَرَجَ رَجُل فَقَالَ : يَا فُلَان , مَا فَعَلَ دَيْنك ؟ قَالَ : تَخَوَّفْته , أَيْ تَنَقَّصْته ; فَرَجَعَ فَأَخْبَرَ عُمَر فَقَالَ عُمَر : أَتَعْرِفُ الْعَرَب ذَلِكَ فِي أَشْعَارهمْ ؟ قَالَ نَعَمْ ; قَالَ شَاعِرنَا أَبُو كَبِير الْهُذَلِيّ يَصِف نَاقَة تَنَقَّصَ السَّيْر سَنَامهَا بَعْد تَمْكه وَاكْتِنَازه : تَخَوَّفَ الرَّحْل مِنْهَا تَامِكًا قَرِدًا كَمَا تَخَوَّفَ عُود النَّبْعَة السَّفَن فَقَالَ عُمَر : يَا أَيّهَا النَّاس , عَلَيْكُمْ بِدِيوَانِكُمْ شِعْر الْجَاهِلِيَّة فَإِنَّ فِيهِ تَفْسِير كِتَابكُمْ وَمَعَانِي كَلَامكُمْ . تَمَكَ السَّنَام يَتْمِك تَمْكًا , أَيْ طَالَ وَارْتَفَعَ , فَهُوَ تَامِك . وَالسَّفَن وَالْمِسْفَن مَا يُنْجَر بِهِ الْخَشَب . وَقَالَ اللَّيْث بْن سَعْد : " عَلَى تَخَوُّف " عَلَى عَجَل . وَقَالَ : عَلَى تَقْرِيع بِمَا قَدَّمُوهُ مِنْ ذُنُوبهمْ , وَهَذَا مَرْوِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا . وَقَالَ قَتَادَة : " عَلَى تَخَوُّف " أَنْ يُعَاقِب أَوْ يَتَجَاوَز .


أَيْ لَا يُعَاجِل بَلْ يُمْهِل .
أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَسورة النحل الآية رقم 48
قَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ وَخَلَف وَيَحْيَى وَالْأَعْمَش " تَرَوْا " بِالتَّاءِ , عَلَى أَنَّ الْخِطَاب لِجَمِيعِ النَّاس . الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ خَبَرًا عَنْ الَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَات ; وَهُوَ الِاخْتِيَار .



" مِنْ شَيْء " يَعْنِي مِنْ جِسْم قَائِم لَهُ ظِلّ مِنْ شَجَرَة أَوْ جَبَل ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس . وَإِنْ كَانَتْ الْأَشْيَاء كُلّهَا سَمِيعَة مُطِيعَة لِلَّهِ تَعَالَى .



" يَتَفَيَّأ ظِلَاله " قَرَأَ أَبُو عَمْرو وَيَعْقُوب وَغَيْرهمَا بِالتَّاءِ لِتَأْنِيثِ الظِّلَال . الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ , وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْد . أَيْ يَمِيل مِنْ جَانِب إِلَى جَانِب , وَيَكُون أَوَّل النَّهَار عَلَى حَال وَيَتَقَلَّص ثُمَّ يَعُود فِي آخِر النَّهَار عَلَى حَالَة أُخْرَى ; فَدَوَرَانهَا وَمَيَلَانهَا مِنْ مَوْضِع إِلَى مَوْضِع سُجُودهَا ; وَمِنْهُ قِيلَ لِلظِّلِّ بِالْعَشِيِّ : فَيْء ; لِأَنَّهُ فَاءَ مِنْ الْمَغْرِب إِلَى الْمَشْرِق , أَيْ رَجَعَ . وَالْفَيْء الرُّجُوع ; وَمِنْهُ " حَتَّى تَفِيء إِلَى أَمْر اللَّه " [ الْحُجُرَات : 9 ] . رُوِيَ مَعْنَى هَذَا الْقَوْل عَنْ الضَّحَّاك وَقَتَادَة وَغَيْرهمَا , وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَة " الرَّعْد " وَقَالَ الزَّجَّاج : يَعْنِي سُجُود الْجِسْم , وَسُجُوده اِنْقِيَاده وَمَا يَرَى فِيهِ مِنْ أَثَر الصَّنْعَة , وَهَذَا عَامّ فِي كُلّ جِسْم .

وَوَحَّدَ الْيَمِين فِي قَوْله : " عَنْ الْيَمِين " وَجَمَعَ الشِّمَال ; لِأَنَّ مَعْنَى الْيَمِين وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا الْجَمْعُ . وَلَوْ قَالَ : عَنْ الْأَيْمَان وَالشَّمَائِل , وَالْيَمِين وَالشَّمَائِل , أَوْ الْيَمِين وَالشِّمَال , أَوْ الْأَيْمَان وَالشِّمَال لَجَازَ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى لِلْكَثْرَةِ . وَأَيْضًا فَمِنْ شَأْن الْعَرَب إِذَا اِجْتَمَعَتْ عَلَامَتَانِ فِي شَيْء وَاحِد أَنْ تَجْمَع إِحْدَاهُمَا وَتُفْرِد الْأُخْرَى ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " خَتَمَ اللَّه عَلَى قُلُوبهمْ وَعَلَى سَمْعهمْ " [ الْبَقَرَة : 7 ] وَكَقَوْلِهِ : " وَيُخْرِجهُمْ مِنْ الظُّلُمَات إِلَى النُّور " [ الْمَائِدَة : 16 ] وَلَوْ قَالَ عَلَى أَسْمَاعهمْ وَإِلَى الْأَنْوَار لَجَازَ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون رَدّ الْيَمِين عَلَى لَفْظ " مَا " وَالشِّمَال عَلَى مَعْنَاهَا . وَمِثْل هَذَا فِي الْكَلَام كَثِير . قَالَ الشَّاعِر : الْوَارِدُونَ وَتَيْم فِي ذُرَا سَبَإٍ قَدْ عَضَّ أَعْنَاقهمْ جِلْد الْجَوَامِيس وَلَمْ يَقُلْ جُلُود . وَقِيلَ : وَحَّدَ الْيَمِين لِأَنَّ الشَّمْس إِذَا طَلَعَتْ وَأَنْتَ مُتَوَجِّه إِلَى الْقِبْلَة اِنْبَسَطَ الظِّلّ عَنْ الْيَمِين ثُمَّ فِي حَال يَمِيل إِلَى جِهَة الشِّمَال ثُمَّ حَالَات , فَسَمَّاهَا شَمَائِل .



أَيْ خَاضِعُونَ صَاغِرُونَ . وَالدُّخُور : الصَّغَار وَالذُّلّ . يُقَال : دَخَرَ الرَّجُل - بِالْفَتْحِ - فَهُوَ دَاخِر , وَأَدْخَرَهُ اللَّه . وَقَالَ ذُو الرُّمَّة : فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا دَاخِر فِي مُخَيِّس وَمُنْجَحِر فِي غَيْر أَرْضك فِي جُحْر كَذَا نَسَبَهُ الْمَاوَرْدِيّ لِذِي الرُّمَّة , وَنَسَبَهُ الْجَوْهَرِيّ لِلْفَرَزْدَقِ وَقَالَ : الْمُخَيِّس اِسْم سِجْن كَانَ بِالْعِرَاقِ ; أَيْ مَوْضِع التَّذَلُّل , وَقَالَ . أَمَا تَرَانِي كَيِّسًا مُكَيِّسًا بَنَيْت بَعْد نَافِع مُخَيَّسًا
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَسورة النحل الآية رقم 49
أَيْ مِنْ كُلّ مَا يَدِبّ عَلَى الْأَرْض .



يَعْنِي الْمَلَائِكَة الَّذِينَ فِي الْأَرْض , وَإِنَّمَا أَفْرَدَهُمْ بِالذِّكْرِ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِشَرَفِ الْمَنْزِلَة , فَمَيَّزَهُمْ مِنْ صِفَة الدَّبِيب بِالذِّكْرِ وَإِنْ دَخَلُوا فِيهَا ; كَقَوْلِهِ : " فِيهِمَا فَاكِهَة وَنَخْل وَرُمَّان " [ الرَّحْمَن : 68 ] . وَقِيلَ : لِخُرُوجِهِمْ مِنْ جُمْلَة مَا يَدِبّ لِمَا جَعَلَ اللَّه لَهُمْ مِنْ الْأَجْنِحَة , فَلَمْ يَدْخُلُوا فِي الْجُمْلَة فَلِذَلِكَ ذَكَرُوا . وَقِيلَ : أَرَادَ " وَلِلَّهِ يَسْجُد مَنْ فِي السَّمَوَات " مِنْ الْمَلَائِكَة وَالشَّمْس وَالْقَمَر وَالنُّجُوم وَالرِّيَاح وَالسَّحَاب , " وَمَا فِي الْأَرْض مِنْ دَابَّة " وَتَسْجُد مَلَائِكَة الْأَرْض .



عَنْ عِبَادَة رَبّهمْ . وَهَذَا رَدّ عَلَى قُرَيْش حَيْثُ زَعَمُوا أَنَّ الْمَلَائِكَة بَنَات اللَّه .
يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَسورة النحل الآية رقم 50
أَيْ عِقَاب رَبّهمْ وَعَذَابه , لِأَنَّ الْعَذَاب الْمُهْلِك إِنَّمَا يَنْزِل مِنْ السَّمَاء . وَقِيلَ : الْمَعْنَى يَخَافُونَ قُدْرَة رَبّهمْ الَّتِي هِيَ فَوْق قُدْرَتهمْ ; فَفِي الْكَلَام حَذْف . وَقِيلَ : مَعْنَى " يَخَافُونَ رَبّهمْ مِنْ فَوْقهمْ " يَعْنِي الْمَلَائِكَة , يَخَافُونَ رَبّهمْ وَهِيَ مِنْ فَوْق مَا فِي الْأَرْض مِنْ دَابَّة وَمَعَ ذَلِكَ يَخَافُونَ ; فَلِأَنْ يَخَاف مَنْ دُونهمْ أَوْلَى ; دَلِيل هَذَا الْقَوْل قَوْله تَعَالَى : " وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ "



يَعْنِي الْمَلَائِكَة .
وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِسورة النحل الآية رقم 51
يَعْنِي ذَاته الْمُقَدَّسَة . وَقَدْ قَامَ الدَّلِيل الْعَقْلِيّ وَالشَّرْعِيّ عَلَى وَحْدَانِيّته حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " بَيَانه وَذَكَرْنَاهُ فِي اِسْمه الْوَاحِد فِي شَرْح الْأَسْمَاء وَالْحَمْد لِلَّهِ .


أَيْ خَافُونِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة "
وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَسورة النحل الآية رقم 52
الدِّين : الطَّاعَة وَالْإِخْلَاص . و " وَاصِبًا " مَعْنَاهُ دَائِمًا ; قَالَهُ الْفَرَّاء , حَكَاهُ الْجَوْهَرِيّ . وَصَبَ الشَّيْء يَصِب وُصُوبًا , أَيْ دَامَ . وَوَصَبَ الرَّجُل عَلَى الْأَمْر إِذَا وَاظَبَ عَلَيْهِ . وَالْمَعْنَى : طَاعَة اللَّه وَاجِبَة أَبَدًا . وَمِمَّنْ قَالَ وَاصِبًا دَائِمًا : الْحَسَن وَمُجَاهِد وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَلَهُمْ عَذَاب وَاصِب " [ الصَّافَّات : 9 ] أَيْ دَائِم . وَقَالَ الدُّؤَلِيّ : لَا أَبْتَغِي الْحَمْد الْقَلِيل بَقَاؤُهُ بِدَمٍ يَكُون الدَّهْر أَجْمَع وَاصِبا أَنْشَدَ الْغَزْنَوِيّ وَالثَّعْلَبِيّ وَغَيْرهمَا : مَا أَبْتَغِي الْحَمْد الْقَلِيل بَقَاؤُهُ يَوْمًا بِذَمِّ الدَّهْر أَجْمَعَ وَاصِبَا وَقِيلَ : الْوَصَب التَّعَب وَالْإِعْيَاء ; أَيْ تَجِب طَاعَة اللَّه وَإِنْ تَعِبَ الْعَبْد فِيهَا . وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : لَا يَمَسّك السَّاق مِنْ أَيْنَ وَلَا وَصَب وَلَا يَعَضّ عَلَى شُرْسُوفِهِ الصُّفْر وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : " وَاصِبًا " وَاجِبًا . الْفَرَّاء وَالْكَلْبِيّ : خَالِصًا .


أَيْ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَتَّقُوا غَيْر اللَّه . " فَغَيْر " نُصِبَ ب " تَتَّقُونَ " .
وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَسورة النحل الآية رقم 53
قَالَ الْفَرَّاء . " مَا " بِمَعْنَى الْجَزَاء . وَالْبَاء فِي " بِكُمْ " مُتَعَلِّقَة بِفِعْلٍ مُضْمَر , تَقْدِيره : وَمَا يَكُنْ بِكُمْ . " مِنْ نِعْمَة " أَيْ صِحَّة جِسْم وَسَعَة رِزْق وَوَلَد فَمِنْ اللَّه . وَقِيلَ : الْمَعْنَى وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَة فَمِنْ اللَّه هِيَ .


أَيْ السَّقَم وَالْبَلَاء وَالْقَحْط .


أَيْ تَضِجُّونَ بِالدُّعَاءِ . يُقَال : جَأَرَ يَجْأَر جُؤَارًا . وَالْجُؤَار مِثْل الْخُوَار ; يُقَال : جَأَرَ الثَّوْر يَجْأَر , أَيْ صَاحَ . وَقَرَأَ بَعْضهمْ " عِجْلًا جَسَدًا لَهُ جُؤَار " ; حَكَاهُ الْأَخْفَش . وَجَأَرَ الرَّجُل إِلَى اللَّه , أَيْ تَضَرَّعَ بِالدُّعَاءِ . وَقَالَ الْأَعْشَى يَصِف بَقَرَة : فَطَافَتْ ثَلَاثًا بَيْن يَوْم وَلَيْلَة وَكَانَ النَّكِير أَنْ تُضِيف وَتَجْأَرَا
ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَسورة النحل الآية رقم 54
أَيْ الْبَلَاء وَالسَّقَم .



بَعْد إِزَالَة الْبَلَاء وَبَعْد الْجُؤَار . فَمَعْنَى الْكَلَام التَّعْجِيب مِنْ الْإِشْرَاك بَعْد النَّجَاة مِنْ الْهَلَاك , وَهَذَا الْمَعْنَى مُكَرَّر فِي الْقُرْآن , وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْأَنْعَام وَيُونُس " وَيَأْتِي فِي " سُبْحَان " وَغَيْرهمَا وَقَالَ الزَّجَّاج : هَذَا خَاصّ بِمَنْ كَفَرَ .
لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَسورة النحل الآية رقم 55
أَيْ لِيَجْحَدُوا نِعْمَة اللَّه الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِمْ مِنْ كَشْف الضُّرّ وَالْبَلَاء . أَيْ أَشْرَكُوا لِيَجْحَدُوا , فَاللَّام لَام كَي . وَقِيلَ لَام الْعَاقِبَة . وَقِيلَ : " لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ " أَيْ لِيَجْعَلُوا النِّعْمَة سَبَبًا لِلْكُفْرِ , وَكُلّ هَذَا فِعْل خَبِيث ; كَمَا قَالَ : وَالْكُفْر مَخْبَثَة لِنَفْسِ الْمُنْعِم


أَمْر تَهْدِيد . وَقَرَأَ عَبْد اللَّه " قُلْ تَمَتَّعُوا " .


أَيْ عَاقِبَة أَمْركُمْ .
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَسورة النحل الآية رقم 56
ذَكَرَ نَوْعًا آخَر مِنْ جَهَالَتهمْ , وَأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَضُرّ وَيَنْفَع - وَهِيَ الْأَصْنَام - شَيْئًا مِنْ أَمْوَالهمْ يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَيْهِ ; قَالَهُ مُجَاهِد وَقَتَادَة وَغَيْرهمَا . ف " يَعْلَمُونَ " عَلَى هَذَا لِلْمُشْرِكِينَ . وَقِيلَ هِيَ لِلْأَوْثَانِ , وَجَرَى بِالْوَاوِ وَالنُّون مَجْرَى مَنْ يَعْقِل , فَهُوَ رَدّ عَلَى " مَا " وَمَفْعُول يَعْلَم مَحْذُوف , وَالتَّقْدِير : وَيَجْعَل هَؤُلَاءِ الْكُفَّار لِلْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَعْلَم شَيْئًا نَصِيبًا . وَقَدْ مَضَى فِي " الْأَنْعَام " تَفْسِير هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْله " فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا " [ الْأَنْعَام : 136 ]


رَجَعَ مِنْ الْخَبَر إِلَى الْخِطَاب فَقَالَ : " تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ " وَهَذَا سُؤَال تَوْبِيخ .


أَيْ تَخْتَلِقُونَهُ مِنْ الْكَذِب عَلَى اللَّه أَنَّهُ أَمَرَكُمْ بِهَذَا .
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَسورة النحل الآية رقم 57
نَزَلَتْ فِي خُزَاعَة وَكِنَانَة ; فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ الْمَلَائِكَة بَنَات اللَّه , فَكَانُوا يَقُولُونَ أَلْحَقُوا الْبَنَات بِالْبَنَاتِ .


نَزَّهَ نَفْسه وَعَظَّمَهَا عَمَّا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ مِنْ اِتِّخَاذ الْأَوْلَاد .


أَيْ يَجْعَلُونَ لِأَنْفُسِهِمْ الْبَنِينَ وَيَأْنَفُونَ مِنْ الْبَنَات . وَمَوْضِع " مَا " رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ , وَالْخَبَر " لَهُمْ " وَتَمَّ الْكَلَام عِنْد قَوْله : " سُبْحَانه " . وَأَجَازَ الْفَرَّاء كَوْنهَا نَصْبًا , عَلَى تَقْدِير : وَيَجْعَلُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ . وَأَنْكَرَهُ الزَّجَّاج وَقَالَ : الْعَرَب تَسْتَعْمِل فِي مِثْل هَذَا وَيَجْعَلُونَ لِأَنْفُسِهِمْ .
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌسورة النحل الآية رقم 58
أَيْ أُخْبِرَ أَحَدهمْ بِوِلَادَةِ بِنْت .


أَيْ مُتَغَيِّرًا , وَلَيْسَ يُرِيد السَّوَاد الَّذِي هُوَ ضِدّ الْبَيَاض , وَإِنَّمَا هُوَ كِنَايَة عَنْ غَمّه بِالْبِنْتِ . وَالْعَرَب تَقُول لِكُلِّ مَنْ لَقِيَ مَكْرُوهًا : قَدْ اِسْوَدَّ وَجْهه غَمًّا وَحُزْنًا ; قَالَهُ الزَّجَّاج . وَحَكَى الْمَاوَرْدِيّ أَنَّ الْمُرَاد سَوَاد اللَّوْن قَالَ : وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُور .


أَيْ مُمْتَلِئ مِنْ الْغَمّ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : حَزِين . وَقَالَ الْأَخْفَش : هُوَ الَّذِي يَكْظِم غَيْظه فَلَا يُظْهِرهُ . وَقِيلَ : إِنَّهُ الْمَغْمُوم الَّذِي يُطْبِق فَاهُ فَلَا يَتَكَلَّم مِنْ الْغَمّ ; مَأْخُوذ مِنْ الْكِظَامَة وَهُوَ شَدّ فَم الْقِرْبَة ; قَالَ عَلِيّ بْن عِيسَى . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَة " يُوسُف "
يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَسورة النحل الآية رقم 59
أَيْ يَخْتَفِي وَيَتَغَيَّب .


أَيْ مِنْ سُوء الْحُزْن وَالْعَار وَالْحَيَاء الَّذِي يَلْحَقهُ بِسَبَبِ الْبِنْت .


ذَكَّرَ الْكِنَايَة لِأَنَّهُ مَرْدُود عَلَى " مَا " .



أَيْ هَوَان . وَكَذَا قَرَأَ عِيسَى الثَّقَفِيّ " عَلَى هَوَان " وَالْهُون الْهَوَان بِلُغَةِ قُرَيْش ; قَالَهُ الْيَزِيدِيّ وَحَكَاهُ أَبُو عُبَيْد عَنْ الْكِسَائِيّ . وَقَالَ الْفَرَّاء : هُوَ الْقَلِيل بِلُغَةِ تَمِيم . وَقَالَ الْكِسَائِيّ : هُوَ الْبَلَاء وَالْمَشَقَّة . وَقَالَتْ الْخَنْسَاء : نُهِين النُّفُوس وَهُونُ النُّفُو س يَوْم الْكَرِيهَة أَبْقَى لَهَا وَقَرَأَ الْأَعْمَش " أَيُمْسِكُهُ عَلَى سُوء " ذَكَرَهُ النَّحَّاس , قَالَ : وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيّ " أَمْ يَدُسّهَا فِي التُّرَاب " يَرُدّهُ عَلَى قَوْله : " بِالْأُنْثَى " وَيَلْزَمهُ أَنْ يَقْرَأ " أَيُمْسِكُهَا " . وَقِيلَ : يَرْجِع الْهَوَان إِلَى الْبِنْت ; أَيْ أَيُمْسِكُهَا وَهِيَ مُهَانَة عِنْده . وَقِيلَ : يَرْجِع إِلَى الْمَوْلُود لَهُ ; أَيُمْسِكُهُ عَلَى رَغْم أَنْفه أَمْ يَدُسّهُ فِي التُّرَاب , وَهُوَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ دَفْن الْبِنْت حَيَّة . قَالَ قَتَادَة : كَانَ مُضَر وَخُزَاعَة يَدْفِنُونَ الْبَنَات أَحْيَاء ; وَأَشَدّهمْ فِي هَذَا تَمِيم . زَعَمُوا خَوْف الْقَهْر عَلَيْهِمْ وَطَمَع غَيْر الْأَكْفَاء فِيهِنَّ . وَكَانَ صَعْصَعَة بْن نَاجِيَة عَمّ الْفَرَزْدَق إِذَا أَحَسَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَجَّهَ إِلَى وَالِد الْبِنْت إِبِلًا يَسْتَحْيِيهَا بِذَلِكَ . فَقَالَ الْفَرَزْدَق يَفْتَخِر : وَعَمِّي الَّذِي مَنَعَ الْوَائِدَات وَأَحْيَا الْوَئِيد فَلَمْ يُوأَد وَقِيلَ : دَسّهَا إِخْفَاؤُهَا عَنْ النَّاس حَتَّى لَا تُعْرَف , كَالْمَدْسُوسِ فِي التُّرَاب لِإِخْفَائِهِ عَنْ الْأَبْصَار ; وَهَذَا مُحْتَمَل .

مَسْأَلَة : ثَبَتَ فِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : جَاءَتْنِي اِمْرَأَة وَمَعَهَا اِبْنَتَانِ لَهَا , فَسَأَلَتْنِي فَلَمْ تَجِد عِنْدِي غَيْر تَمْرَة وَاحِدَة , فَأَعْطَيْتهَا إِيَّاهَا فَأَخَذَتْهَا فَقَسَمَتْهَا بَيْن اِبْنَتَيْهَا وَلَمْ تَأْكُل مِنْهَا شَيْئًا , ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ وَابْنَتَاهَا , فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّثْته حَدِيثهَا , فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ اُبْتُلِيَ مِنْ الْبَنَات بِشَيْءٍ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنْ النَّار ) . فَفِي هَذَا الْحَدِيث مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْبَنَات بَلِيَّة , ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ فِي الصَّبْر عَلَيْهِنَّ وَالْإِحْسَان إِلَيْهِنَّ مَا يَقِي مِنْ النَّار . وَعَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : جَاءَتْنِي مِسْكِينَة تَحْمِل اِبْنَتَيْنِ لَهَا , فَأَطْعَمْتهَا ثَلَاث تَمَرَات فَأَعْطَتْ كُلّ وَاحِدَة مِنْهُمَا تَمْرَة , وَرَفَعَتْ إِلَى فِيهَا تَمْرَة لِتَأْكُلهَا فَاسْتَطْعَمَتْهَا اِبْنَتَاهَا فَشَقَّتْ التَّمْرَة الَّتِي كَانَتْ تُرِيد أَنْ تَأْكُلهَا بَيْنهمَا ; فَأَعْجَبَنِي شَأْنهَا , فَذَكَرْت الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّة أَوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنْ النَّار ) . وَعَنْ أَنَس بْن مَالِك قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة أَنَا وَهُوَ ) وَضَمَّ أَصَابِعه , خَرَّجَهُمَا أَيْضًا مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه وَخَرَّجَ أَبُو نُعَيْم الْحَافِظ مِنْ حَدِيث الْأَعْمَش عَنْ أَبِي وَائِل عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ كَانَتْ لَهُ بِنْت فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ أَدَبهَا وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمهَا وَأَسْبَغَ عَلَيْهَا مِنْ نِعَم اللَّه الَّتِي أَسْبَغَ عَلَيْهِ كَانَتْ لَهُ سِتْرًا أَوْ حِجَابًا مِنْ النَّار ) . وَخُطِبَ إِلَى عَقِيل بْن عُلَّفَة اِبْنَته الْجَرْبَاء فَقَالَ : إِنِّي وَإِنْ سِيقَ إِلَيَّ الْمَهْر أَلْف وَعُبْدَان وَخَوْر عَشْر أَحَبّ أَصْهَارِي إِلَيَّ الْقَبْر وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن طَاهِر : لِكُلِّ أَبِي بِنْت يُرَاعِي شُؤُونهَا ثَلَاثَة أَصْهَار إِذَا حُمِدَ الصِّهْر فَبَعْل يُرَاعِيهَا وَخِدْر يُكِنّهَا وَقَبْر يُوَارِيهَا وَخَيْرهمْ الْقَبْر


أَيْ فِي إِضَافَة الْبَنَات إِلَى خَالِقهمْ وَإِضَافَة الْبَنِينَ إِلَيْهِمْ . نَظِيره " أَلَكُمْ الذَّكَر وَلَهُ الْأُنْثَى . تِلْكَ إِذًا قِسْمَة ضِيزَى " [ النَّجْم : 21 ] أَيْ جَائِرَة , وَسَيَأْتِي .
لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُسورة النحل الآية رقم 60
أَيْ لِهَؤُلَاءِ الْوَاصِفِينَ لِلَّهِ الْبَنَات



أَيْ صِفَة السَّوْء مِنْ الْجَهْل وَالْكُفْر . وَقِيلَ : هُوَ وَصْفهمْ اللَّه تَعَالَى بِالصَّاحِبَةِ وَالْوَلَد . وَقِيلَ : أَيْ الْعَذَاب وَالنَّار .



أَيْ الْوَصْف الْأَعْلَى مِنْ الْإِخْلَاص وَالتَّوْحِيد ; قَالَهُ قَتَادَة . وَقِيلَ : أَيْ الصِّفَة الْعُلْيَا بِأَنَّهُ خَالِق رَازِق قَادِر وَمُجَازٍ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : " مَثَل السَّوْء " النَّار , و " الْمَثَل الْأَعْلَى " شَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه . وَقِيلَ : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء . وَقِيلَ : " وَلِلَّهِ الْمَثَل الْأَعْلَى " كَقَوْلِهِ : " اللَّه نُور السَّمَوَات وَالْأَرْض مَثَل نُوره " [ النُّور : 35 ] . فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ أَضَافَ الْمَثَل هُنَا إِلَى نَفْسه وَقَدْ قَالَ : " فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَال " [ النَّحْل : 74 ] فَالْجَوَاب أَنَّ قَوْله : " فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَال " أَيْ الْأَمْثَال الَّتِي تُوجِب الْأَشْبَاه وَالنَّقَائِص ; أَيْ لَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ مَثَلًا يَقْتَضِي نَقْصًا وَتَشْبِيهًا بِالْخَلْقِ . وَالْمَثَل الْأَعْلَى وَصْفه بِمَا لَا شَبِيه لَهُ وَلَا نَظِير , جَلَّ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا .



" الْعَزِيز " مَعْنَاهُ الْمَنِيع الَّذِي لَا يُنَال وَلَا يُغَالَب . وَقَالَ اِبْن كَيْسَان : مَعْنَاهُ الَّذِي لَا يُعْجِزهُ شَيْء ; دَلِيله : " وَمَا كَانَ اللَّه لِيُعْجِزهُ مِنْ شَيْء فِي السَّمَاوَات وَلَا فِي الْأَرْض " . [ فَاطِر : 44 ] . الْكِسَائِيّ : " الْعَزِيز " الْغَالِب ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَعَزَّنِي فِي الْخِطَاب " [ ص : 23 ] وَفِي الْمَثَل : { مَنْ عَزَّ بَزَّ } أَيْ مَنْ غَلَبَ سَلَبَ . وَقِيلَ : " الْعَزِيز " الَّذِي لَا مِثْل لَهُ ; بَيَانه " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء " [ الشُّورَى : 11 ] .



" الْحَكِيم " مَعْنَاهُ الْحَاكِم , وَبَيْنهمَا مَزِيد الْمُبَالَغَة . وَقِيلَ مَعْنَاهُ الْمُحْكِم وَيَجِيء الْحَكِيم عَلَى هَذَا مِنْ صِفَات الْفِعْل , صُرِفَ عَنْ مُفْعِل إِلَى فَعِيل , كَمَا صُرِفَ عَنْ مُسْمِع إِلَى سَمِيع وَمُؤْلِم إِلَى أَلِيم , قَالَهُ اِبْن الْأَنْبَارِيّ . وَقَالَ قَوْم : الْمَانِع مِنْ الْفَسَاد , وَمِنْهُ سُمِّيَتْ حَكَمَة اللِّجَام , لِأَنَّهَا تَمْنَع الْفَرَس مِنْ الْجَرْي وَالذَّهَاب فِي غَيْر قَصْد . قَالَ جَرِير : أَبَنِي حَنِيفَة أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُمْ أَنْ أَغْضَبَا أَيْ اِمْنَعُوهُمْ مِنْ الْفَسَاد . وَقَالَ زُهَيْر : الْقَائِد الْخَيْل مَكْنُوبًا دَوَابِرُهَا قَدْ أُحْكِمَتْ حَكَمَات الْقِدّ وَالْأَبَقَا الْقِدّ : الْجِلْد . وَالْأَبَق : الْقُنَّب . وَالْعَرَب تَقُول : أُحْكِمَ الْيَتِيم عَنْ كَذَا وَكَذَا , يُرِيدُونَ مَنْعَهُ . وَالسُّورَة الْمُحْكَمَة : الْمَمْنُوعَة مِنْ التَّغْيِير وَكُلّ التَّبْدِيل , وَأَنْ يُلْحَق بِهَا مَا يَخْرُج عَنْهَا , وَيُزَاد عَلَيْهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا , وَالْحِكْمَة مِنْ هَذَا , لِأَنَّهَا تَمْنَع صَاحِبهَا مِنْ الْجَهْل . وَيُقَال : أَحْكَمَ الشَّيْء إِذَا أَتْقَنَهُ وَمَنَعَهُ مِنْ الْخُرُوج عَمَّا يُرِيد . فَهُوَ مُحْكِم وَحَكِيم عَلَى التَّكْثِير .
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5